لا تشبه قراءة الروائي والشاعر الروماني ميرتشا كارتاريسكو (1956) القراءة لأي كاتب آخر: كان هذا انطباعي بعدما انتهيت من روايته "الجناح الأيسر"، الجزء الأول من ثلاثية "أوربيتور". من صفحة لأخرى ومن فصل لآخر، كنت موزعة بين الإعجاب والغيظ، بين الاستمتاع ونفاد الصبر، بين الرغبة في ألا تنتهي الرواية أبداً والتشوق لمعرفة إلامَ يريد المؤلف الوصول بكل هذا الجنون في نهاية المطاف.
لن أكون مبالِغة إن قلت إن الأمر يشبه ركوب قطار الملاهي والاستسلام لتقلبات تصعد بالراكب نحو السماء، ثم تعود به إلى أعماق الأرض في لمح البصر، وعلى نحو متواصل. يشبه أيضاً دخول متاهة معقدة تغص بتفاصيل فوضوية، لكنها فوضى محكومة بمنطق ما، لا يتضح بسهولة في عقل القارئ، لكن يمكنه فقط أن يحدس به.
أطلقت مجلة "لير" الفرنسية على ميرتشا كارتاريسكو لقب "بورخيس الأدب الأوروبي"، ولا يملّ هو من إعلان تقديره اللامحدود لكافكا ودانتي أليغيري. ومن يقرأ له قد يتذكر مارسيل بروست وجيمس جويس وتوماس بينشون وحتى برونو شولتز وكورتاثار وماركيز وأندريه بريتون. لكن مع هذا يبقى كارتاريسكو متفرداً في كتابته الهذيانية البارعة في تحطيم القواعد القارّة والحدود المتعارف عليها بين الأنواع الأدبية، وفي مزجه الهلاوس بالكوابيس والسوريالية بالغرائبية وتفاصيل الحياة اليومية بالواقعية السحرية. ولكن مع الحفاظ على نبرة شعرية خالصة، لا تكمن فقط في اللغة والأسلوب، بل تمتد كغلالة مسدلة على عالمه الجامع بلا تناقض، بين جموح إعصار ورِقَّة فراشة، فربما ليس ثمة تناقض من الأساس بين هياج الأعاصير والقوة التدميرية للزلازل وبين الرفيف الرهيف لجناحين هشين. فكما يكتب كارتاريسكو: "العالم بأسره شبكة من التروس، حيث يؤدي دوران أدق ذرة رمل عند أحد طرفي المحيط إلى زلزال مدمر عند طرفه الآخر؛ ويتسبب جناح فراشة بجزر الأنتيل في إعصار بكنساس، وتُحرِّك فكرة شهوانية صغيرة لمتشرد من راهوفي غضب الرب على بليون من العوالم المأهولة."
حضور الفراشة
للفراشة تحديداً الحضور الأبرز في هذه الملحمة، فما عناوين الثلاثية كلها ("الجناح الأيسر" و"الجسد" و"الجناح الأيمن") سوى التقسيم التشريحي للفراشة، كأنها هي العمل بكامله. بل رسالته ومبرر وجوده والسر المقدس المخفي بمهارة بين طيّاته، مكتفياً بمخايلة. فعلى رغم تعدد الإحالات والاستعارات في العمل، لدرجة يشعر معها القارئ كأنه يتحرك داخل شبكة هائلة منها، إلا أن حضور استعارة الفراشة هو الأبرز؛ إذ تختفي في صفحة لتعود في أخرى بشكل مختلف، حتى نكاد نظن أن الكون بكامله محمول على جناح فراشة. مع التقدم في القراءة، ندرك أن الفراشة في "أوربيتور" هي بالفعل الرواية نفسها، إذ يبني المؤلف عمله استلهاماً من دورة حياة الفراشة بمراحلها المختلفة: اليرقة، الشرنقة، ثم خروج الفراشة مكتملة من شرنقتها. فمن فصل لآخر نشعر أننا أمام مراحل تُولَد من رحم سابقاتها، حيث يكاد كل فصل أن يهدم ما سبقه بقدر ما يبني عليه.
لو لم يكن كارتاريسكو كاتباً، لأصبح عالم حشرات، فمن هواياته جمع الفراشات ومراقبة العناكب. لديه ولع أيضاً بالفسيولوجيا العصبية وفيزياء الكم والتشريح، وكل هذا يتبدى في كتابته جنباً إلى جنب مع الفلسفة والتصوف والميثولوجيا والميتافيزيقا في تناغم لافت.
