Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة مع الفلاسفة في نظرية المعرفة (6)

آراء كيركجارد وهيدجر وسارتر وكامو

يرى مارتن هيدجر أن ظاهرة الفرد تتجلى من خلال الموجودات نفسها (غيتي)

استعرضنا في الحلقة الماضية (5) أقوال لكبار الفلاسفة التجريبين في العصر الحديث، بيكون ولوك وهيوم، الذين أسهموا في تطوير المعرفة الإنسانية من منطلق فلسفة عملية تهتم بالجانب المادي العلمي أكثر من العقلي النظري.

من كيركجارد إلى كامو

على الرغم من أن سورين كيركجارد (1813- 1855) تأثر بهيجل، لكنه رفض أن تكون مهمة الفكر في فهمنة الواقع الخارجي فحسب، وإنما في تغييره أيضاً، وأن الحقيقة الواقعية ليست أمراً عقلياً بل ذاتياً فردياً. وبحسب رأيه، فإن المعطيات المباشرة هي عالم الوقائع المحسوسة قبل أن يتأملها الفكر ويحاول إدراك ماهيتها، وإن مجال الفكر المجرد لا ينفصل عن تلك المعطيات، وإلا ما نتجت لدينا حالة الشك، وإن الإيمان هو القرار تجاه الوقائع والمعقولية.

وفي ميدان الوقائع، من العبث أن نتحدث عن الصواب أو الخطأ في المعطيات المباشرة، إن لم يتفاعل الفكر فيها ويصدر أحكامه عليها. كذلك في ميدان الفكر المجرد، إذ لا نجد مجالاً للخطأ والصواب والشك، لأنه عالم الممكنات المعقولة الخالصة، التي لا تنطبق عليها اعتبارات الخطأ والصواب إلا إذا ربطناها بالصيرورة، وهو عالم الوجود الفعلي، حيث تتحقق بعض هذه الممكنات بينما ينبذ البعض الآخر منها. وحتى عندما يحيط الفكر بالمعطيات المباشرة لكي يعبر عنها، فإنها تفقد جميع صفاتها وخصائصها الأساسية، فتصبح معرفتنا بها غير مباشرة، أي معرفة عن طريق التصورات والأفكار المجردة.

وفي حقل الصواب والخطأ، يتجه كيركجارد إلى الجانب الروحي والأخلاقي أيضاً، إذ "طالما أن الحكم البشري هو الذي نتعامل معه، وطالما أنه موقف بين شخص وآخر، فنحن جميعاً نؤمن بأن البراءة هي الحصن الآمن، فلا يمكن لأي ظلم أو حكم خاطئ من الأشخاص أن يأسر أو يهدم. إن البراءة هي الطهارة التي لا يمكن حتى للعنف أن يسيء إليها، وإنها محصنة، والموت نفسه لا يمكن أن يلحق بها جرحاً مميتاً". (إنجيل المعاناة، ترجمة إنجليزية).

باختصار، إن الفكر عاجز عن الإحاطة بالوقائع المحسوسة من حيث هي عينية وفردية ومعطاة لنا بشكل غير مباشر، ولكن جراء هذا التضارب الذي يقع بين الفكر والوجود العيني المباشرة ينتج الوعي. فالشك يفترض وجود الوعي، والعكس صحيح أيضاً، وعندما يربط كيركجارد الشك ربطاً محكماً بالوعي وليس بالفكر، لأن العمليات الفكرية موضوعية ومجردة من كل انفعال، وكذلك لعزل العقل وإبعاده من الوجود العيني.

إن كيركجارد وأتباعه من الفلاسفة الوجوديين يجعلون من الكينونة الفردية حقيقة إنسانية نهائية. لذلك ركز فردريك نيتشه (1844- 1900) على إرادة القوة والإنسان الأعلى أو السامي، الذي يطور نفسه ويعمل على تحسين ذاته دوماً، إنه الرجل الخارق، وقوة الإرادة والتغلب على الذات، والتأكيد الكامل على الحياة. "وهكذا يتطور الإنسان نحو الأعلى فحسب، إذ يمكن أن يضربه البرق ويحطمه، وهو يعلو بما يكفي إلى البرق". (هكذا تكلم زرادشت، الطبعة الإنجليزية).

من هنا، فإن المعرفة تعمل في خدمة القوة، وإنها نسبية وفقاً لقناعتنا الفردية، إذ كلما كانت الحياة قوية، كان العالم الموجود أكثر خصوبة. لذلك، فإن "كل ما يسمى الإحساس والأفكار والآراء" مرتبطة ارتباطاً قوياً بمعترك الحياة. وفي هذا الصدد يقول نيتشه، إن "الارتباط بين العضوي وغير العضوي يجب أن يكون كامناً في قوة الطرد التي تمارسها كل ذرة. ويمكن تعريف "الحياة" على أنها شكل دائم من عمليات إنشاء القوة، إذ ينمو المتنافسون المختلفون بشكل غير متساو، نحو أي مقاومة خارجية موجودة حتى في الطاعة، فإن القوة الفردية لا تستسلم بأي حال من الأحوال". (إرادة القوة، طبعة إنجليزية).

إن نظرية التطور المادي عند دارون، جعلها نيتشه ضمن مفهومه الفلسفي عن الإنسان والحياة، التي يراها ضمن دورات متكررة مفتوحة الزمن. ويصل به الاعتقاد إلى أن الحياة بلا معنى ومن غير جدوى، وأن انهيار المعنى والهدف من الحياة هو تدمير للبشرية وحضاراتها. وهذه العدمية هي جزء من نظرية المعرفة لدى نيتشه، خصوصاً أنه يرفض التصورات والمقاييس الدينية والأخلاقية التقليدية، وكذلك المثالية عند كانت وهيجل وغيرهما.

وضمن مفهوم الكينونة في تحصيل المعرفة، يرى مارتن هيدجر (1889- 1977) أن ظاهرة الفرد تتجلى من خلال الموجودات نفسها، إلا أن وجوده ليس جزءاً من الموجودات المحسوسة بل متضمن فيها. فالعالم الذي نبحث فيه اكتشاف الموجودات، فإن هذه الموجودات متنوعة ومختلفة الأنماط، والنمط الذي يجب أن نبدأ البحث فيه هو وجود الإنسان، لأن ماهيته جوهرية تجاه حقيقة الوجود، الذي لا يحتاج إلى مصدر يمنحه المعنى، بل هو المعنى في ذاته كونه لا يخضع إلى تحديد المفهوم الكلي.

وعندما يتناول هيدجر وجود الإنسان، فإنه يميز بين وجود الكينونة في العالم، والوجود الإنساني داخل العالم. إذ "يجب أن تكون الكينونة في العالم مرئية أولاً، وفق ما يتعلق بهذا العنصر من هيكله الذي هو "العالم" نفسه". (الكينونة والزمان، طبعة إنجليزية).

فالوجود الإنساني يكون خارج ذاته، ولا يمكن فصله عن العالم الخارجي، لأنه مرتبط به ارتباطاً ضرورياً حياتياً واجتماعياً، ومعايشة الكينونة مع الآخرين هي فهم حال وجودية للوجود الذاتي، كما أن فهم الوجود الإنساني لوجوده الخاص هو فهم وجود الآخرين أيضاً. كذلك شعوره الكامل بالذات وإدراكه لها مستمد من شعوره وإدراكه نحو الآخرين، حتى إن كان هناك تجنب للاختلاط مع الآخرين، فإنه إثبات أن الآخر حاضر بوصفه ذلك الذي يراد تجنبه.

بكلمة أخرى، يستخدم هيدجر مصطلح دازين Dasein، ويعني به آنية الوجود أو الموجود في الخارج، الذي يتجه نحو الموجودات وإدراكه لها من غير أن يغادر مجاله الداخلي، بل هي وفق طبيعة وجودها الأولية موجودة دائماً بجانب الموجود الذي تلتقي به في عالم اكتُشف بالفعل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبحسب هيدجر، توجد إشكالية واضحة في تصورنا للمعرفة، وذلك بإثارة الاسئلة المتوالية عن الذات العارفة والعالم المحيط، وبما أن الإنسان موجود دائماً بين الموجودات، وبطبيعته منفتح على هذه الكائنات، فلا داعي لإيجاد التفسيرات، لأن الكينونة والعالم يوجبان أن الذاتي له حق في معرفة الخارجي. أما العلاقة الحقيقية للإنسان بالعالم، فهي وجود في العالم من دون وجود طرف ثالث، فالإنسان منح وجوده في العالم فحسب، وليس هو الذي ينتقل من الداخل إلى الخارج، وإنما مجرد كونه كينونة موجودة تكسبه تصوراً معيناً للعالم بشكل تلقائي.

