Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تطويب الجيش!

التجلي القوي في منطقة الربيع العربي هو العنف والإرهاب الديني المتطرف

"الجماهير السودانية تعتصم عند حائط المبكى… الجيش السوداني" (رويترز)

 

"الحرية... الحرية ... لا حكومة عسكرية"، الهتاف الذي تدفق من حنجرتي، كنت في مقتبل العمر، ومحمود أخي الأصغر يُردد خلفي، والطلبة يُسيطرون على شارع الاستقلال بمدينة بنغازي فبراير (شباط) 1975، وعندئذ تعددت التظاهرات ضد النظام العسكري الذي حكم البلاد عقب انقلاب سبتمبر (أيلول) 1969، وهذا النظام حوله العقيد معمر القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة إلى نظام شعبوي ناصري الهوى، وجعل يستعيد أساليب الزعيم جمال عبد الناصر.

التظاهرة خرجت ضد ما عُرف بالتدريب العسكري في الجامعات والمدارس والتدريب الشعبي العام، فالعقيد القذافي في صراعه على السلطة مع زملائه أراد عسكرة البلاد عن بكرة أبيها، وعليه إلغاء الجيش الرسمي ما حدث فعلاً، ومن هناك بقي معمر القذافي برتبة (العقيد)، حتى قتلته الجماهير التي عسكرها، كان شعاره "الشعب المسلح غير قابل للحصار، غير قابل للهزيمة" التي استقاها من نظرة المفكر صادق النيهوم.

بعد هذه الواقعة بسنوات قليلة كنت في السجن، والتقيت جماعة من "حزب التحرير الإسلامي"، وفي الزنزانة يحاذيني أمير الجماعة (حسن الكردي)، من أعدمه القذافي في ما بعد، وقد ذكر لي أنه في مقتبل عمره انضوى تحت جماعة (الإخوان المسلمين)، وأنه في ستينات القرن الماضي تلقى تدريباً عسكرياً على يد (الشيخ الشويطر) أحد قادة الجماعة، ومن كان يقدم الدروس الدينية عبر الإذاعة الليبية حينها، ومن (الكردي) عرفت أن الجماعات الدينية تعمل من أجل خوض الجهاد (الكفاح المسلح) لاستعادة الخلافة.

لحظتها على الطاولة أن الطريقة للاستيلاء على السلطة كما تحرير البلاد (البندقية)

الحقيقة التاريخية أن الجيوش في عالم الدول المستعمَرة خرجت من عباءة الدولة المستعمِرة، وعلى شاكلة جيوشها وحاملة سلاحها وأساليبها، وأن حركات التحرر والجهاد استعارت الكفاح المسلح وأساليبه من الحركات اليسارية (الأوروبية)، التي هي مصدر السلاح أيضاً. وأنه عقب ذلك الاستقلال، تعاقبت هذه الجيوش السيطرة على السلطة في تلك البلدان المستقلة إلا القليل منها، ومن هناك انقسمت تلك البلدان إلى جماعة عسكرية مسيطرة تقريباً على السلطة، وجماعات مدنية متفرقة تعارضها، سرعان ما برزت عليها الجماعات الدينية المسلحة.

وعليه منذ الاستقلال عاشت هذه البلدان تلك الانقسامات، فنجحت دول منها في الخروج من بوتقة هذا الصراع المحموم على السلطة، ولم يبق إلا الشرق الأوسط خصوصاً المنطقة الإسلامية وعلى الأخص العربية منها.

أي تغيير؟

وما بين يوم الاستقلال التحرير ويوم الربيع العربي 2011، اتخذ المسار شكلاً أوحد من الصراع لم تشارك فيه الجموع إلا ما ندر، لكن منذ يناير (كانون الثاني) 2011 انقلب مسار الصراع على السلطة في المنطقة العربية خصوصاً، وبدا أن الشعوب قائدة التغيير لكن أي تغيير؟

سيناريو 2011 تمشهد على الشاشات الفضية العالمية، كبشر على الأرض تغص بهم ميادين التحرير، والمحكمة، وفي مليونية جمعوية، والميديا الغربية الطاغية استعارت نعت هذا التمشهد (الربيع العربي) من (ربيع براغ) ضد الاتحاد السوفييتي عام 1968، ما انتهى باحتلال الجيوش السوفيتية لـ (براغ).

الشعب يريد إسقاط النظام

كان الهتاف المليوني الجمعوي: الشعب يُريد إسقاط النظام، ففي بلدان منها تم تحت رعاية الجيش، فالشعب والجيش يد واحدة، وفي أخرى اندلع قتال أهلي، وعليه في الأولى سقط النظام بشكل سلمي، بينما في الثانية انقسمت البلاد على نفسها. وبهذا بدا وكأن وسيلة إسقاط النظام بالانقلاب العسكري التقليدي قد عفا عنها الزمن، وأن (عصر الجماهير) كما في نظرة (العقيد القذافي) قد هيمن كوسيلة عمومية لإسقاط النظام؟

بعد 20 سنة من (ربيع براغ) لم يسقط النظام في براغ فحسب، لكن سقط النظام السوفيتي جملة وتفصيلاً، وفي الربيع العربي بعد سنوات سبع عجاف اندلعت موجة ثانية من الشعوب التي استعادت شعار الموجة الأولى: الشعب يريد إسقاط النظام. وجرى تأكيد أن الشعب والجيش يدٌ واحدة، في أفريقيا العربية مثلث مستعاد، ليبيا فيها جيش يحاصر العاصمة وحولها شعب في الجزائر، وفي السودان يطوب الجيش، وهكذا تمظهر يعلل بالخوف من مؤدي المسار الأول للربيع العربي في (سوريا وليبيا واليمن).

الخوف والجوع

التجلي القوي في منطقة الربيع العربي هو العنف والإرهاب الديني المتطرف، أي فقدان الأمن، فالوقوع في فخ (الخوف والجوع)، إذ إن من خاف جاع، لكن إن كان (ربيع براغ) خاتمته غير مسك الاحتلال السوفيتي المباشر والسكوت الدولي علامة الرضى، فإن (الربيع العربي) مآله في النتيجة مآل (ربيع براغ)، أي بزوغ (عاجل) لصيف حارق خارق مارق، ما طال شراره العالم، فظهرت الشعبوية في الدول الديمقراطية الغربية واليمين المتطرف، وفي الشرق الاستبداد العابر للصندوق كما في تركيا وماليزيا، إذا العالم غير العالم ما بعد الربيع العربي.

"أعرف تختلف كثيراً عن أستطيع"

الحقيقة المغيبة أن البشرية تحقق ما تستطيع وليس ما ترغب وما تريد، وعلّ ما سمي بالوعي الجمعي الأكثر تجلياً في النتيجة، فالجماهير السودانية تعتصم عند حائط المبكى… الجيش السوداني، في ما الجزائر تخاف ما ذاقت في العشرية السوداء، ولذلك تريد من جيشها البرد والسلام، أما ليبيا البطن الرخو والضلع الأعوج فتحصيل حاصل ما يحاصرها، في الموجة الأولى تونس ومصر، وفي الثانية الجزائر بَدءاً ثم السودان، ولهذا تدفع قوى دولية وإقليمية على الرغم من قعقعة متحدثيها الرسميين.

ومن غرائبية ما يحدث هو (المجهول) كما في عالم الطيران المغير، وكما الجهات الأمنية السودانية، المجهولة، التي واجهها الجيش المدافع عن المعتصمين السودانيين في كنفه، وعليه فإن ما سيحدث لن يُقرأ إلا تحت باب المجهول، وقد قال حكيم: أنا أعرف متى أتوقف، وأعرف متى أترك الشيء يمضي، وأعرف متى أغادر، لكن "أعرف" تختلف كثيراً عن "أستطيع".                         

المزيد من آراء