Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل جان بيار باكري المشاغب الذي عاش من أجل السينما

ممثل فرنسي فريد دمج أدواره بالحياة العامة وعمل بحرّية وواجه الأفكار المسبقة

الممثل الفرنسي الراحل جان بيار باكري (غيتي)

يستمر رحيل الفنانين وكبار أسماء السينما في هذا الزمن الكوروني الصعب الذي يمرّ فيه العالم، ويبدو أن لفرنسا حصّة الأسد من هذه الخسائر الفاضحة. فبعد روبير حسين وكلود براسور اللذين خطفهما الوباء في الأسابيع الماضية، توفي الاثنين الفائت الممثل وكاتب السيناريو الشهير جان بيار باكري عن 69 سنة بعد معاناة مع مرض السرطان دامت أشهراً عدة وكان تكتّم عليها. على إحدى الفضائيات الفرنسية، روى الطبيب بيار سكوارا الذي كان يتولّى معالجته، تفاصيل أيامه الأخيرة، كاشفاً عنه أنه طلب من فريق الأطباء أن يتم التعامل معه كأي شخص عادي لا كنجم. وقال سكوارا: "كان حضوره بيننا يشبه الحضور الذي كان له في أفلامه. بدا شجاعاً، لأن النهاية لم تكن سهلة. كان علينا أن نفاوض معه. أحياناً، كان يقول لا، فنضطر إلى أن نحاججه. خضنا نقاشات تشبه بعض الشيء نقاشات أفلامه".  

انطلق باكري في التمثيل في نهاية السبعينيات، وكان شخصية فريدة في المشهد السينمائي الفرنسي، لا يمكن حصرها في إطار محدد، سواء ما كانته على الشاشة أو في الحياة العامة. مع ذلك، تميّز في كونه "الشكّاء" الذي لا يتوقف عن التذمر من كل شيء وأي شيء. والتذمر كما هو معلوم صفة من الصفات التي يشتهر بها الفرنسيون. لكن هو دفع بها إلى الأقصى. 

غداة رحيله، خصصت جريدة "ليبيراسيون" صفحتها الأولى لباكري. لكن كثراً خارج فرنسا لا يعرفونه البتة. فهو فرنسي جداً، أو فرنكو فرنسي كما يُقال، وهو أحد نجوم سينما المؤلف الفرنسية التي لا تنتشر كثيراً في العالم. جسّد فكرة معينة عن هذه السينما ذات الطابع الثقافي والخصوصية الاجتماعية. لم يحقق شهرة واسعة غير عند الفرنكوفونيين. لم يهمله بلده بل كرّمه وقدّر موهبته، ففاز بخمس جوائز "سيزار" (المعادل الفرنسي لـ"الأوسكار")، 4 منها عن عمله ككاتب سيناريو مع شريكته أنييس جاوي. الأفلام التي نال عنها "سيزار" أفضل سيناريو هي: "ذوق الآخرين" و"شيء من العائلة" و"تدخين / لا تدخين" و"نعرف الأغنية" (الذي نال عنه أيضاً "سيزار" أفضل ممثل في دور ثانوي). العملان الأخيران لألان رينيه. 

جهد وتضحيات

تطلّب من باكري المولود في الجزائر (انتقل إلى مدينة كانّ الفرنسية مع عائلته في عمر الـ11 غداة الاستقلال)، الكثير من الوقت والجهد والتضحيات كي يبرز في السينما ويصنع اسماً ضمن مجال فنّي المنافسة فيه شرسة. فهو لم يكن يوماً بوسامة ألان دولون ولا يملك الحضور الجسماني للينو فنتورا أو الموهبة الكوميدية لبيار ريشار. لوهلة، كل شيء في مظهره كان يوحي بأنه الفرنسي المتوسط. إلا أنه، عندما كان يتكلّم معترضاً ومناقشاً، كان يضع الكلمات المناسبة في الأمكنة المناسبة. في تلك اللحظة، كانت الصورة المتخيلة عنه تنهار. باكري هو الغضوب، المشاكس، المشاغب، المكتئب، الـ"الكاره" للجميع ولكل شيء، "الفكّ الكبير" كما يقول الفرنسيون. "تخصص" بالشخصيات التي تحمل  في داخلها قدراً من الهشاشة. كان الرجل الخاسر، خفيف الدم الذي يتماهى معه المُشاهد، المضطرب الذي يحلو لنا الطبطبة على ظهره. أو حتى القاسي الذي يخفي قلباً من ذهب، صاحب الخيبات المتراكمة الذي لم يحقق في الحياة ما كان يحلم به. إنه البطل المضاد، أو نقيض البطل. الرجل الذي يذكّرنا دائماً أن الحياة هبوط وصعود مستمران. عندما نكون في القمة لا بد من السقوط، والعكس. 