من هنا، يرفض هيدجر المعرفة التي تقوم على أساس التصورات التي تفصل الإنسان عن العالم، إذ إنها معرفة قاصرة من ناحية، وتتجاهل الطبيعة التفاعلية والإيجابية للكينونة في الوجود من ناحية أخرى. فالإنسان يكوّن ذاته باستمرار وفق ما يحققه من إمكانات، بالإضافة إلى كونه مشروعاً يزداد تحققاً في كل لحظة زمنية. ولكن هيدجر لا يقصد أن الإمكانات عقلية، بل صور الحياة التي ترغب الكينونة من خلالها صورتها الذاتية، إذ إن صورة حياة الإنسان البدائي تختلف في كثير من الجوانب عن صورة الإنسان المعاصر على مستوى الفهم أو التعامل مع أحداث الحياة.

ما يطرحه هيدجر، عبارة عن دعوة تبني معرفية تأويلية جديدة عن الذات والموضوع، تروم إلى تجاوز الأطر المعرفية في القوالب المألوفة والمعروفة مسبقاً، والتحرر من زخم الأسئلة والمفاهيم العقلية، التي قامت بموجبها نظرية المعرفة الحديثة. إذ إن الفهم ليس موضوع المعنى "الوجود – في -العالم"، وإنما بوصفه أصل كل معنى وأساس وجودي لتعيين معنى الموجودات المحسوسة. وبذلك يتجاوز هيدجر ثنائية الذات والموضوع عند ديكارت وكانت وهيجل وغيرهم. وهذه الفكرة أخذها من أستاذه أدمون هوسرل.

وعلى حذو هيدجر يستمر جان بول سارتر (1905- 1980) في رفض استنتاج ماهية الوجود. ويرى أنه "لا يوجد هناك سوى معرفة حدسية. الاستنتاج والحجج الاستطرادية التي يطلق عليها خطأ أمثلة عن المعرفة، ليست سوى أدوات تؤدي إلى الحدس". (الكينونة والعدم، طبعة إنجليزية).

والمعرفة هي الوعي الذي يشير دائماً إلى شيء خارج نفسه، ويقسمه سارتر إلى منعكس وغير منعكس. الأول، هو الوعي الذي ينعكس على نفسه، أي الواعي الذي يعي الوعي، ومن خلاله يمكن اكتشاف النفس أو "الأنا"، التي هي محط الأفكار وفق مزاجها وإرادتها بشكل عفوي لا إرادي. أما الثاني، وهو الوعي المباشر قبل أن يشوبه تفكير، فلا يشمل الأنا الفاعل بل المفعول به. على سبيل المثال، عندما أقرأ رواية، فإن بطل الرواية هو موضوع الوعي غير المنعكس، أو عندما أركض خلف الحافلة للحاق بها، فالحافلة موضوع الوعي غير المنعكس، وهكذا.

وبحسب تصور سارتر، فإن هذه العفوية المعرفية هي نوع من الحرية المهزوزة، والتأمل فيها يؤدي بنا إلى القلق، لذلك نكافح من أجل السيطرة على هذه الأفكار العفوية، وعندما نفشل نتعرض إلى الأمراض النفسية والعصابية. كم واحد منا فكر في أن يرمي نفسه أمام سيارة أو قطار أو من فوق جسر؟ فالإنسان وجد نفسه في هذا العالم، وعلاقته فيه عبارة عن وجود وعدم، فعندما أبحث عن صديق لي في المقهى ولا أجده، هذا عدم في صورة حقيقة، عدم وجود الصديق حدث حقيقي وقع أمامي. والأمر نفسه، يمكن أن نقيسه على ماضي إنسان غير موجود، عبارة عن عدم، أنا في الحاضر، غير أنا في الماضي، وأنا في الحاضر غير أنا في المستقبل، أنا كوجود خلفي العدم وأمامي عدم، أنا وجود بين عدمين.

إن عدمية سارتر الفلسفية لا تبتعد كثيراً عن عدمية المعري النفسية، فكلاهما يرى الإنسان يحيا "بين عدمين"، إلا أن المعري يؤمن بوجود الله ورحمته، وسارتر على نقيضه. وفي ساعة احتضاره، أجاب سارتر عن سؤال، "تُرى إلى أين قادك مذهبك؟" فقال في أسى عميق ملؤه الندم، "إلى هزيمة كاملة".

في أي حال، ينص سارتر على أن الإنسان مسؤول عن نفسه وعن الآخرين أيضاً، غير أنه لا يستطيع أن يتجاوز ذاتيته الإنسانية، فعندما يختار الإنسان لنفسه، يختار لكل الناس. من هنا، فإن عملية الاختيار على الرغم من ذاتيتها لكنها تؤثر في الآخرين، وكذلك تسهم في خلق الإنسان كما يجب أن يكون، وفق تصورنا ومفهومنا. وهذه تزيد من القلق، لكنه قلق اختيار. وبما أن المسؤولية نتاج الحرية في تفسير العالم، يتفادى الناس تحمل الحرية والمسؤولية فيكتفون بلوم الآخرين أو القدر، لكن الإنسان يبقى حراً طالما له خيارات. كما لا يكفي بناء النفس بل العالم أيضاً، وذلك بمنحه قيماً، فتصبح الحرية هي المقدرة على الاختيار بين هذه القيم الموضوعة، إذ إن الحياة تقدر قيمتها على قدر ما نعطيها من قيم بمحض إرادتنا، وليس بحسب تعاليم دينية أو تقاليد موروثة.

وضمن إطار هذا المفهوم يأتي موقف البير كامو (1913- 1960) المتميز بالعبثية والشكية تجاه المعرفة، وعلى حد قوله "استحالة المعرفة أمر مؤكد". ويؤكد أن الفكر الإنساني عبر التاريخ يتصف بالعجز المتعاقب، فالعالم مجهول، والحياة بلا معنى، ولا جدوى من دون الجهد الذي نبذله في الفهم وطلب المعرفة.

وبالقدر الذي يهتم كامو بالتركيز على مسألة "الانتحار" الفلسفي كخلاص من العبثية، يطرح "التمرد" بديلاً في الحياة أيضاً. إذ إن الحياة وغيابها (الموت) يوضحان لنا حقيقة الواقع، فمن العبث أن نبحث باستمرار عن معنى في الحياة، حينما لا يكون هناك أي معنى أصلاً، وكذلك من العبث أن نأمل بشكل من أشكال الوجود المستمر لنا بعد الموت، لأن النتيجة النهائية هي الفناء. وعليه، فإن التحدي والتمرد والحفاظ على التوتر الجوهري في الحياة والعيش النزيه هي طرائق في مواجهة العبث والموت.

ويرى كامو أن جسد الإنسان هو الأصل، أما العقل فإنه الفرع، وتعود هذه الأولية إلى أن الجسد أكثر رغبة في الحياة. لذلك غالباً ما يؤدي إلى الانتحار، لأن العالم لا يستحق غير السخرية. والمعرفة لن تصل إلى شيء في خصوص أصل الوجود، لأن الوجود نفسه لا معنى له. وعليه، ينبغي علينا أن نتحمل هذا العبث الذي يتعذر حله.

وبحسب منطق كامو العبثي، خصوصاً في "أسطورة سيزيف"، فإن الإحباط الحتمي المتعلق برغبة الإنسان في معرفة العالم والشعور بالأمان بداخله، يقوده إلى حقيقة موضوعية هي اليأس التام من إمكانية بناء شيء يجلب السلام والطمأنينة إلى نفوسنا، لا سيما أن جهودنا للمعرفة مدفوعة بحنين نحو الوحدة، ولكن هناك فجوة جلية بين ما نتخيل أننا نعرفه وما نعرفه حقاً. وبذلك، فإن كل ما يقال هو، إن هذا العالم بحد ذاته غير منطقي. وعلى هذا الأساس، يرفض كامو جميع التحليلات العقلانية والأخلاقية والتصورات العملية. إنه الموقف الوجودي العام تجاه الرأسمالية والشيوعية خلال فترة الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن الماضي.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء