Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قوارب الهجرة خشبة خلاص أخيرة للبنانيين

التدهور الاقتصادي السريع ينذر باعتماد مزيد من الشبان خيار محاولة التسلل إلى أوروبا

منذ أربعة أشهر كان اللقاء الأخير بين أربعة من الشبان وذويهم. في تلك الليلة الصيفية، خرجت مجموعة من أبناء شمال لبنان في رحلة اعتقدوا أنها "رحلة الخلاص" نحو أوروبا. انطلق القارب من شاطئ المنية (يبعد عن طرابلس 10 كيلومترات)، إلا أن هؤلاء تعرضوا للخداع من قبل المهرب، الذي لم يزوّد قاربهم بمادة المازوت. وبعد أن ضلوا طريقهم في عرض البحر، ونفد الوقود، بدأت المعاناة، وتحول الركاب إلى ضحايا، يتسابقون في النزول إلى الماء من أجل إيجاد وسيلة نجاة لرفاقهم.
وبعد أن عثرت قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان (يونيفيل) على الناجين في المياه الإقليمية الجنوبية، عاد العديد منهم إلى بيوتهم، بينما لفظ البحر ست جثث لأفراد من ركاب القارب (ثلاثة لبنانيين، سوريين، وهندي). ولا يزال أربعة ركاب في عداد المفقودين هم "عبد اللطيف حياني، مصطفى ضناوي، محمد المحمد، وهشام صوفان". ويعيش أهالي المفقودين على أمل اللقاء من جديد، لأنهم "لو غرقوا، لكان البحر لفظهم، أو طفت أجسادهم على وجه الماء".

حلم الهجرة

ينتمي الشبان المفقودون إلى أحياء القبة، الراهبات، السويقة، وهي تجمعات سكانية فقيرة في مدينة طرابلس، إضافة إلى بلدة ببنين العكارية. ويجمع بينهم انتماؤهم إلى عائلات محدودة الحال، أحاط بهم العوز من كل جهة. خسر هؤلاء فرص عملهم في الحرف والأعمال اليدوية، وعزموا على الهروب نحو أوروبا للتخلص من واقعهم، وتحسين أوضاع عائلاتهم. عاشوا في منازل ضيّقة، وسط بناء عشوائي، بينما حُرموا من نوعية جيدة في الحياة والتعليم. استدانوا المال، من أجل دفع البدل للمهرِّب الذي امتهن "تجارة الموت".
ويعتقد بعض الناجين أن العودة إلى لبنان، شكلت فرصةً لحياة جديدة بعد تجربة صعبة مروا بها. بينما يصر آخرون على الخروج من لبنان، ويبحث الناجي، إبراهيم لاشين عن فرصة عمل خارج لبنان، وحتى وإن كان في دولة أفريقية. وعبّر لاشين عن معاناة الشباب من أبناء الأحياء الشعبية، لأن "الأفق مسدود أمامهم، ولا يملكون فرصة عمل أو الحد الأدنى من الدخل المادي". وإلى ذلك الحين، قرر بدء حياة جديدة، حيث تسجل في نادٍ رياضي لتقوية جسمه، داعياً إلى النظر بإيجابية إلى الحياة ومحاولة تجديدها. فهو خاض تجربة قاسية أثناء سباحته في عرض البحر، أفلح بآخرها في إنقاذ باقي الركاب.
ألم الفراق

لم تفلح الأيام في تضميد ذاكرة الآباء والأمهات، الذين ما زال ألم الفراق حاضراً في قلوبهم ويزداد، ولسان حالهم "أعيدوا إلينا أبناءنا من البحر". تؤكد سميرة الشامي والدة عبد اللطيف حياني أنها "تعيش على المهدئات"، وما زالت لا تحتمل فكرة سفر ابنها في البحر قبل أن يودعها. وتروي سميرة أن عبد اللطيف البالغ من العمر 23 عاماً، حاول الهرب إلى أوروبا، عندما كان عمره 18 عاماً. وتوجه إلى تركيا عبر المطار، محاولاً الانتقال إلى اليونان، ومن ثم بلوغ ألمانيا، حيث يُقيم شقيقان له. إلا أن رحلته الأولى باءت بالفشل، إذ اعتُقل وأُعيد إلى لبنان.

ردد عبد اللطيف على مسامع أمه وشقيقاته، أنه ينوي للسفر إلى أوروبا. ولم تأخذ الوالدة ذلك على محمل الجد، لأن ابنها كان يُعيل العائلة، "وبعد أن فقد عمله لم يعُد بإمكانه تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الحياة". إلا أن شقيقته "جميلة" تُقر بأنها ساعدته من دون علم أمها، فهي كانت الصديقة المقربة لشقيقها. وباعت جميلة بعض "قطع الصيغة والذهب" التي تملكها، فيما أمّن هو مبلغاً إضافياً عن طريق الاستدانة.
خرج عبد اللطيف مع صديقه محمد الحصني، وابن خالته مصطفى الضناوي في رحلة الهروب نحو قبرص، لكنها ضلت طريقها، واتجهت جنوباً. وتوضح سميرة الشامي أن ابنها كان يتجهز لرحلة الهجرة، فقد تدرب على السباحة لمسافات طويلة خلال الصيف الماضي. وكان يؤكد لها أنه سيخرج من البلاد مهما كلفه الأمر، لأنه بلغ مرحلة اليأس، وعلمت بسفره من دون أن يخبرها بعد انطلاق القارب.

وبعد اختفاء الشباب بأربعة أيام، تلقت العائلة اتصالاً من قبل المهربين. وتحدثت الشقيقة جميلة عن "وقاحة المهرب"، إذ اتصل بهم ليبلغهم أن "الشبان وصلوا إلى قبرص، وتم وضعهم في الحجر الصحي، وطالبهم بدفع الجزء الثاني من بدل التهريب". وتتحسر على الشباب الذي بلغ مبلغ اليأس، وتقول "يظنون أنهم ذاهبون لجمع أكياس الذهب في ألمانيا، ولا يعلمون أنهم يعيشون على إعانة الدولة هناك، ويُعرضون مستقبلهم وحياة عوائلهم للخطر".
أما سميرة، فتطمح للقاء ابنها مجدداً، وتصديق الرؤيا التي تأتيها ليلاً، حيث يطالبها ابنها بالبحث عنه وإعادته إلى مدينته وأهله.

الصورة للذكرى

لا تختلف قصة مصطفى الضناوي عن قصة رفيقه عبد اللطيف من ناحية الهروب من واقع الفقر. إلا أن مصطفى لقي مساعدةً من والدته للخروج من لبنان. وتروي منى والدة مصطفى، أن ابنها كان يعمل في المرفأ قبل أن يتم صرفه من العمل. وشعر الشاب حينها أنه تحول إلى عبء مالي على عائلته، استدان جزءاً من البدل المالي ليصعد على متن القارب، فيما جمعت والدته مبلغاً من المال لدعمه. وتُشير منى إلى أنها ظنت أن ابنها سيتمكن من بلوغ قبرص على غرار ما حصل مع شبان آخرين ركبوا قوافل الهجرة، ووصلوا إلى قبرص وبعدها إلى أوروبا.
أما فواز الضناوي، والد مصطفى فيعيش ضغطاً نفسياً كبيراً على فراق ابنه، ودفعه الشوق إلى تكبير صورة لابنه "الممتلئ شباباً وقوة". ويلتمس الوالد "عُذراً لكل الشباب في لبنان، لأنهم بلغوا مرحلة اليأس، ويُدفَعون دفعاً نحو الانتحار، أو تعاطي المخدرات، أو الجريمة، وأمام هذه الخيارات تبقى الهجرة أهون الشرور".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


أعيدوا أبناءنا

يعيش الأهل على أمل عودة الأبناء، لأن عدم العثور على جثثهم في البحر، هو في حد ذاته مؤشر إلى الحياة. ويظن الأهل أن أولادهم "قد يكونون معتقلين في مكان ما". وفي هذا الصدد، تطالب جميلة حياني شقيقة عبد اللطيف أن يتم "التعامل مع شبابهم كما حصل مع "دجاجة حسين" حيث استنفرت كل الأجهزة الإعلامية والسياسية للمطالبة بإعادتها من إسرائيل، فيما لا يحصل أبناء الشمال على أي اهتمام".
من جهته، لا يعول فواز الضناوي على تحرك السلطة لجلاء مصير الشبان الأربعة، لأن "مَن لم يتحرك لإقرار العدالة لـ200 ضحية وأكثر من 6 آلاف جريح في جريمة المرفأ، فلن يتحرك من أجل أبناء المناطق المهمَشة". لذلك يتطلع الأهل إلى دور استثنائي تلعبه قوات حفظ السلام الدولية (يونيفيل)، ومدير عام الأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم الذي نجح في إتمام عدة وساطات لإعادة مخطوفين إلى بلدانهم، كملف "راهبات معلولا". كما يطالب الأهالي برفع أي شكل من أشكال الحماية للمهربين (من عائلتي "ص"، و"خ") الذين تاجروا بالأرواح، وعدم الاكتفاء بالوسيط الموقوف (ب. ق).
ويشير خلدون المحمد والد المفقود محمد المحمد إلى أن العائلة لم تتلقَ أي اتصال من ابنها منذ انطلاق القارب. ويستند إلى "معلومات صحافية غير مؤكدة تقول، إنهم قد يكونون في إسرائيل". وكشف خلدون المحمد عن لقاء جمعهم بالعقيد خطار ناصر الدين رئيس مكتب الأمن العام في الشمال، طالبوا خلاله اللواء عباس إبراهيم بمهمة جلاء الحقيقة في ملف أبنائهم المفقودين.
في موازاة ذلك، أنجزت قاضي التحقيق في الشمال سمراندا نصار تحقيقاتها في الملف، وتؤكد أوساط مقربة منها أن "القرار الظني سيصدر قريباً، وسيتضمن كل تفاصيل الملف".
في سياق متصل، كشف جمال صوفان، شقيق المفقود هشام صوفان ابن بلدة ببنين (قضاء عكار، شمال لبنان)، أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي تواصلت معه منذ شهر من أجل إعداد ملف لشقيقه المفقود. وطالب بتحرك سريع من أجل عودة شقيقه، الأب لطفلين، "والذي لم يخرج من أجل مخالفة القانون وإنما بسبب الحالة المعيشية الصعبة التي تعيشها أسرته، وعموم أبناء ببنين الذين يعملون في مجال الصيد البحري".

الهيئة الوطنية للمفقودين

من جهة أخرى، أنعش ملف مفقودي الهجرة غير الشرعية الذاكرة، وأعاد إلى اللبنانيين ذكريات حقبة الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، وشهدت موجة إخفاءات قسرية. وحمل عام 2020 بادرة إيجابية في نظر أهالي المفقودين عندما أقرت الحكومة اللبنانية في 18 يونيو (حزيران) 2020، تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، ويسهم تشكيل هذه الهيئة في جلاء مصير 17 ألف لبناني من المفقودين قسراً. وشكّل هذا القرار الحكومي أولى خطوات تنفيذ القانون رقم 105، الذي أقره مجلس النواب اللبناني في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 في هذا الشأن.

وصرحت الناشطة وداد حلواني، الناطقة باسم أهالي المفقودين في لبنان، بأن الهيئة أطلقت عريضةً في 13 أبريل (نيسان) 2017، في ذكرى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، أسهمت في إقرار القانون رقم 105/2018، إذ وقّعها نحو 5 آلاف لبناني من بينهم رؤساء أحزاب وكتل نيابية للمطالبة بإقرار مشروع قانون تشكيل الهيئة الوطنية المستقلة للكشف عن مصير كل المفقودين في لبنان.
تطوي 2020 صفحاتها الصادمة وتجاربها القاسية، ولكن تستمر آثارها راسخة في نفوس أهالي الشبان الذين يعيشون على أعصابهم، ويساورهم القلق، إذ إن الفقر الذي يعيشون فيه سيدفع أبناءهم إلى المخاطرة بحياتهم في كل لحظة على وقع التدهور الاقتصادي السريع، بينما يأمل أهالي المفقودين عودة فلذات أكبادهم، الذين عرضوا أنفسهم للخطر من أجل نيل الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة.

المزيد من تقارير