بالصدفة تعرّف إلى التمثيل بعدما كان درس الأدب. لم يكن الوقوف على خشبة مسرح أو قبالة كاميرا حلم من أحلام الطفولة. عندما ترك كانّ وانتقل إلى العيش في باريس وهو في الخامسة والعشرين، كان يطمح إلى "تغيير حياته وأصدقائه"، كما يقول في إحدى المقابلات. فعلها هرباً من وظيفة في المصرف كانت تفرض عليه أن يصحو باكراً ويحلق ذقنه ويلبس ربطة عنق ويبتسم بلا سبب. في باريس، شُرّعت أمامه الأبواب. ذات مساء، كان يرافق صديقة له إلى "صف سيمون" التمثيلي، فشعر بالانبهار. هناك شاهد "مدخل الفنانين" لإيف أليغريه مع لوي جوفيه (من كلاسيكيات السينما الفرنسية)، حد أنه رفع يده في نهاية الدرس عندما سألت المدرّسة إذا كان هناك تلامذة جدد. بعد أقل من 24 ساعة، تسجّل في ذلك الصف. صحيح أن التمثيل لم يكن من أولوياته، لكن منذ لحظة دخوله فيه ما عاد يفكّر في شيء آخر، بل كرّس نفسه كلياً لهذه المهنة. 

عانى باكري لبعض الوقت قبل أن "تفرج". الإطلالة الأولى له كانت في "الطبيب" لبيار غرانييه دوفير (1979) في مشهد قصير أمام ألان دولون في دور طبيب مخدّر. ثم، عبر جيرار دارمون، صديقه وشريكه في أفلام عدة، تعرّف إلى روجيه هانان الذي عرّفه إلى المخرج ألكسندر أركادي، فاقترح عليه الأخير دوراً في "المغفرة الكبرى" (1982). هذه الخطوات الأولى في السينما لم تحثّه على التخلي عن المسرح، لا بل استمر في الصعود على الخشبة، وفاز في بعض الجوائز عن نصوص كتبها بنفسه (منها جائزة تريستان برنار التي نالها عن "حبّة رمل"). المسرح صنع له شهرة معينة في الوسط الثقافي وأظهر مدى موهبته التي كانت ستظهر للعلن في السنوات اللاحقة. كتب ما لا يقل عن خمس مسرحيات بين 1977 و1980. بعد "المغفرة الكبرى"، أعطاه أركادي دوراً آخر، هذه المرة في "الكارنفال الكبير" الذي عاد به إلى الجزائر أثناء الحرب العالمية الثانية. ثم كرّت سبحة الأفلام التي أسهمت في تكريسه التدريجي: "حبّ من أول نظرة" لديان كوريس و"درج س." لجان شارل تاكيلا و"سابواي" للوك بوسون الذي نال عنه أول ترشيح لـ"سيزار" أفضل ممثل. له أيضاً "الصيف على منحدر خفيف" لجيرار كراوتسيك و"أفضل أصدقائي" لجان ماري بواريه. كما أنه أطلّ في أدوار ثانوية كثيرة في تلك الفترة. الناقد الفرنسي جان بيار لافوانيا أبدى حماسة شديدة تجاه باكري في بداياته، وذلك منذ عام 1983، فكتب عنه في مجلة "بروميير" الفرنسية: "أول مرة شاهدناه كانت في المغفرة الكبرى والمرة الثانية كانت في حبّ من أول نظرة، وهذه المرة الثانية أكدت لنا انطباعنا الأول، وهو أننا سنرى مجدداً وكثيراً هذا الممثل".

