يطرح الأكاديمي والباحث التربوي عدنان الأمين، في كتابه الجديد "إنتاج الفراغ" (الدار العربية للعلوم – ناشرون 2021) إشكالية قلما يتطرق إليها الباحثون في عالمنا العربي، عنيتُ بها النظر النقدي، بل الانتقادي إلى "التقاليد البحثية"، والمضي بالانتقاد إلى الدوافع العميقة لا السطحية للبحث العلمي في مجتمعاتنا العربية، التي لا تعزى بالضرورة إلى الحاجة للتنمية، كما هي الحال في الدول الغربية أو الصناعية المتقدمة.
بل إن أخطر ما في الكتاب الذي يعده المختص في التربية عدنان الأمين، مؤسس الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، أنه يكشف من منظار علمي صارم بطلان عديد من المزاعم والأوهام والوساوس التي كانت ولا تزال تحكم اختيار الأبحاث من قبل الطلاب العرب والأساتذة الجامعيين، مثلما يكشف عن آليات التواطؤ التي تحول دون كشف الأبحاث العلمية عن المشاكل الحساسة ومواطن الضعف في الأوطان العربية، التي تقف حائلاً دون تطور مجتمعاتها ونماء أفرادها وتقدم عمرانها بالتالي. وفي ذلك تتساوى الدول العربية سواء منها ذوات الموارد المادية العالية أو المتخلفة، أو المتراجعة في اقتصادها وتربيتها وأبحاثها شأن لبنان. أما المؤشر في ذلك، بل المدونة بلغة علماء اللسانيات، فهو آلاف الأبحاث العلمية التربوية المنشورة في المجلات، على مدى السنوات العشرين الماضية.
إنتاج المعرفة
ينقسم الكتاب، خمسة أقسام موزعة على التوالي، تفسير الأبحاث، شروط إنتاج المعرفة، الأنماط البحثية الشائعة، البينة على من ادعى، والإنتاج المعرفي التربوي في لبنان. ولئن صيغ الكتاب بلغة أهل الاختصاص، في علم الاجتماع وعلوم التربية الحديثة، واستعان بالعلوم المتداخلة، فإن الكاتب سعى قدر الإمكان إلى تبسيط لغته، وصوغ مباحث كتابه المتكاملة الإثني عشر بغية تنبيهه إلى مكامن الخلل في أمر مصيري في حياة الشعوب الساعية إلى التقدم، وتلك المجاهدة في سبيل بقائها، ما دام أن للبحث العلمي الجدي والجاد، أياً يكن مجاله، أثراً مباشراً على تقدم هذه الأخيرة. هذا من دون أن يتنازل الكاتب عن اعتبار جمهوره الأول عبر هذا الكتاب، هو الباحثون التربويون والعلم اجتماعيون ممن يعنيهم تقدم البحث العلمي في البلدان العربية.
في القسم الأول من الكتاب، يعرض الباحث عدنان الأمين للعلاقة بين البحث العلمي والمجتمع، ويبدأ فيه بالإقرار بحصول تقدم كبير في أعداد الأساتذة الجامعيين، نقلاً عن الباحث أنطوان زحلان، في مقابل التخلف في الإنتاج العلمي، ما أثر سلباً على أحوال التكنولوجيا، وقلص الإنتاج الفعلي للبلدان العربية، وأدى إلى تدهور التنمية فيها بحسب زحلان نفسه. بيد أن الباحث الأمين ينكر ارتباط البحث العلمي بالتنمية الاقتصادية في البلدان العربية، بدليل النمو الحاصل في البلدان النفطية من دون الحاجة إلى أبحاث علمية. ويرد على هذه المقولة بأن ثمة تقاليد بحثية في البلدان العربية هي المتقدمة على سائر الدواعي، وأنه يتعين التعرف إلى الباحث العربي لمعرفة دوافعه العميقة للبحث العلمي، وأهمها توطيد مكانته الوظيفية والاجتماعية، شرط عدم المس بالأمور الحساسة في المجتمع (العربي) مثل المظاهر الطائفية والطبقية والعشائرية، وغيرها.
وفي القسم الثاني، سعى الباحث الأمين إلى تعريف القارىء بشروط إنتاج المعرفة العلمية وتداولها، فاعتبر أول الأمر أن على الباحث الجدي والجاد أن يصدر عن إطار مرجعي نظري، أي أن يستند في بحثه العلمي إلى مزيد من المفاهيم والمصطلحات التي تصف جذور المشكلة المعالجة، وإلا بقي البحث بكل نسبه وكمياته فارغاً، على ما تتصف به الغالبية العظمى من الأبحاث العربية، بحسب الأمين. الشرط الثاني هو أن يتم التداول بهذا البحث من قبل باحثين آخرين منتمين إلى إطار ثقافي متقارب نسبياً، وباحثين من بيئات بعيدة وحاضرة في الميدان العلمي في ما يدعى مجتمع المعرفة. أما الجامعات الرسمية في الدول العربية ومراكز الأبحاث فيها، فمحكومة بالسياسة وبإملاءاتها، بالتالي فهي هامشية الحضور، في حين أن المراجع العلمية الجادة التي يحتاج إليها الباحث غير متاحة له، بما يوحي بانغلاق معرفي ومحدودية لا يفضيان سوى إلى تلقين المعرفة اليقينية.
أبحاث تربوية
في القسم الثالث من الكتاب، درس عدنان الأمين الأنماط البحثية الشائعة في الدراسات التربوية، بناء على مراجعته (2003) ألفين وثلاثة مقالات (بحثية) موثقة في "شبكة المعلومات التربوية العربية" (شمعة)، فتبين له أنها على ثلاثة أنماط كبيرة:
-الأبحاث الأمبيريقية (التجريبية) الفارغة، وهي تقوم على "عبادة المنهجية على حساب الفكرة أو المعنى"، وفيها ينطلق الباحث من يقين بأهمية الموضوع المطروح، ويمضي إلى قياس آثاره، متجنباً القضايا الحقيقية التي يعاني منها العاملون والأساتذة الجامعيون. وإن توجب عليه مراجعة الأدبيات المختصة ببحثه عمد إلى رصف الملخصات من دون مناقشة أو مفاضلة تنم عن تعليل شخصي أو فهم عميق. أما صوغه الفرضيات فأشبه ما تكون بالحزورة، التي تحلها لعبة الارتباطات الإحصائية.
-الأبحاث المعيارية الاجتماعية، أي تلك المنبثقة من العلوم المعيارية (علم الأخلاق، والمنطق، والفلسفة، والدين) أو التي تأثر بها الباحثون وانطلقوا من معايير منها، بالتالي، يعتبر الأمين هذه الأبحاث معيارية وفارغة المعنى حين يتلبس الباحث جلدة الخبير حيناً، والعامل الاجتماعي حيناً آخر، والشيخ والفاعل الاجتماعي أحياناً أخرى. ويعتبر أن نقده خضوع البحث العلمي للمعيارية الاجتماعية إنما هو لصالح استقلال البحث العلمي الحقيقي المفضي إلى الكشف عن مواطن الاختلال والظلم والقصور في الأداء. وكل ما عدا ذلك، أي كل خضوع لهذه المعيارية وللفاعلين الاجتماعيين يصب في إنتاج الفراغ المعرفي، ويسهم في تسليم الفضاء الاجتماعي للفاعلين الأيديولوجيين.
-الأبحاث الوصفية-التحليلية، أي التي يعتمد فيها الباحثون وصف الظواهر وتحليلها استناداً إلى مراجع ذات صلة. وقد بدا للباحث الأمين أن هذا النوع من الأبحاث كان الأقل حضوراً، إما لأن التقاليد الاجتماعية في البحث استدعت إبعاده، وإما لأن كثيراً من الباحثين يضيقون بالنظريات ولا يتسنى لهم تكوين إطار معرفي نظري، في حين تظل للبعض تلك الإمكانية المحدودة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي القسمين الرابع والخامس، يواصل العلامة عدنان الأمين نقده بعضاً من النتاج البحثي التربوي، لا سيما الدراسات التي تطاول المعلمين، على ضوء أحدث النظريات في علم الاجتماع التربوي وبناء على المقاييس التي صنفت الأبحاث على أساسها، فتبين له أن البحوث الكمية تشكل وعاء مناسباً للمقاربتين الأمبيريقية (التجريبية) وأن اللغة العربية أكثر احتضاناً للنمطين الأمبيريقي الفارغ والمعياري، باعتبار أن القراء العرب هم أقل تطلباً وحرصاً على الدقة والموضوعية العلمية من نظرائهم الغربيين.
وأياً تكون المنازل، بل المراتب التي أفردها الباحث الأمين للباحثين التربويين في لبنان، وهم ثمانون بالعد بالنظر إلى أبحاث كل منهم الصادرة، التي تعدت العشرة، فإن الكتاب الأكاديمي الزاخر بالمراجع العلمية في علمي الاجتماع والتربية يعاود تصويب بوصلة البحث العلمي العربي، إذ يخلص إلى أن مسؤولية الخواء والفراغ الماثلين في الأبحاث العلمية لدى العرب إنما تقع على عاتق الباحث في المقام الأول، الساعي إلى تسلق السلم الاجتماعي والمهني بأي ثمن، وعلى عاتق التقاليد الاجتماعية التي تغلب التقاليد البحثية. كما تقع على عاتق الدولة التي تفرض تحريماتها على الباحث، وتمنعه من الكشف عن مكامن الخلل والظلم الاجتماعي اللاحق بفئة دون فئة أخرى، فتحول بذلك دون تكوين الباحث معارف جديدة وجديرة بالاعتبار.
"إنتاج الفراغ" لعلها صورة استعارية يمكن تعميمها على كثير من مجالات العمل الفكري في عالمنا العربي، من دون أن تكون لنا الجرأة ولا المعرفة في تفحص الهدر الحاصل من أجل تجنبه مستقبلاً. قد يكون في هذا الكتاب للباحث التربوي صاحب المئات من الأبحاث والعشرات من الكتب في التربية وعلم الاجتماع، بعض من إجابة.