منذ العنوان "أوربيتور"، يكشف كارتاريسكو عن الملمح الديني الطاغي على ثلاثيته، فهذه الكلمة الرومانية، أثرى في معانيها وارتباطاتها من عنوان الترجمة الإنجليزية "Blinding"، الذي يشير إلى الضوء الشديد السطوع لدرجة تعمي الأبصار. لكنّه يفتقر – وفقاً لرأي المؤلف - إلى الحمولة الدينية والروحية والميثولوجية لمفردة "أوربيتور"؛ المرتبطة بالنور الإلهي المنبعث من تجلي المسيح فوق الجبل لبطرس ويعقوب ويوحنا. وعلى هذا فالعنوان الأنسب للثلاثية باللغة العربية قد يكون "التجلي"، واللافت أن هذه المفردة باللغة اليونانية القديمة تعني أيضاً "التحول"، والتحول هو جوهر ملحمة كارتاريسكو هذه ومسعاها وطموحها الفني: تحولات الفراشة؛ ميثولوجية كانت أم واقعية، تحولات بنية العمل المحاكية بدورها لتحولات الفراشة، والتوق الحارق لميرتشا الراوي (والأنا الروائية للمؤلف)، إلى تحول الإنسان إلى كائن سماوي وتحوله هو تحديداً إلى هذا الكائن الأرقى، كما سوف نكتشف مع التوغل في القراءة.
يكتب كارتاريسكو على لسان بطله ميرتشا: "قبل ألف وتسعمئة وستة وثمانين عاماً، جاء نبي من يهودا. بعدها بثلاثة وثلاثين عاماً، صُلِب، وبعد ثلاثة أيام قام وصعد إلى السماء، ليس قبل أن يعد بالعودة. مع هذا، لم يفعل حتى الآن. أعزو هذا التأخير إلى حقيقة مفادها بأنني، كما رأيتم، ما زال لدي يدان مرتبكتان. لم أتحول بعد في غمضة عين، لم أرَ بعد أرضاً جديدة ولا سماءً جديدة."
هذه الفقرة اللافتة قد تبدو للوهلة الأولى حلقة في سلسلة التأملات الهذيانية للبطل، أو تنويعاً على سخريته غير المألوفة ودليلاً على ما ذكره من أن "العزلة اسم آخر للجنون". كأنما يبرر هلاوسه وإساءته قراءة ما يراه في الظلال، بعزلته غير القابلة للشفاء. لكن ما يتضح مع الانتهاء من القراءة أن هذه الفقرة هي القطعة الأهم في لعبة "البازل" المجنونة هذه. نفهم حينها أيضاً أن مسحة التقديس التي أسبغها المؤلف على الأم ماريا ونهر الدانوب وبوخارست نفسها لم تكن عبثاً. فالبعد الديني والميثولوجي ليس مقحماً على الرواية وعالمها، بل هو جوهرها، حتى نكاد نشعر بأنناء أمام نص ديني في المقام الأول؛ سِفر تكوين من نوع ما يحمل في ثناياه ذاكرة جمعية للبشر منذ خُلِقوا حتى تقوم القيامة (قرأت أن الجزء الثالث ينتهي بأبوكاليبس بالفعل)، بل ذاكرة كونية شاملة. وإن تساءلنا كيف بالإمكان تحقيق هذا في رواية تتمحور حول ميرتشا الباحث عن زمنه المفقود وحول مدينته وأمه وأسلافها البلغار، فالجواب في متن الرواية نفسها، ويمكن اختزاله بجملة منها، مع كل ما يحمله الاختزال من عدوان على نص شديد الثراء والتركيب: "عند مستوى أعلى من رؤى المجرات والنجوم الزائفة، الكون منعكس في ذاته، في عقلٍ خارقٍ، قوامه الذاكرة. ثمة ذاكرة كونية، ذاكرة تشمل وتأوي وتحطم فكرة الزمن".
وإن خطر للقارئ تساؤل عن كُنه التكوين المعرفي الذي أتاح لهذا الكاتب الروماني أن ينسحر بالتصوف والعِرفان وأن تكون مخيلته دينية على هذا النحو، فالجواب أنه نشأ ملحداً لأبوين شيوعيين، لكن بعد الثورة الرومانية وسقوط نيكولاي شاوشيسكو، اشترى نسخة من الكتاب المقدس وداوم على قراءة أجزاء منه يومياً، فانفتح أمامه عالم جديد أصبح له تأثير كبير على مخيلته ورؤيته. غير أن التأثيرات الروحية، كما تتجلى في "أوربيتور"، لا تنحصر في التأثيرات المستلهمة من التوراة والإنجيل فقط، بل تمتد لتشمل تأثيرات وثنية، بخاصة في الجزء المتمحور حول رحلة أسلافه البلغار من وطنهم إلى رومانيا وتقديم أضحية بشرية للنهر (الإله المتجمد العظيم). وثمة أيضاً تأثيرات يمكن تلمسها للتصوف الإسلامي والفلسفة الطاوية الصينية ومذهب "وحدة الوجود".
اختراع بوخارست
ثمة مدن عظيمة في ذاتها، ثملة بتاريخها وأساطير تكوينها؛ تمنح كاتبها قدر ما يهبها وأكثر، تشكِّل وعيه وتؤطر رؤيته إلى العالم. وفي المقابل ثمة مدن أخرى نراها باهتة رمادية ولا نتوقع منها أن تكون إحدى عواصم الأدب الكبرى، حتى يأتي كاتب بارع فيقلب رؤيتنا تلك رأساً على عقب. في مقالة بعنوان "بوخارستي" كتب كارتاريسكو أن جيمس جويس كان لديه دبلن، وبورخيس كان لديه بوينس آيرس، ولورانس داريل كان لديه الإسكندرية، فماذا لديه هو؟! بوخارست؟! مدينة وصفها بالضجر غير المُسمَّى والقبيحة والريفية، لكنه كان قادراً على تحويلها بعصا خياله السحرية إلى مركز العالم ومدينته المقدسة، مدينة ميثولوجية مخترَعة، يمتزج فيها الكابوسي والحلمي بالواقعي واليومي، وتنفتح فيها كوى وأبواب تقود إلى عوالم أخرى. يسير في طرقاتها الموتى الأحياء والأشباح والمشوهين: "كما لو أن كل سكان بوخارست قد تشوهوا جسدياً".
مدينة سرية تندمج بذات الراوي فيصبحان كياناً واحداً: "مثل حجر كريم محاط بحلقة من نجوم، ملأت بوخارست الليلية نافذتي، منسكبة للداخل ومتوغلة عميقاً في جسدي وعقلي، حد أنني حتى كرجل شاب تخيلت أنّي مزيج من لحم وأحجار...".
إن كنت قد ذكرت أن "الجناح الأيسر" أشبه بسفر تكوين يحكي، على نحو سوريالي وهذياني، سيرة ذاكرة جمعية كونية، فإن هذا لا يتعارض إطلاقاً مع كونها سيرة لميرتشا وأمه ماريا وأسلافها وسيرة لبوخارست ورومانيا على مدار قرن كامل. فتارة نشعر أننا نكاد نرى بوخارست المعاصرة ونسير في طرقاتها ونشهد على تطورها (تشوهها؟) العمراني. وتارة أخرى نغرق في صخب أفكار ميرتشا وهلاوسه وذكرياته التي يعود بعضها إلى ما قبل ولادته بكثير، ونقضي صفحات كاملة يصف فيها يديه أو وجهه أو متابعته – عبر النافذة - لانحسار عاصفة ما وتغير الألوان والظلال مع انسكاب الضوء بعد ظلمة مؤقتة، بقدر هائل من الحسية والافتتان.
في المقابل نجد أنفسنا أيضاً في قلب الحي الفرنسي في نيو أورليانز، أو نحبس أنفاسنا ونحن نتابع قصف الحلفاء لبوخارست خلال الحرب العالمية الثانية ونُفاجَأ بتعاطف الريفيين الرومان مع الضباط الألمان في مقابل كراهيتهم للروس، أو نلهث خلف تجوال فرقة سيرك غجرية محملة برسالة غامضة، ونضحك من هزلية المؤامرة العالمية على الشيوعية كما يؤمن بها ضابط روماني في وقت غزو تشيكوسلوفاكيا رداً على ربيع براغ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا ينعكس العالم في عقل ميرتشا وذاكرته كما ينعكس في قطرة ندى، وكما ينطوي العالم الأكبر في جرم صغير. ويستحيل التاريخ الإنساني إلى جماع من هلاوس وهذيانات ورؤى استبصارية وذكريات سحيقة من أزمان غابرة، تندمج مع اليومي والعابر، وتنطلق من غرفة تقع في بناية متقشفة في شارع شتيفانو سيل ماري ببوخارست، اعتاد الطفل الوحيد ميرتشا أن يجلس فيها وقدمه على المدفأة، متطلعاً من النافذة إلى مدينته للتلصص على ما تمنحه إياه من شظايا حيوات ومشاهد.
الإخلاص للشعر
على خطى كافكا، يدوِّن ميرتشا كارتاريسكو يومياته بانتظام يقارب الهوس، إذ لم ينقطع عن كتابتها لأكثر من 50 عاماً. ومع كل ما تحويه ثلاثية "أوربيتور" من خيال جامح، يصفها هو في يومياته بأنها "يوميات موسعة على نحو هائل"، ويذكر في موضع آخر أنها "تتحدى حدود كل الأنواع الأدبية. تبدو كتخييل دانتيّ (نسبة إلى دانتي أليغيري) وحشي بجوهر شعري: نوفيلا – رواية – قصيدة طويلة... سوناتا روائية".
وفي حواراته يؤكد أنها سيرة ذاتية: "نعم، هي سيرة ذاتية، لكنها سيرة ذاتية خيالية، لأنني أشعر بأنني لم أعش حياتي حقاً قط، بل شيدتها، غيَّرتها بكل أنواع الصور البصرية المشوهة، اخترعتها وأعدت ابتكارها؛ حولتها إلى حياة غير شخصية قادرة على احتواء كل شيء".
ولعل أصدق ما ينطبق على هذه الملحمة أنها تتحدى التصنيفات وتتمرد عليها وتسخر منها، وإن كانت مثل كاتبها شديدة الإخلاص للشعر، فميرتشا كارتاريسكو يرى نفسه شاعراً أولاً وأخيراً، والشعر بالنسبة له وسيلته لرفض النضج وطريقته في محاربته.