اللقاء الحاسم

لقاؤه بأنييس جاوي كان حاسماً وقلب حياته رأساً على عقب على المستويين الشخصي والفنّي. بعد نجاحهما الكاسح في المسرح عام 1991 مع "مطبخ وتوابعه" (تحوّل إلى فيلم لاحقاً)، توجّها معاً إلى الشاشة الكبيرة بخطى واثقة. معاً، أصبحا كاتبَي السيناريو الأشهر في السينما الفرنسية طوال التسعينيات، وألّفا تسعة سيناريوهات سينمائية وأعمالاً كوميدية لا تخلو من اللؤم والقسوة. مع الوقت، أصبح من الصعب الفصل بينهما، إذ بات أحدهما يكمّل الآخر. نالا أربع جوائز "سيزار" لنصوصهما، وهذا أكبر عدد من الجوائز في هذا القسم يناله أي كاتب سيناريو في تاريخ الـ"سيزار". ثم، مع مطلع الألفية، قررت جاوي الانتقال إلى الإخراج، فكان "ذوق الآخرين"، جوهرة سينمائية نالت إشادة نقدية كبيرة ونجاحاً تجارياً. الفيلم كان ثمرة تعاون بين جاوي وباكري تمثيلاً وتأليفاً وإخراجاً، ويتحدّث عن الأفكار الجاهزة في المجتمع الفرنسي (من بين شؤون أخرى)، قريب بعض الشيء من أسلوب ألان رينيه وقد رُشِّح لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي. عام 2012، انفصل الثنائي، ولكن التعاون السينمائي استمر بينهما، وآخر فيلم لهما، "ساحة عامة"، يعود إلى عام 2018.   

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من أفلامه البارزة التي بلغ مجموعها قرابة الستين: "ديدييه" لألان شابا، "ساحة فاندوم" لنيكول غارسيا، "مدبّرة منزل" لكلود بيري، "كينيدي وأنا" لسام كارمان، "المشاعر" لنويمي لفوفسكي، "ابحثوا عن هورتانس" لباسكال بونيتزر، "الحياة الشخصية جداً للسيد سيم" لميشال لوكلير، "معنى العيد" لأوليفييه نقاش وإريك توليدانو وغيرها. عن بعض من هذه الأفلام، ترشّح لـ"سيزار" لكن لم ينلها.

في النصف الثاني من مسيرته، أحاط باكري نفسه بكل الأسباب التي تسمح له بأن يعيش المتعة بكل تفاصيلها. كانت المتعة أولوية عنده، أما العوائق على جميع أشكالها، فمطرودة من حياته. كان يقول: "لقد اخترتُ هذه المهنة لأنني لم أكن أرغب في الحلاقة كل يوم. ليست لي سيارة ولا منزل. أعشق الحرية. وحريتي هي أن أقول نعم لسيناريو أحبّه وفقط إذا أحببته. لا أريد دوراً جميلاً في نصّ رديء. أنا أحكم فقط بذكائي، لكنني أعلم أنني سأؤذي نفسي". 

لأسباب ثقافية واجتماعية وسياسية وفنية، وأيضاً لقربه من الناس وغياب الافتعال في أدائه، أحبّه الفرنسيون قبل غيرهم، وكانت لديهم عاطفة خاصة تجاهه ظهرت في تعليقات الجمهور على رحيله. حكى باكري أنه عندما كان صغيراً، أخبره والده أن "لا فرق بين رئيس جمهورية وزبّال". جملة علّمته أن الكل يستحق القدر نفسه من الاحترام. مبدأ أخلاقي التزمه حتى في آخر لحظات حياته وهو على فراش الموت.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما