أثار القرار المتأخر الذي أصدره وزير الخارجية الأميركي المغادر، مايك بومبيو، بتصنيف "أنصار الله"، كما وصفهم في قراره، بجماعة إرهابية، صراعاً يمنياً بين خصومهم ومؤيديهم، ولكنه كان أكثر حضوراً وجدلاً وضجيجاً في أروقة الأمم المتحدة وعواصم العالم، ولم تتمكن الولايات المتحدة من الحصول على أي دعم سياسي في الجلسة التي عقدها مجلس الأمن في 14 يناير (كانون الثاني) 2021، وقبلها وبعدها، صب مؤيدو القرار الأميركي جام غضبهم على مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، مارتن غريفيثس، والحكومة البريطانية، باعتبارهما داعمين للحوثيين، وفي السياق ذاته، نالت السفارات اليمنية ووزارة الخارجية جانباً كبيراً من النقد القاسي بتهمة الإهمال وعدم القيام بواجباتها في الدفاع عن الشرعية.
أنا هنا لست مدافعاً عن المبعوث الأممي، فلديه فريق إعلامي قادر على تفسير مواقفه وتبريرها، كما أنني أعلم حدود مهمته وقدرته على الإنجاز، ولكنني سأتناول جانباً من الاتهامات المبررة أحياناً والمبالغ فيها في أحيان كثيرة، وذلك من واقع تجربتي، فقد عملت سفيراً في أكثر من دولة موزعة بين الخليج، وأفريقيا، وكندا، وآسيا، وأوروبا، وكنت وكيلاً لوزارة الخارجية، مسؤولاً عن المنظمات الدولية وأوروبا والأميركتين، وأتاحت لي هذه المواقع فرصة مهمة للاقتراب من كيفية صنع القرار الخارجي في اليمن وفي الدول التي عملت بها، وإدارته وإسقاط مردوداته على الواقع الداخلي، وبطبيعة الحال، لا يمكن ولا تجوز مقارنة تلك الأيام بما حدث منذ 2012 من ارتباك، خصوصاً منذ 2015 حين فرت كل قيادات الدولة من اليمن إلى الخارج وتوزعت على عواصم عدة مع أسرها.
لا بد في البدء القول إن السياسة الخارجية لأي دولة تشكل انعكاساً لواقعها الداخلي وقدراتها الاقتصادية والعسكرية والسكانية، وهكذا لا يمكن لأي كيان جغرافي تجاوز حدود إمكاناته الذاتية، فمن غير المعقول أن يتمكن بلد صغير مهما بلغت ثروته من أحداث التأثير المستدام خارج حدوده ما لم يكن في تحالفات مع دول أقوى وأكثر تقدماً في البحث العلمي والشراكات المترابطة في محيطات جغرافية متعددة، وعندها يصبح دوره ممولاً كريماً، أو في أحسن التقديرات شريكاً ذا صوت ضعيف يتناسب مع عوامل القوة التي يمتلكها، وتلك التي يفتقدها، فما بالنا إذا كان البلد فقيراً أصلاً وغير مستقر كما في الحالة اليمنية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتسبب الخروج المفاجئ لكبار المسؤولين وقادة الأحزاب في بدايات 2015 من صنعاء، وكل الشمال، ثم من عدن، وكل الجنوب، إلى حالة فوضى عارمة أدت إلى تركيز كامل السلطات في يد الرئيس عبد ربه منصور هادي ومكتبه، وعلى الرغم من محاولات رئيس الوزراء، خالد بحاح، المشاركة في صنع القرار، فإنه لم يفلح وأدى ذلك إلى صراع واضح بين الرجلين، فعزله هادي فجأة من منصبيه كنائب للرئيس ورئيس للوزراء في بدايات شهر أبريل (نيسان) 2016 بمبرر إخفاقات الحكومة وجرى (تعيين) الدكتور أحمد بن دغر بديلاً عنه، ولم يتم تغيير أي من الوزراء، كما لم يتم (تكليف) بن دغر بحسب نصوص الدستور، وزعم مؤيدو هادي أن المبادرة الخليجية منحته حقاً يفعل ما يريد من دون قيود، وهكذا تمكن من تجاوز كل نص دستوري لا يتوافق مع رغباته الشخصية، وهو ما صار عرفاً ابتلعه الجميع، وجرى الرضوخ له، وأصبح منهاج حكم تتم ممارسته بطريقة عجيبة، والأعجب أن هناك من يؤيد هذا المسار ويبرره.
مرة أخرى، انعكس الاضطراب في قمة هرم الدولة على مجمل مؤسساتها الأدنى، ومن الممكن الاقتراب للتعرف على الفوضى في أن نتذكر أنه خلال ثماني سنوات، أي منذ العام 2012 حتى يومنا هذا، مر على وزارة الخارجية ثمانية وزراء (أبو بكر القربي، وجمال السلال، وعبد الله الصايدي، ورياض ياسين، وعبد الملك المخلافي، وخالد اليماني، ومحمد الحضرمي، وأحمد بن مبارك)، وانعكس ذلك على إدارة الأوضاع في الديوان المصغر لوزارة الخارجية التي مارست نشاطاتها منذ 2015 من داخل مبنى السفارة اليمنية بالرياض، وتضاءلت قدرتها على متابعة أعمال البعثات التي ظل معظمها بلا سفراء منذ عام 2014 حتى عام 2016 (انتهت فترة عملهم القانونية العام الماضي)، وحين تم اتخاذ القرار لملئها، جرت التعيينات بالمجاملة، إذ منحت سفارات كثيرة إلى أشخاص من خارج السلك، ثم جرى سيل من التعيينات لأبناء عديد من كبار المسؤولين من دون كفاءة، وخروجاً على القانون المعمول به.
وأدت الفوضى العارمة إلى شلل في أداء المهام التي أوكلت إلى أشخاص تم تعيينهم مجاملة وبخطوط مناطقية ومن دون خبرة بأبجديات العمل الدبلوماسي، وتضاعفت أعداد العاملين في البعثات من دون حاجة لهم، وبغرض واحد هو ترتيب أوضاعهم المعيشية، وتحولت الوزارة إلى دار للرعاية الاجتماعية من دون سياسة خارجية واضحة، ولا تحرك فعال، ولا إمكانات للتواصل مع المنظمات المؤثرة في العواصم، ولا كفاءة في شرح حقيقة الأوضاع، وحال كهذه كانت من المحتم أن تؤدي إلى إظهار فشل إدارة الشؤون الخارجية.
إن من الظلم والإجحاف توجيه كل النقد إلى وزارة الخارجية من دون الأخذ بالاعتبار عينه أن سياسة الدولة نفسها مبهمة لا يعرف أحد من يسيرها وكيف تدار، ولا أقول هنا إن معظم السفارات تقوم بمهامها، ولكنني أؤكد أن الخلل لا يمكن إصلاحه من دون عودة وزارة الخارجية إلى الداخل وممارسة كل أعمالها الإدارية من هناك، والبدء في غربلة شاملة تبدأ باستبعاد كل من اقتحم العمل الدبلوماسي مجاملة أو بخطوط مناطقية وحزبية.
معروف أن التعامل مع الشأن الخارجي هو، من دون شك، من حقوق رئيس الدولة، ولكنه محكوم بضوابط وقواعد لا يمكن تجاوزها والقفز فوقها اعتباطاً، ولا يمنح مكتبه أي سلطة للتدخل في التعيينات إلا في أضيق الحدود، وبعد الالتزام بالمعايير الدستورية، وحينها يمكن صب جام الغضب على وزارة الخارجية ودبلوماسييها الأصليين، وكم أشعر بالحزن حين ألتقي شباناً من الكادر الأصلي، وهم يعيشون حال قلق مستدام من المستقبل الذي ينتظرهم بعد أن أزاحهم الوافدون من خارج الكادر واستولوا على مواقعهم.
لا يهتم كثيرون بالتساؤل حول المعضلة الحقيقية التي يعانيها كل العاملين في السلك الدبلوماسي، وهي عدم قدرتهم على التخطيط للمستقبل، ولن يكون بالإمكان استيعابهم في مقر الوزارة المؤقت بعدن، ولن تتمكن من استمرار الإنفاق عليهم بعد أن تنتهي فترات عملهم، فلا يعلمون أين مستقرهم التالي، وفي وضع نفسي كهذا، كيف يمكن أخلاقياً مطالبتهم بتحقيق إنجاز خارجي هو صورة مرآة لأوضاع داخلية غير مستقرة ولا معروفة مساراتها ولا كيف يتم توجيهها.