فضحت فترة الحجر الصحي حجم العنف المُمارَس داخل المجتمع اللبناني. وأسهمت عوامل مجتمِعة في ازدياد منسوب العدوانية بين أفراد المجتمع والأسرة الواحدة. ولعبت الظروف الاقتصادية التي استفحلت صعوبتها مع كورونا، معطوفةً على إرث ثقافي واجتماعي أصيل، دوراً في ذلك. كما فشل النظام القانوني القائم في الحد من ظواهر العنف المستشري في المجتمع.
المرأة الحلقة الأضعف
منذ ثلاثة أشهر، تُقيم سلوى الشابة العشرينية في منزل أهلها بعيداً من أطفالها. لا تُفارقها تلك الليلة السوداء، عندما قام زوجها "الذي يتعاطى الحشيش" برميها من شُرفة المنزل. ودخلت إثر هذه الحادثة إلى المستشفى، حيث أفاد تقرير الطبيب الشرعي بإصابتها بكسور عميقة وشديدة بكامل أنحاء الجسد وبالعمود الفقري، ونزيف في الكبد والطحال، وبتعطيل 3 أشهر عن العمل. وأفادت بأنها كانت تتعرض للضرب المبرح مع أولادها، على يد زوجها.
منذ حوالى السنة، طلقها ومنعها من رؤية أطفالها، وظلّ يلاحقها ويهددها بقوة السلاح. دخلت بينهما الوساطات بحجة ترميم العائلة. وعادت إلى المنزل عشية العيد الأضحى الماضي، بغية حماية أطفالها.
تخاف سلوى كثيراً على أولادها وأهلها وعلى نفسها، لأن زوجها السجين ما زال يرسل إليها التهديدات من السجن، في حين أن الأولاد موجودون مع أهله، كما أن القضاء لم يبت بعد بدعوى التفريق بينهما. ويخشى محيطون بالشابة أن يضعف أهلها أمام التهديد، بالتالي أن يعمدوا إلى إسقاط دعوى الحق الشخصي. ولم تحظَ الناجية بأي علاج نفسي أو إقامة في دار حماية، بينما تعاني من صعوبة في المشي والجلوس.
ضغط الأهل
قصة سلوى ليست الوحيدة، إذ تتعدد المآسي بتعدد الحالات والروايات. وتُضيف معاناة السيدة زينة شكلاً جديداً من تواطؤ الأخ مع الزوج. تتعرض زينة للعنف من زوجها وأخيها، وسبّب ذلك لها كدمات بالعين والجسم وكسر الإصبع. ويبرر شقيقها ذلك بأنها مطلقة من زواج سابق، ويخشى أن تتطلق ثانية من زوجها الحالي.
وتبقى المرأة الحلقة الأضعف بين سائر المكونات الاجتماعية. وتتحدث أوساط حقوقية عن تواطؤ بعض الأهل ضد بناتهم، فالبعض يتهمهن بشرفهن، والآخر يحرمهن من حضانة أطفالهن بعد الطلاق، فيما يضغط بعض الأهل على ابنتهم لدفعها إلى تحمل العنف الزوجي أو إسقاط الدعاوى الشخصية ضد الزوج.
وفي وقت تقيم بعض السيدات في بيوت أسرهن، تحظى أخريات بإقامة في بيوت للحماية تقدمها بعض المؤسسات الحقوقية، وبموجب قرارات قضائية.
ضرب بالمطرقة
وتروي السيدة وفاء أنها "تعرضت للضرب من زوجها بالمطرقة"، وهربت من البيت الزوجي برفقة إبنتها الصغرى، لتعيش في أحد بيوت الحماية بمنطقة جبل لبنان. وحظيت وفاء برعاية من قبل المشرِفات، وخبراء الطب النفسي، إضافة إلى جو من السكينة، كما حصلت إبنتها على رعاية صحية وتأهيل نفسي واجتماعي. وتوضح وفاء أنها عاشت لتعيش حياة شبه طبيعية، فهي تخرج للعمل بصورة يومية، قبل أن تعود إلى بيت الحماية مع اقتراب المساء. وتعيش وفاء بحالة قلق من احتمال معرفة "زوجها" مكان إقامتها، لأنه رجل عنيف جداً، وأبلغها أبناؤها الذكور الذين يقيمون معه بأنه "ما زال يحملها مسؤولية تشتيت العائلة". كما تخشى وفاء أن تتشرد وابنتها عندما تنتهي مدة إقامتها في مؤسسة الحماية. وتأمل بأن تحظى إبنتها بفرصة للتحصيل العلمي العالي، وألا تكرر تجربتها عندما "أُجبرت على ترك المدرسة بسن المراهقة، من أجل الزواج وتأسيس عائلة"، بما يماشي القيم والأعراف الاجتماعية السائدة في منطقتها.
ثقافة العنف
وتختلف النظرة إلى العنف الأسري بحسب المجتمعات والثقافات، فالبعض يصنف تلك الظاهرة ضمن "ضروب التأديب"، فيما يعتبرها البعض الآخر "شرٌ مطلق". وقارنت عالمة الاجتماع مهى كيال خلال حديثها عن تطور مفهوم العنف الأسري، بين الأزمنة الماضية عندما كان الأطفال ذكوراً وإناثاً يتعرضون للضرب بحجة التربية، وبين الزمن الراهن الذي أصبح يُعتبَر ذلك عنفاً مرفوضاً. كما تلفت إلى أن العنف ضد المرأة كان مسألة "مقبولة" ومتعارفاً عليها في الثقافة الاجتماعية السائدة، أما الآن "أصبح الجسد مُصاناً" وإزداد وعي الإنسان لذاته.
وتؤكد كيال أن "التطور الثقافي كان بخدمة الشبان أكثر من الإناث، لأن الشاب ما زال يمارس العنف والسلطة تجاه الأنثى سواء كانت شقيقته أو زوجته، أو بنته. وتستمر ممارسة العنف إنطلاقاً من سلطة الدين، والمجتمع، والقانون المدني الموضوع من قبل ذكور". وترى كيال أن "تطور إدراك الإنسان لذاته، يكون أسرع لدى الرجل منه لدى المرأة، لذلك فإن الذكور أكثر وعياً بحقوقهم وأكثر إمساكاً بالسلطة، لذلك يأتي رفض الأنظمة القانونية المدنية التي تساوي الرجل بالمرأة".
وتعتقد كيال أن "العنف ليس مرتبطاً بالتعليم والمكانة الاجتماعية لأن هناك مثقفين يتعرضون للعنف الأسري". وتميّز بين نوعين من العنف الأسري "العنف بسبب السلطة، والعنف المرضي الذي يمارسه شخص سبق أن تعرض لتجربة عنف، حيث يمارس إسقاطاً على الطرف الضعيف. وأسهمت فترة الحجر في حبس شخصين داخل خلية منزلية، فالرجل المُعنَّف اقتصادياً ويعيش تحت وطأة الضغط النفسي، يتحوّل إلى ممارس للعنف على الحلقة الأضعف التي غالباً ما تكون المرأة في تلك الحالات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخط الساخن
من جهة أخرى، أعلنت قوى الأمن الداخلي في لبنان عن زيادة عدد حالات العنف الأسري المُبلَغ عنها منذ بداية جائحة كورونا. كما أسست خطاً ساخناً للتبليغ عن التعرض أو مشاهدة أي حالة عنف أسري على الرقم 1745. ومن أجل التشجيع على التبليغ، أطلقت دائرة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي فيديو للتوعية من خطورة هذا النوع من العنف، ودعت النساء إلى كسر حاجز الصمت.
وأثبتت إحصائية نشرتها قوى الأمن أن 61 في المئة من شكاوى العنف الأسري، ترِدُ إلى الخط الساخن من قبل الضحية، ويليها الجيران بنسبة 14 في المئة، ومن ثم الأشقاء والوالدة والأقرباء والأصدقاء والجمعيات. وتُعلق عالمة الاجتماع مهى كيال على الإحصائيات بـ"أن المرأة كسرت حاجز الخوف، وبدأت بالحديث عن مشكلاتها والعنف تجاهها".
عنف متزايد
في موازاة ذلك، تؤكد المحامية ميسا شندر المتخصصة بقضايا الأحوال الشخصية، ازدياد مستويات العنف الأسري، عازيةً ذلك إلى تردي الظروف الاقتصادية، وارتفاع نسب البطالة، وانتشار كورونا. ولاحظت شندر ورود عدد كبير من الشكاوى إلى المخافر وأقسام النيابة العامة الاستئنافية من سيدات تعرضن للعنف الجسدي من أزواجهن أو أحد أفراد أسرهن.
وتحدثت شندر عن "إزدياد مستويات العنف الإلكتروني"، وبلغ عدد الشكاوى في هذا الشأن حتى مارس (آذار) الماضي، 315 شكوى في قضايا تحرش وابتزاز إلكتروني ضد السيدات.
ولفتت شندر إلى "العنف القانوني الذي تسببت به جائحة كورونا وسياسات الإقفال العام"، إذ أدى إقفال النيابات العامة والمحاكم في تأخير البت بملفات العنف الأسري وأحكام النفقة وقضايا الأحوال الشخصية.
ولا يتوقف الأمر عند العنف الظرفي، وإنما يتجاوزه إلى العنف الذي ترسخه بعض المواد القانونية في قانون العقوبات، فعلى الرغم من إلغاء المواد المُجحفة بحق المرأة، إلا أن نصوصاً قانونية أخرى حافظت على مفاعيلها. ففي عام 2018، وبعد إلغاء المادة 522 التي تُعفي المغتصب من العقوبة إذا عقد زواجاً صحيحاً على الفتاة المُغتَصبة، أبقي على مفاعيلها في المواد 505 و518 . وكذلك الأمر بالنسبة إلى إلغاء "جريمة الشرف"، إذ بقيت مفاعيلها في المادة252 التي تبرر ارتكاب مثل هذه الجريمة في حالة "فورة الغضب".
وتتمنى شندر إقرار "السن الموحد للزواج في لبنان"، وتجريم زواج القاصرات، وإقرار الآليات الكفيلة بحماية المرأة من العنف الأسري.
في المحصلة، تتعدد أشكال العنف الأسري من عنف جسدي مبرح، إلى عنف لفظي يؤدي إلى جروح نفسية عميقة. ويستمر العنف بتطوير أشكاله في ظل الثورة الرقمية، حيث يشكّل العالم الافتراضي فضاءً واسعاً للتحرش والتشهير والابتزاز.