Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا تجهل المكتبة العربية أدب كوريا الجنوبية؟

روايات مترجمة تلقي ضوءاً على واقع الحركة السردية المعاصرة

في إحدى ساحات سيول في كوريا الجنوبية (غيتي)

يعتبر الأدب الكوري أدباً غريباً عن معظم القراء العرب على خلاف الأدب الصيني أو الياباني، فعدد الأعمال المترجمة قليل جداً، عدا عن أن النصوص لم تستحوذ على اهتمام دور النشر العربية آنفاً. وبينما اتجه القراء العرب عموماً إلى أدب أوروبا والغرب بالمطلق، كان هناك أدب كوري ينشأ في الشرق الأقصى بمعزل عن نظريات النقد الأوروبية والتيارات الأدبية التي حكمت الرواية الغربية والرواية العربية أواخر القرن الـ 20.

وكان هذا الواقع صحيحاً حتى بدايات القرن الحالي، فمنذ سنوات قليلة بدأت تظهر أعمال مترجمة عن الكورية من قصص قصيرة وروايات، بفضل المجهود الذي يقوم به معهد ترجمة الأدب الكوري الذي تم إنشاؤه العام 2001. وهذا المعهد هو مؤسسة رسمية حكومية أنشئت لدعم حركة ترجمة الأعمال الكورية ونقلها إلى لغات أخرى، والتعريف بالأدب الكوري في مختلف أقطار العالم. فشرعت كل من دار صفصافة في مصر ودار التنوير اللبنانية  والدار العربية للعلوم - ناشرون بنشر عدد من النصوص لكتّاب يعتبرون كلاسيكيين في تاريخ أدب كوريا الجنوبية، مثل الكاتب والناقد كيم نام تشون (1911-1953) ولي جوانغ-سو (1892-1950) الذي يعتبر صاحب أول رواية موضوعة بالكورية. ومن الروايات المترجمة رواياتان للكاتبة المعروفة هان كانغ صدرتا عن دار التنوير وهما "النباتية" التي نالت جائزة بوكر البريطانية العام 2016 وقد نقلها عن الكورية إلى العربية محمود عبد الغفار ورواية "الكتاب الابيض" التي ترجمها محمد نجيب.

وظهرت في السنة الفائتة وحدها مؤلفات ومجموعات قصصية عدة، منها مثلاً رواية "رسائل إلى صديق شاب" للروائي السابق الذكر لي غوانغ- سو (ترجمة كيم يون-جو، دار صفصافة، 2020) ورواية "الشعير" للكاتب والناقد كيم نام تشون الذي عني في نصوصه أكثر ما عني بشؤون الطبقة العاملة والكادحة من المجتمع (ترجمة محمد جلال، دار صفصافة، 2020)، ورواية "ملح" للروائية كانغ كيونغ آي، المدافعة عن حقوق المرأة في كوريا (ترجمة محمد جلال، دار صفصافة، 2020). وقد صدرت إضافة إلى هذه الروايات القصيرة نسبياً، مجموعة قصصية فيها نصوص لكل من هيون جين-غون، تشاوي سو-هيه، تشاي مان-سيك.

وبحسب المترجمة جونغ جو لي، المسؤولة عن شؤون العالم العربي وجنوب آسيا في المعهد، فإن عدد الأعمال المترجمة من اللغة الكورية إلى اللغة العربية بدأ يزداد بوضوح منذ العام 2019، فعدد العناوين الجديدة التي قرر المعهد دعم ترجمتها إلى اللغة العربية جيد مقارنة بالسنوات السابقة (ثمانية أعمال للعام 2019 وستة أعمال للعام 2020). وأشارت جونغ جو لي أن معهد الترجمة يرغب أيضاً في تقديم أعمال الكتّاب الكوريين الشباب إلى القارئ العربي، لكن عدد المترجمين إلى العربية محدود ولا يمكن القيام بكل الترجمات في الوقت نفسه.

فيجد القارئ العربي نفسه اليوم وفي هذه المرحلة الأولى من مشروع الترجمة عن الكورية، أمام نصوص تعود بمجملها إلى فترة الاستعمار الياباني لكوريا، أي بين العامين 1910 و1945، وهي المرحلة التاريخية التي سيطر فيها نفوذ اليابان على كوريا التي لم تكن دخلت بعد حربها الأهلية (1950-1953)، ولم تكن قد قُسمت بعد إلى شمالية وجنوبية.

القيم الأخلاقية والخير العام

يتنبّه قارئ الأدب الكوري الكلاسيكي إلى ميل الكتّاب وشخصياتهم إلى الخير العام والفضيلة والخصال الحسنة، فالقيم الأخلاقية والروحية تمتزج وتنصهر لتكون شخصيات سامية وطنية طيبة لا تغضب ولا تخطئ ولا تسيء إلى المحيطين بها. حتى إن الراوي في رواية "رسائل إلى صديق شاب" يقرر أن يتمسك بالحياة لينهض من الحمى الشديدة التي أصابته لمجرد العمل من أجل أمته فيقول: "وما أنقذ حياتي هو اعتزامي أن أبذل كل ما لدي من أجل الشعب الكوري. وقررت أن أكرس حياتي لتنوير شعبنا مثلما يكرس خائبو الأمل الآخرون حياتهم في الأعمال الخيرية. ونتيجة لذلك، استطعت أن أجد أملاً وطاقة جديدة." (ص50).

تسبك الروايات الكورية شخصيات تعاني الفقر والذل والقهر، لكنها على ذلك لا تخرج عن الخير العام ولا تتذمر من العمل الشاق والتعب المضني، ولا تخاف إلا على خير كوريا، فتظهر في هذه النصوص العائدة للسنوات الأولى من القرن الـ 20 حياة القرى الكورية، والبؤس الذي عاشه أهلها من الفلاحين تحت سياط الاستعمار الياباني المستبد، كما تظهر قيم الصداقة والتفاني والوفاء، قيم ومبادئ إنسانية نبيلة تمتعت بها الشخصيات على الرغم من قساوة ظروف عيشها.

وإلى جانب ذلك، تظهر علاقة الفلاح بأرضه، فهي جلّ ما يملك وهي مصدر رزقه وسعادته فتقول إحدى شخصيات "قصة عن حقل الأرز" للكاتب تشاي مان-سيك: "بغض النظر عن الأسباب والظروف، فإن بيع الفلاح حقله ليس بالأمر المشرف أبداً أمام الآخرين، ومن المعتاد أن يحاول الفلاح بقدر الإمكان إخفاء تلك النية عن الناس، حتى لو كانوا سيعرفون ذلك غداً أو بعد غد" (ص69).

ويسلط الفضاء السردي الضوء على أماكن كثيرة في الروابط الوثيقة والراسخة التي تربط أفراد العائلة بعضهم ببعض، فالرجل يحترم زوجته وأمه ويحميهما ويذود عنهما، والزوجة تطيع زوجها ولا تزيد من همومه وتلتزم الصمت في معظم الأحيان تجنباً لتحميله أكثر مما يحتمل، والأم تفدي أبناءها بروحها وجسدها، وتبقى حتى سني الشيخوخة في خدمتهم. وتضاف إلى أواصر العلاقة المتينة التي تربط أفراد العائلة الواحدة بعضهم ببعض، الروابط الروحية والعادات والتقاليد التي تسود المجتمع. ففي القصة القصيرة مثلا "موت جدتي" للكاتب هيون جين-غون، تظهر صلوات البوذية والعادات والتقاليد العائلية الدينية التي ترافق المريض في مرضه، وتقتضي إضاءة الشموع وتلاوة الصلوات طوال الليل.

أسئلة وجودية وفلسفية

على الرغم من انغماس الشخصيات الكورية أوائل القرن الـ 20 في وحول الفقر والأعمال الشاقة والمعاناة، إلا أن أسئلة وجودية تنسل في بعض المواضع لتدفع بالقارئ نحو التفكير. ففي إحدى الرسائل المكتوبة ضمن رواية "رسائل إلى صديق شاب" يطرح الراوي أسئلة عن الحياة والموت فيقول: "ما هي الحياة؟ وما هو الموت؟ الحياة والموت هما طرفان لخيط واحد، أولهما مصبوغ باللون الأحمر وثانيهما باللون الأسود، لكن ليس هناك فرق بين هذين اللونين، فننطلق من الطرف الأحمر ثم نسير على الخيط. نمد ذراعينا كطير متجهين نحو الطرف الأسود، لا نعرف أين ينتهي الطرف الأحمر ومن أين يبدأ الطرف الأسود" (ص10).

إضافة إلى ذلك، يلاحظ القارئ بعض الزلات السياسية التي حملها السرد والتي تشير بوضوح إلى الفساد والظلم والاضطهاد الذي ساد في تلك السنوات، والتي رزحت تحتها طبقة العمال والفلاحين والكادحين، فيرد على لسان إحدى شخصيات "قصة عن حقل الأرز" بانتقاد واضح للنظام السائد الذي يحطم الفقير ويقوي شوكة الغني، فنجد "اللعنة، الأرستقراطي بغيض، والياباني مزعج، وهكذا وسط الظروف الصعبة، ومع مرور الوقت، يموت عامة الناس الضعفاء فقط". (ص72).

وبينما يظن القارئ أن الغرب وهمومه وعاداته وتقاليده بعيدة كل البعد من السرد الكوري، تحمل النصوص في عدد من المواضع شخصيات "غربية" أو ترتدي "ملابس غربية" لإظهار الفارق بين الحضارتين. وفي إحدى القصص مثلا يرد ذكر شخصية الطبيب الذي درس في الغرب والذي تقارن الشخصيات الأخرى بين حكمه على حال المريض وبين حكم الطبيب الذي درس في كوريا. فمن منهما سيصيب بتشخيصه؟ ومن منهما سيتمكن من كشف حقيقة ما يحصل مع المريضة؟ هل هو الطبيب الكوري أم الطبيب الغربي؟

وقد تكون رواية "الشعير" أكثر الروايات المذكورة ميلاً إلى الفلسفة والمقارنة بين حضارة الغرب وحضارة الشرق، بين روحانية كونفوشيوس الشرقية وفلسفة الغرب برجالاتها، فأي من المنهجين يسهل عملية البحث عن الحقيقة وعن الذات؟ أي منهما يقود إلى الخلاص والسلام الداخلي؟ أسئلة روائية فلسفية طرحت منذ 100 عام، وما زال الإنسان يبحث فيها عبثاً.

يستغرب قارئ الأدب الكوري الكلاسيكي من ارتباط الحُب بالواجب الوطني والفضيلة، فالحُب بالنسبة إلى معظم الشخصيات الكورية العائدة للسنوات الأولى من القرن الـ 20 هو مرادف للوفاء للأرض وتحسين الذات والتعاطف مع الآخر والتضحية. يدخل الحُب في إطار الواجب الوطني وخدمة المجتمع في معظم مواضع السرد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتظهر العلاقة بين الشاب والفتاة خجلة حيية بالكاد، موجودة وقائمة في معظم النصوص، فالحُب إما غائب وإما مغيّب قسراً، وإما ممنوع احتراماً للعادات والتقاليد. فيكتشف القارئ في هذه النصوص مجتمعاً تقليدياً محافظاً يحترم المرأة وجسدها، ويقدس الحُب ويخبئه عن العلن، حتى إن في ذلك شيئاُ من الظلم للشباب الحالم، فيقول الراوي في رواية "رسائل إلى صديق شاب" خلال إحدى رسائله: "أنا رجل كوري، وسمعت عن الحُب لكني لا أعرف ما هو. بالطبع، يوجد رجال ونساء في بلادي، لكنهم يُحرمون من إقامة علاقة الحُب بين المرأة والرجل. وإن نشأ الحُب في قلوبهم، مات تحت وطأة التقاليد الاجتماعية والأخلاق قبل أن يبدأ بالازدهار. الشعب الكوري جاهل بالحُب" (ص24).

تجسد روايات كوريا المترجمة إلى العربية حياة الكوريين أوائل القرن الـ 20، حياة الفلاحين والعمال، حياة الفقر والعمل الشاق والمعاناة اليومية المستمرة، حياة الواجب الوطني والقيم السامية والميل الهادئ إلى الصمت والروحانيات، وذلك كله بلغة رقيقة سلسة تكتفي بالتعبير بالقليل عن المعاني الحقة. وتؤكد جونغ جو لي الرغبة في إكمال أعمال الترجمة ومضاعفة المجهود في هذا المجال قائلة: "لقد بدأنا بترجمة القصص الكلاسيكية من القرن الماضي والروايات كذلك، وسنواصل حركة الترجمة حتى تصل موجتها إلى الكُتاب الشباب. فلا يزال ثمة عدد كبير من الكُتاب الكوريين غير معروفين في العالم العربي، والجديرين بأن تقرأ أعمالهم. يخطط المعهد، بالتعاون مع الناشرين نفسهما، لنشر القصص من مرحلة ما بعد الحرب الأهلية الكورية التي أدت إلى انقسام كوريا إلى دولتين".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة