ما بين إعلان المغرب عن عملية عسكرية خاطفة للسيطرة على معبر "الكركرات" الحدودي مع موريتانيا، والقرارات المفاجئة لعدد من البلدان العربية والأفريقية بفتح قنصليات لها في مدينة العيون، شمال الصحراء الغربية، عاد "نزاع الصحراوي" إلى واجهة الأحداث مجدداً، بعد جمود متقطع ساد القضية التي تعتبرها الرباط في صميم "وحدتها الترابية" في حين تتمسك جبهة البوليساريو بحق تقرير المصير الذي تقره القرارات الأممية، وهذا ما يثير تساؤلات المراقبين حول تداعيات "دبلوماسية القنصليات" التي ينتهجها المغرب على آفاق حل النزاع ومستقبل الوضع القانوني والسياسي للإقليم، والعلاقة بالمحيط الإقليمي، وعلى رأسه الجزائر، الجار الشرقي للمغرب، والداعم الأول للجبهة والمطالب الصحراوية منذ عقود.
نزاع قديم
تعد قضية نزاع الصحراء الغربية من أهم النزاعات الإقليمية في أفريقيا، فقد استمرت منذ ما يزيد على 40 عاماً من دون وجود حل يرضي جميع الأطراف المتنازعة، لكن سيناريوهات الحل ظلت متأرجحة بين التقسيم أو الحكم الذاتي أو السيناريو الأممي (خيار الاستفتاء)، وسط تصلب مواقف أطراف النزاع، والمواقف الدولية التي اتسمت باللا مبالاة لغياب الحاجة الملحة لحل النزاع المزمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تولت الأمم المتحدة مسؤولية حل قضية الصحراء الغربية منذ عام 1963، عندما تم تسجيلها كقضية تصفية استعمار. وبعد عامين، طالبت المنظمة إسبانيا بإنهاء استعمارها ليطالب المغرب بالسيادة على الإقليم، بينما تمسكت جبهة البوليساريو بتطبيق حق تقرير المصير، لتؤكد محكمة العدل الدولية حق الإقليم في الاستفتاء الذي لم يجر إلى اليوم. بعدها، دخلت القضية مرحلة الاشتعال خلال حقبة الحرب الباردة، قبل أن تفقد البوليساريو حليفها القوي بانهيار الاتحاد السوفياتي، وتدخل القضية في حالة اللا حرب واللا سلم، بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار عام 1991.
الحدث التاريخي الأكثر ارتباطاً بما نشهده من مستجدات، كان مسألة الاعتراف الدولي. فمنذ قبول الاتحاد الأفريقي عضوية جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو)، غاب المغرب لمدة 33 عاماً عن المنظمة القارية، قبل أن يعود في عام 2017، ويتبع سياسة أفريقية نشطة لسحب بساط الاعتراف والدعم الأفريقي للقضية الصحراوية، التي ينظر إليها الأفارقة كمسألة مبدئية تتعلق بالإرث الاستعماري الذي عانته القارة السمراء، قبل أن تكون أداة للاستقطاب والمساومة وتصفية الحسابات.
لماذا "دبلوماسية القنصليات"؟
بالتوازي مع طرح المغرب مشروعاً سياسياً يجمع بين النقيضين "الوحدة" و"الاستقلال"، في صورة من صور الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وانفتاحه الأفريقي المتنامي، توالى افتتاح 16 دولة قنصليات لها في الأقاليم الجنوبية للمملكة، في حين بات يعرف بـ"دبلوماسية القنصليات" المغربية؛ إذ لم تعد تكتفي الرباط بمواقف سحب دول أفريقية اعترافها بما يسمى "الجمهورية الصحراوية"، بل أكد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أن تلك الخطوات المتمثلة بافتتاح القنصليات بالمدن الجنوبية، لها "دلالات سياسية وقانونية تؤكد حق المغرب في سيادته في الصحراء"، بالإضافة إلى "فتح آفاق الاستثمارات" الأجنبية في هذه المنطقة، التي تمثل بوابة المغرب على أفريقيا في ظل إغلاق الحدود مع الجزائر.
وبينما يسيطر المغرب فعلياً على 80 في المئة من مساحة الصحراء الغربية، مقترحاً منحها حكماً ذاتياً تحت سيادته، يرى محمد مجاهد الزيات مستشار المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في القاهرة، أن ما نشهده حالياً من توالي المواقف الفردية من بلدان عربية وأفريقية داعمة للموقف المغربي، يؤسس لموقف جماعي تسعى من خلاله الرباط إلى توفير شرعية دولية لتغيير الواقع القائم للنزاع بطريقة هادئة، بما يتجاوز جمود الحلول التي ظلت مطروحة لعقود وعلى رأسها الحل الأممي.
ويعتبر أن فتح القنصليات تحرك عملي لدعم موقف المغرب، بدلاً من موقف الحياد، وجاء بهذا التوقيت كاستثمار مغربي للتحسن الإيجابي بعلاقاتها بدول الخليج.
وبالإضافة إلى المحددات المرتبطة بالسيادة والوحدة الترابية التي لا يمكن مقارنتها بأي دافع آخر للتحركات المغربية الهادفة لفرض السيادة على الإقليم الجنوبي، يرتبط التحرك المغربي بدوافع وطموحات اقتصادية واضحة، سعياً لمزيد من التبادل التجاري مع القارة ولعب دور حلقة الوصل القريبة مع أوروبا. فالمغرب الذي لا يفصله سوى 14 كيلو متراً عن إسبانيا، هو رابع أكثر البلدان تكاملاً اقتصادياً في القارة، وفقاً لمؤشر التكامل الإقليمي لأفريقيا لعام 2019 الذي نشرته اللجنة الاقتصادية الأفريقية التابعة للأمم المتحدة. كما أن الرباط هي أول مستثمر في منطقة غرب أفريقيا، وثاني مستثمر في القارة بشكل عام، بعد جنوب أفريقيا، بحسب إحصاءات حكومية مغربية.
وكانت جبهة البوليساريو والجزائر قد دانتا افتتاح قنصليات في المنطقة. ووصف الأمين العام للجبهة إبراهيم غالي الخطوة، في تصريح سابق، بأنها "انتهاك للقانون الدولي ومساس بالوضع القانوني للصحراء الغربية".
وقال أحمد التازي، سفير المغرب في القاهرة ومندوبها لدى جامعة الدول العربية، في تصريح خاص، إن قرار فتح قنصليات في حاضرتي الصحراء المغربية، مدينتي العيون والداخلة، له دلالات وأبعاد متعددة "حيث يجسد على المستوى السياسي دعماً للوحدة الترابية للمملكة، واعترافها الواضح والصريح بمغربية الصحراء، وتعبيراً عن الثقة في الأمن والاستقرار الذي تنعم به الأقاليم الجنوبية، وكذلك التضامن مع الإجراءات السلمية التي اتخذتها الرباط لفتح معبر الكركرات أمام الحركة المدنية والتجارية، باعتباره مجالاً حيوياً لمنطقة غرب أفريقيا بأكملها، فضلاً عما يترجمه القرار من ثقة وارتياح لدى تلك الدول في شأن الظروف المشجعة والآفاق الواعدة للاستثمار، كبوابة أو كقطب اقتصادي أساسي يتيحه المغرب لمواكبة مجهودات ومشروعات التعاون جنوب-جنوب، وبخاصة مع أفريقيا".
مواقف عربية متباينة
دشنت دولة الإمارات الشهر الماضي قنصليتها في مدينة العيون المغربية، كأول دولة عربية تقوم بذلك، في خطوة دبلوماسية أشادت بها الرباط، لتعلن البحرين، ثم الأردن، العزم على اتخاذ الخطوة نفسها، وسط تساؤلات حول الدول المرشحة للانضمام إلى القائمة، في ظل تمسك بعض البلدان العربية بموقف "الحياد"، بديلاً عن الانحياز لأي من طرفي النزاع.
وأبلغ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في الإمارات، الملك المغربي محمد السادس في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بنية بلاده افتتاح قنصلية في مدينة العيون، حيث وصف العاهل المغربي القرار بـ"التاريخي والمهم والداعم للوحدة الترابية للمملكة على هذا الجزء من ترابه، وبخاصة أن الإمارات شاركت في المسيرة الخضراء المظفرة"، في إشارة إلى الفعالية السلمية التي دعا إليها العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني وتحركت نحو الأراضي الصحراوية يوم 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1975، حيث شارك فيها بن زايد شخصياً خلال إقامته في المغرب للدراسة آنذاك.
وبخلاف الموقف الجزائري المناهض لتلك التطورات بطبيعة الحال والموقف الموريتاني "المحايد"، يرى مراقبون أن الدول العربية الواقعة في شمال القارة الأفريقية مثل مصر وليبيا وتونس، لها حسابات مختلفة تمنع انضمامها للدول التي افتتحت قنصليات في العيون أو غيرها من المدن الصحراوية. وقال الزيات إن الموقف المصري لا يزال في حدوده منذ البداية، وهو التزام موقف الاتحاد الأفريقي في هذا الصدد، معتبراً أن الجامعة العربية ليس لها موقف واضح من المسألة يمكن الاستناد إليه لتفسير التباين في المواقف العربية من التطورات الأخيرة. وأضاف "عدم فتح قنصلية مصرية هناك ليس معناه أننا ضد موقف المغرب، بل هو التزام من مصر بموقف الاتحاد الأفريقي، فالمسألة هنا لا تتعلق بعلاقاتنا بالمغرب فحسب، ولكن بالمنظمة القارية".
وقال الباحث الأردني خالد شنيكات، إن اتخاذ عمان قرار فتح قنصلية في العيون يرتبط بالتطور الذي شهدته العلاقات الثنائية بين الجانبين وتنامي التنسيق في كثير من القضايا الثنائية والإقليمية، وعلى رأسها قضية القدس، ويأتي اتساقاً مع الموقف الأردني وسياسته التقليدية حتى إبان الحرب الباردة باعتماد سياسة وحدة التراب المغربي والدعوة في الوقت نفسه إلى حل الصراع داخل الحدود وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.
ويرى شنيكات، الذي أسهم سابقاً في دراسات قانونية وسياسية حول القضية الصحراوية، أن النزاع الصحراوي من أطول النزاعات في أفريقيا، وبقي من دون حل. ويضيف "ربما خيار الاستقلال الذي كان مطروحاً إبان استقلال الإقليم عن الاستعمار الإسباني تراجع كثيراً، فقد فقدت جبهة البوليساريو كثيراً من الدعم، بخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك أعاد ترتيب الأولويات. ولعل السيناريو الأقرب للحل بالنسبة إلى الأردن وحتى لدول العالم وللشعب الصحراوي والمغاربة هو الحكم الذاتي، وليس الاستقلال، مع احتمالية أن يحدث سيناريو التقسيم، ولكن فرصه ضئيلة. وبالتالي الأردن وغيره من البلدان التي اتخذت خطوة فتح القنصليات تدرك هذه المتغيرات، واحتمالية الاستقلال صعبة وبعيدة جداً عن التطبيق، والمغرب فعلياً يسيطر على أكثر من 80 في المئة من مساحة الإقليم وعلى مناطق حيوية غنية بالثروات الطبيعية، ومنها الفوسفات والخامات المعدنية الأخرى، وبوابة للعبور على الداخل الأفريقي".
ويشير إلى أنه "لا تكلفة على قرار الأردن اتخاذ هذه الخطوة سياسياً واقتصادياً، والجبهة أصبحت ضعيفة ومحدودة التأثير، والمغرب انتهج دبلوماسية مكثفة لفتح قنصليات وممثليات في مدن عديدة مثل الداخلة والعيون، وغيرهما، وهناك كثير من الدول مرشحة لاتخاذ الخطوات نفسها، وبخاصة بعض دول الخليج".
ولم يتوقف التباين العربي على قرار فتح القنصليات، بل شمل أيضاً الإجراءات المغربية الأخيرة، وبخاصة ذات الطابع العسكري، فبينما أعلنت كل من السعودية وسلطنة عمان والبحرين والكويت والأردن ومنظمة التعاون الإسلامي تأييد الإجراءات التي اتخذتها المملكة المغربية "لإرساء حرية التنقل المدني والتجاري في المنطقة العازلة للكركرات في الصحراء المغربي"، دعت مصر الأطراف إلى "ضبط النفس واحترام قرارات مجلس الأمن بما تشمله من وقف لإطلاق النار والامتناع عن أي أعمال استفزازية من شأنها الإضرار بالمصالح الاقتصادية والتبادل التجاري في هذه المنطقة".
حل هادئ أم تصعيد للنزاع؟
يجادل البعض بأن ما يتخذه المغرب من خطوات لتأكيد سيادته واصطفاف عديد من البلدان مع تحركاته، لن يؤدي إلى إشعال النزاع من جديد، على اعتبار أن المنطقة خرجت من إطار التنافس الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة بعد أن كانت حلقة من حلقات الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ما يجعل ميزان القوى يميل بشكل كبير إلى الموقف المغربي، مع تراجع الأهمية الاستراتيجية لتلك المنطقة كساحة صراع.
ويتخذ الاتحاد الأفريقي موقفاً ثابتاً في شأن النزاعات الحدودية بين دوله الأعضاء، على اعتبار أن أي تحول عن هذا الموقف ربما يوفر سابقة تحفز إشعال توترات تلك الحدود التي توصف بأنها "صنيعة الاستعمار الغربي". أما الجزائر فتتمسك بموقفها الداعم للجبهة، باعتبار أن الملف الصحراوي يمثل إحدى أهم أدوات تحركها في غرب أفريقيا، فضلاً عما تمثله الصحراء الغربية من أهمية استراتيجية للجزائر تتمثل في مطالبتها تاريخياً بممر ونافذة بحرية نحو المحيط الأطلنطي.
وفي مقابل ذلك، تقول جبهة البوليساريو إن ثلاثة عقود من وقف إطلاق النار في منطقة الصحراء الغربية انتهت منذ العملية التي شنتها قوات مغربية في منطقة معبر الكركرات. ونشرت وكالة الأنباء الصحراوية الناطقة باسم الجبهة، مؤخراً، تقريراً يفيد بأن قواتها، أو ما يسمى "جيش التحرير الشعبي الصحراوي" نفذت عمليات قصف استهدفت وحدات وتمركزات للجيش المغربي، في حين شهدت مناطق صحراوية وعدة عواصم أوروبية تظاهرات محدودة للجاليات المنتمية للصحراء.
وبدوره، قال وزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم، يوم الأربعاء، إن الوضع في الصحراء الغربية "بخاصة التطورات الخطيرة التي شهدناها مؤخراً، مصدر قلق كبير بالنسبة إلى الجزائر". وأشار بوقادوم، في كلمة له خلال الدورة غير العادية الـ21 للمجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي إلى أنه "بالإضافة إلى محاولات فرض سياسة الأمر الواقع على أراضي عضو مؤسس لمنظمتنا، أدت التجاوزات المسجلة على مدنيين في منطقة الكركرات إلى فرض تحديات جدية من شأنها تقويض حالة السلم والأمن في المنطقة برمتها"، داعياً مجلس السلم والأمن الأفريقي إلى "تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه".
ووصف عبد القادر طالب عمر، سفير ما يعرف بـ"الجمهورية العربية الصحراوية" في الجزائر، في تصريحات سابقة، فتح بعض الدول لممثليات دبلوماسية لها بمدينة العيون بأنه "مجرد ضجيج إعلامي وتشويش"، مشدداً على أنه لا يمكن لأي دولة اخرى أن تضفي الشرعية على "الاحتلال" المغربي ولو أتت بالكرة الأرضية بأكملها، على حد وصفه.