Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"وجوه مخفية" لسلفادور دالي: رواية وحيدة لـ"العبقري"

حكاية "طويلة ومملة" بين جوانية بروست وبرانية ستندال

ولد سلفادور دالي العام 1904 ورحل العام 1989 (غيتي)

"كنا قد انتهينا من عشائنا. وكان ثمة بين ما تناولناه قطع من جبن الكامامبير الرائع. أخيراً، عندها، حين صرت وحيداً إلى المائدة، بقيت منحنياً عليها كالنائم للحظة. والحال أنني كنت أفكر في المعضلات التي طرحها عليّ ذلك "الارتخاء الشديد" لذلك النوع من الجبن السائل. في ذلك الحين كنت أرسم لوحة تمثل مشهداً طبيعياً، حيث تبدو الصخور وكأنها مضاءة بنور شفاف، من ذلك النوع الذي ينتشر آخر النهار. وكان على ذلك المشهد الطبيعي أن يشكل، بالنسبة إلى لوحتي خلفية تعبر عن فكرة ما، ولكن ما تلك الفكرة؟ لقد كنت في حاجة إلى صورة مفاجئة عجزت عن العثور عليها. وكنت في طريقي إلى إطفاء ضوء الغرفة والخروج في تلك الليلة، حين شاهدت، وشاهدت بالمعنى الحرفي للكلمة، الحل الذي كنت أبحث عنه: ساعتين رخوتين، علقت إحداهما، على غصن شجرة زيتون".

هكذا ولدت اللوحة الأشهر

على هذا النحو وصف سلفادور دالي، أحد أكبر الرسامين السورياليين في القرن الـ20، ولادة الفكرة الأساسية لواحدة من أشهر لوحاته وأكثرها شعبية: "إلحاح الذاكرة"، التي رسمها في عام 1931. والحقيقة أن غايتنا هنا ليست العودة إلى فن سلفادور دالي الذي أتى حينها فريداً من نوعه وفرض شروطه البصرية والفكرية على السورياليين الذين سرعان ما انضم إليهم، بل غايتنا أن نتساءل: إذا كان دالي قد تمكن من أن يعطي هذا الوصف الروائي التشكيلي البديع للحظة خلق تأسيسية لديه، ما كانت ستكون عليه كتابته لو أنه، بدلاً من الرسم، وربما إلى جانبه، انصرف إلى الكتابة الروائية؟ ولكن مهلاً، من ذا الذي قال إن دالي لم يكن روائياً أيضاً؟ لقد كتب الرجل كثيراً، ولكنها غالباً كانت نصوصاً ذاتية وتعليقات تضج بالتهكم واللؤم صدرت صفحات عديدة منها في أكثر من كتاب واحد، ولم يشكل ذلك مفاجأة أو حتى مصدر استغراب لأحد، أما المفاجأة فكانت في مكان آخر: في الرواية الوحيدة التي كتبها دالي وظلت لسنوات طويلة في حاجة إلى من يعثر عليها كاشفاً عن جانب آخر من "عبقرية" ذاك الذي سمى نصاً له ذات يوم "مذكرات عبقري".

ولنبدأ هنا من بداية ما، من تعريف دالي نفسه، لكيف يجب أن تكون الرواية، أي رواية: "يجب أن تكون طويلة ومملة!" في رأيه.

نعم طويلة ومملة!

والحال أن رواية دالي وعنوانها "وجوه مخفية" أتت إذ كتبها عام 1943، وكان مقيماً في نيويورك، دفعة واحدة تقريباً، أتت مستجيبة تماماً لهذين الشرطين، فهي ليست في نهاية الأمر سوى سلسلة لقاءات وحوارات ومواقف تدور بين مجموعة من مثقفين وأناس من علية القوم جمعتهم مناسبة ما في قصر فخم، وراحت تعبث بهم الأهواء العاطفية والتطلعات المستقبلية والذكريات الحادة وتبدل العلاقات في ما بينهم، وكل ذلك من حول حكاية حب هادئة أنيقة تنتمي إلى نوع مبتكر من العاطفة أعطاه دالي في الرواية اسماً غريباً هو "الكليداليزم" على اسم أحد طرفي تلك العلاقة. ولنقل على الفور إنها علاقة أرستقراطية تنتمي إلى نمط شديد الحداثة من حكايات الحب في الطبقات المخملية، ومن هذه الناحية، يبدو واضحاً أننا هنا أمام كلاسيكية في الموضوع والأسلوب تريد لنفسها أن تنتمي إلى عوالم مارسيل بروست في تحفته "البحث عن الزمن الضائع" التي لا يخفي دالي أنه إنما أراد محاكاتها، بيد أن بروست لا يبدو وحيداً كملهم هنا للرسام السوريالي، وقد طوب نفسه كاتباً شديد الأناقة ولو لمرة واحد، بل إنه يجد في رفقته كاتباً كبيراً آخر، أكثر كلاسيكية منه على أي حال، من كبار الروائيين: ستندال.

بين الداخل والخارج

فإذا كان دالي يستوحي بروست مبدع بدايات القرن الـ20 للاشتغال على العوالم الداخلية لشخصياته، ها هو يستلهم روائي القرن الـ19 الكبير، ستندال، لتصوير الأجواء الخارجية للرواية، أي ما يدور في العالم البراني خارج الإطار المغلق للحياة العليا التي تعيشها شخصيات الرواية الأساسية. وهكذا على خطى صاحب "الأحمر والأسود" و"دير بارما" يضع دالي شخصياته التي تعيش حياتها ببطء شديد "كما يفعل راكبو سيارة في رحلة طويلة"، بحسب تعبير ناقد فرنسي كان من أوائل الذين كتبوا عن الرواية، يضعها على تماس، وإن من بعيد بعض الشيء، مع سلسلة الأحداث التاريخية والسياسية بل حتى الحربية التي تحدث من حولها "في العالم الواقعي" بصورة قد تبدو متناقضة مع ما يحدث في "العالم الروائي" الذي جر الكاتب شخصياته لتعيش فيه.

وهكذا، لئن كانت تلك الشخصيات تعيش منغلقة على عوالمها، ها هو القارئ يجد نفسه على تماس مع تلك الأحداث الكبرى التي كانت باريس، ميدان الرواية، والعالم بشكل عام يعيشانها بدءاً من انتفاضة 1934 في إسبانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث نرى دالي يستبق الأحداث جاعلاً من تبقى من شخصياته تحتفل راقصة فوق المتاريس على جبهات القتال، وذلك بعد أن كانت عايشت كل تلك الأحداث الكبرى كما تعايش شخصيات ستندال أحداث زمنها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

منخرطة في التاريخ رغماً عنها

هنا، وعلى غير ما كان يمكننا أن نتوقع من سلفادور دالي، نلاحظ أنه لا يموضع شخصياته خارج أحداث العالم حتى ولو حاولت هي أن تموضع نفسها كذلك، بل يطلقها في هذا العالم من خلال تلك الصفحات التي يخرجها فيها من دائرتها البروستية الاجتماعية المغلقة، واصلاً بها، وبشكل شديد البراعة حتى إلى أفريقيا الشمالية، بل حتى دافعاً بالبعض إلى ممارسة التخريب رداً على ما يحدث في الحرب الإسبانية قبل الهجرة إلى أميركا.

في هذا السياق، واضح أن دالي الذي بدا عليه طوال حياته نوع من تمسك بفردية فوضوية، عبر عنها في لوحاته، بل كذلك في ما كتبه من تعليقات وملاحظات على سيرورة العالم، ها هو هنا يسير، وربما على خطى أندريه مالرو ليرينا كم أن أحداث العالم تؤثر على مصائر البشر تماماً كما تؤثر هذه المصائر على الأحداث، ولعل هذه الرسالة هي الوحيدة الواضحة إلى هذه الدرجة في رواية "وجوه مخفية"، بل ربما في إبداع دالي الفني ككل.

نهم إلى الدولار

لقد قيل كثير، وكتب كثير عن سلفادور دالي: توج الرجل من قبل أجيال بأكملها بوصفه فناناً كبيراً، أو بوصفه الوحيد الذي نافس بيكاسو مواطنه على مكانته السامية في الفن العالمي، وهوجم من قبل رفاق أمسه، قبل أن يهاجم من أعدائه والمحافظين، هوجم لأسباب فنية، وهوجم لأسباب شخصية. وكان في حياته وفي تصرفاته، يعطي الخصوم مادة خصبة للنيل منه. كان مغرماً بالخيانة، والمال، وبقلب المواقف، كان محافظاً، رجعياً في السياسة، وكان فوق ذلك كله، العشيق الذي انتزع من بول إيلوار حبيبته غالا، وكأن هذا لا يكفي، إذ إنه انبطح أمام دولارات الأميركيين وصار ينتج لوحاته بعشرات النسخ، ما دعا أندريه بريتون، غول السوريالية الكبير، إلى أن يقلب حروف اسمه لجعلها تعني "نهم إلى الدولار" Avida Dollars، غير أن هذا كله لم يقلل من قيمة دالي الفنية، وكأنه كان ثمة اثنان منه: واحد فنان كبير، وثانٍ متحفظ إلى درجة مقيتة حسب ما رأى أعداؤه، وها هي روايته الوحيدة "وجوه مخفية" تقترح علينا أنه ربما كان مفكراً وروائياً كبيراً أيضاً.

جنون معلن

ولد سلفادور دالي عام 1904، ورحل عام 1989 في مدينة فيجويراس الكاتالونية الإسبانية، وهو منذ دخل أكاديمية الفنون الجميلة، باكراً، في مدريد، راح يعبر عن عبقرية كما عن مشاكسة وغرابة أطوار في الوقت نفسه، وفي عام 1925، بدأ يهتم بالتحليل النفسي مزاوجاً بينه وبين فنه، أما اهتمامه الحقيقي بمواصلة طريقه في الفن، فكان بدءاً من أواخر العشرينيات حين زار باريس وعاش فيها لينضم إلى السورياليين، ثم يتخلى عنهم ليواصل طريقه بعد ذلك بفرديته الطاغية وجنونه المعلن وإبداعه الذي لا يحد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة