Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يستمر العفو الرئاسي الأميركي في دولة يحكمها القانون؟

ترمب أقل من استخدمه لكن منحه المقربين والموالين يعرضه للانتقاد

لم تشكل إضافة الرئيس دونالد ترمب 26 عفواً جديداً، الأربعاء، 23 ديسمبر (كانون الأول)، إلى قائمة تضم 15 عفواً أعلن عنها، الثلاثاء، مفاجأة للكثيرين الذين يتوقعون مزيداً من قرارات العفو الرئاسية خلال أيام ترمب الأخيرة في البيت الأبيض، لكن ما يزيد الصخب الواسع في دوائر السياسة الأميركية أن غالبية قرارات العفو التي أصدرها ترمب، والتي تعد الأقل مقارنة بالرؤساء السابقين، كانت في خدمة المقربين السياسيين والذين تربطه بهم علاقة شخصية وبعضهم أدينوا أو أقروا بالذنب في جرائم فساد أو مذابح، بينما استخدم الرؤساء السابقون سلطة العفو في معظم الأحيان، لمعالجة الظلم المنهجي، مثل الأحكام التي قامت على أساس عنصري، أو لمعالجة انتقادات سياسية مثل قرار الرئيس كارتر بالعفو عمن غادروا الولايات المتحدة لتجنب الخدمة العسكرية في فيتنام، فما سلطة العفو، وما جذورها، وهل تتناقض مع الديمقراطية في دولة يحكمها سيادة القانون؟

قوائم متزايدة

عفا ترمب في قائمة من 26 شخصاً عن حليفه القديم روجر ستون ورئيس حملته السابق بول مانافورت، وتشارلز والد صهره جاريد كوشنر كبير مستشاري البيت الأبيض، كما عفا في قائمة سابقة عن أعضاء سابقين في الكونغرس أقروا بالذنب في جرائم فساد، ومتعاقدين عسكريين أدينوا بالمشاركة في مذبحة في العراق، إضافة إلى مجموعة من الأصدقاء والموالين، في حين يتوقع أن يمنح ترمب المزيد من العفو خلال الأيام المتبقية له في المنصب، لتشمل شخصيات أخرى مثل الجاسوس السابق إدوارد سنودن ومحاميه الشخصي رودي جولياني وأبناء ترمب، بل قد يمنح نفسه عفواً رئاسياً على الرغم من الجدل حول قانونية ذلك.

وبينما يصدر جميع الرؤساء عفواً مثيراً للجدل في نهاية فترة ولايتهم، يبدو أن ترمب يتحرك بوتيرة أسرع من أسلافه، ولا يظهر أي ممانعة في مكافأة أصدقائه وحلفائه باستخدام واحدة من أكثر سلطات منصبه غير المقيدة.

الأقل عفواً

وبدأت الأسئلة حول استخدام الرئيس ترمب سلطة العفو بمجرد توليه منصبه في 2017 لكن مع ذلك، يظل حتى اللحظة أقل من مارس سلطة العفو أو تخفيف الأحكام بحق مدانين منذ الرئيس ماكينلي في مطلع القرن الـ20، وعلى سبيل المثال، تشير دراسة أجراها مركز "بيو" للأبحاث إلى أن الرئيس السابق باراك أوباما منح 212 عفواً و1715 تخفيفاً على مدى ثماني سنوات من حكمه مقارنة بـ70 عفواً منحها ترمب خلال سنوات حكمه الأربع حتى الآن.

أول وأشهر عفو

وليس من الغريب أن يستخدم الرئيس سلطة العفو، فقد استخدمها جميع الرؤساء الأميركيين بمن فيهم الرئيس الأول جورج واشنطن، الذي أصدر أول عفو للمزارعين الذين قادوا تمرداً يسمى تمرد الويسكي، بينما جاء أكثر قرارات العفو شهرة من الرئيس جيرالد فورد الذي أصدر عفواً لسلفه الرئيس ريتشارد نيكسون بعد فضيحة "ووترغيت" التي دفعت نيكسون إلى الاستقالة، ولهذا يتوقع البعض أن يقرر ترمب الاستقالة كي يتولى نائب الرئيس مايك بنس منصبه ويفعل الشيء نفسه، أي يعفو عن ترمب بما يحميه من أي قضايا فيدرالية ضده في المستقبل.

ولم يكن ترمب أول من يثير الجدل بقراراته، فقد فعل كثير من الرؤساء السابقين الشيء ذاته وأثاروا الجدل بقرارات عفو أصدروها، مثل قرار الرئيس كلينتون الذي عفا عن مصرفي هارب وحليف سياسي له هو مارك ريتش، وقرار الرئيس ريغان بالعفو عن جورج شتاينبرينر مالك مؤسسة "نيويورك يانكيز" لمساهماته السياسية غير القانونية، كما تعرض الرئيس أوباما لانتقاد مماثل حين قرر تخفيف عقوبة تشيلسي مانينغ، التي سربت أسراراً عسكرية.

ما العفو الرئاسي؟

يعني العفو من الرئيس إعفاء الشخص عن الجرائم الفيدرالية التي ارتكبها أو ربما يكون قد ارتكبتها، ويمكن العفو حتى عن الأشخاص الذين لم توجه إليهم اتهامات بعد في قضية ما، لكن العفو لا يمحو سجل الإدانة، غير أنه يلغي أي عواقب مصاحبة مثل قيود التصويت في الانتخابات أو شراء سلاح.

ويمكن للرئيس أيضاً إصدار تخفيفات لأحكام صادرة ضد أشخاص، والتي يمكن أن تخفف عقوبة السجن أو تنهيها تماماً، لكن عمليات التخفيف لا تلغي العواقب الأخرى التي تصاحب الإدانة، ومن الناحية التقليدية، يجب على الشخص الذي يسعى للحصول على عفو من الرئيس، تقديم طلب إلى وزارة العدل، غير أن الرئيس ترمب تجاهل على ما يبدو تلك العملية الرسمية وأصدر عفواً بناء على أهوائه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا عفو في أي ولاية

ولا يملك الرئيس الأميركي العفو عن جرائم تقع في أي ولاية من الولايات الأميركية لأنها تخضع لقانون الولاية وليس للقانون الفيدرالي، ما يعني أن ولايات مثل نيويورك، والتي تُجري تحقيقات في نشاط غير قانوني محتمل من قبل ترمب وأسرته، لا يستطيع الرئيس التدخل فيها بأي شكل من الأشكال.

أسئلة جدلية

ونظراً للصخب الذي تثيره قرارات العفو الرئاسي بين رئيس وآخر، تفجرت أسئلة عديدة حول المنطق الذي يحكم قرارات العفو، وهل يجب أن تكون سلطة العفو في حدود تقدير الرئيس فقط، أم يجب أن تكون هناك قيود على من يمكنه العفو؟

ووسط هذا الجدل العام يثار سؤال أكثر جوهرية هو: هل يجب أن تكون هناك سلطة عفو رئاسي على الإطلاق في ديمقراطية تحكمها سيادة القانون، وما الغرض من العفو بعد كل شيء؟

جذور العفو الرئاسي

يُعرف قاموس "بلاك" للمصطلحات القانونية، سلطة العفو على أنها "عمل من أعمال النعمة والفضل الذي يعفي الفرد من العقوبة التي يفرضها القانون على جريمة ارتكبها"، وعلى الرغم من أن سلطة العفو قد تكون قديمة قدم السياسة، فإن جذور العفو الرئاسي في الولايات المتحدة تعود في الأصل إلى القانون الإنجليزي.

ووضع البرلمان الإنجليزي سلطة العفو المطلقة في يد الملك هنري الثامن عام 1535، لكن في القرون التي تلت ذلك، فرض البرلمان بعض القيود على هذه السلطة، ومنع العفو عن الجرائم البشعة والعفو في أثناء المساءلة بغرض العزل من السلطة.

واتبع الآباء المؤسسون للولايات المتحدة النموذج الإنجليزي في تحديد صلاحيات السلطة التنفيذية في المادة الثانية من دستور الولايات المتحدة، وتمنح الفقرة الثانية من هذه المادة الدستورية، الرئيس الأميركي على وجه التحديد سلطة إرجاء التنفيذ والعفو عن الجرائم ضد الولايات المتحدة مع تقييد واحد فقط لهذه السلطة وهي حالات الإقالة.

هل يتناقض العفو مع الديمقراطية؟

وخلال مناقشات الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، جرت مناقشة عام 1788، عبر فيها جورج ماسون الذي كان يمثل ولاية فرجينيا، عن قلقه من سلطات العفو المطلقة في القانون الإنجليزي باعتبارها تمثل تهديداً للديمقراطية الأميركية الناشئة، وقال إن الرئيس يجب ألا يتمتع بسلطة العفو، لأنه قد يعفو في كثير من الأحيان عن الجرائم التي طلبها بنفسه، مُعبراً عن مخاوفه من أن يحدث ذلك في يوم ما مستقبلاً.

غير أن جيمس ماديسون دافع عن هذه الصلاحية، مفترضاً أن الرئيس سيمارس هذه السلطة بحذر، وأن تقييد سلطة العفو في حالات المساءلة والإقالة، سيكون ضمانة كافية ضد الانتهاكات الرئاسية في المستقبل.

المفهوم السياسي للعفو

ويرتبط المفهوم السياسي للعفو بالمفهوم اللاهوتي للرحمة الإلهية أو العفو من الله صاحب القدرة المطلقة، إذ عَرفت المحكمة العليا الأميركية، العفو بأنه عمل شرف ونعمة في حكم لها صدر عام 1833 في قضية بين الولايات المتحدة وويلسون، وكما يمنح الله الحياة ويأخذها في الديانات الإبراهيمية الثلاث، "الإسلام، واليهودية، والمسيحية"، أصبح للرؤساء والملوك أحقية قانونية في التصديق على الإعدامات وممارسة العفو.

ويشير كتاب "ليفياثان" للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الصادر عام 1651 إلى أنه مثلما يغفر الله تجاوزات عباده الراغبين في التوبة، يجب على صاحب السلطة إظهار النعمة من خلال العفو عن إساءات أولئك الذين يريدون التوبة.

لكن محاولة تشبيه العفو الإلهي الذي يمكن أن يمنحه الله لجميع عباده، ليس من الممكن تطبيقه على الأرض لأنه يتعارض مع المبدأ القانوني المتمثل في معاملة الحالات المختلفة من الجرائم والتجاوزات بشكل مختلف بحسب نوع كل جريمة، وإذا كان لا بد من التسامح عن كل التجاوزات والانتهاكات كما هي الحال في العفو الإلهي، فيجب أيضاً أن يعفو قادة الدول عن جميع الجرائم بالتساوي.

وإذا تحقق ذلك، وأصبح العفو للجميع بالتساوي، لن يتم التمييز بين الذي أدين بشكل خطأ والذي أدين عن حق، ولن يتم التمييز بين المجرم التائب والمجرم غير التائب، وبالتالي فإن العفو العام ينتهك المبدأ القانوني الذي يقضي بأن يحصل كل فرد على حقه، ولأنه من المستحيل في القانون، العفو عن كل الجرائم وجميع المذنبين.

العفو المتخفي

غير أن ما أدركه توماس هوبز وغيره من الفلاسفة والمفكرين، هو أن سلطة العفو ضرورية للحياة السياسية بقدر ما هي ضرورية لحياة الناس الشخصية، استناداً إلى أن العفو يساعد في التغلب على نزاعات الماضي، ويفتح الطريق للسلام والمصالحة مع الآخرين، وأن فعل التسامح، من شأنه أن يسمح للناس بالبدء من جديد وخلق مستقبل جديد لهم كما تقول حنة آرنت التي تعد واحدة من أبرز فلاسفة السياسة في القرن الـ29.

ولكن كيف يمكن التوفيق بين الحاجة للتسامح، واستحالة تطبيق العفو مع كل شيء؟

يجيب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور عن هذا السؤال بطرح ما سماه "التسامح المتخفي" وهو ما يترجم حرفياً إلى كلمة العفو باللغة الفرنسية (باردون)، ويعترف بصعوبة تحويل العفو إلى قاعدة قانونية شاملة، ولهذا اقترح ريكور أن العفو لا يمكن أن يوجد إلا كاستثناء من القواعد والمؤسسات القانونية، وهي رؤية أشار إليها القاضي مارشال في حكم المحكمة العليا الأميركية عام 1833 حين أوضح أن العفو هو إجراء رسمي خاص، يقوم به الحاكم أو المسؤول التنفيذي، ويسلمه إلى الفرد صاحب المصلحة، ولا تُبلغ المحكمة رسمياً به، ولهذا يظل العفو مستتراً أو متخفياً، بمعنى أنه عمل لم يمر عبر القنوات والمؤسسات القانونية.

العفو وانتقال السلطة

وفي هذه الأيام الأخيرة من إدارة ترمب، يقدم هذا العفو المتخفي تذكيراً بالحاجة إلى العفو وكذلك بالقيود المفروضة عليه، إذ ينطوي الانتقال الديمقراطي للسلطة دائماً على هذا العفو الذي قد يسمح ببداية جديدة يمكن للمجتمع من خلالها الاعتراف بالتجاوزات السابقة للإدارة المنتهية ولايتها، على أمل البدء من جديد.

وعلى الرغم من أن منتقدي الرئيس يرفضون إجراءات العفو الفردية التي منحها ترمب في الماضي أو قد يمنح المزيد منها خلال الأيام المقبلة، فإنه لا ينبغي للمجتمع الأميركي كما يقول خبراء القانون أن يتخلى عن سلطة العفو التي تجدد الأمل في الديمقراطية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل