Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قبل ثلث قرن من تحقيق ديفيد لين فيلمه الكبير عن "مشعل الثورة العربية"

يوم أوقف "لورانس العرب" مشروعاً سينمائياً أولاً عن حياته ومغامراته الشرق أوسطية

السير توماس إدوارد المعروف باسم لورانس العرب بالزي العربي التقليدي  (أ ف ب)

عند مفتتح عقد الستينيات من القرن العشرين، حين اندلع فيلم المخرج الإنجليزي ديفيد لين "لورانس العرب" كالقنبلة في عالم السينما وعالم التاريخ المصوّر في آن معاً، لم يكن السؤال: كيف ولماذا حُقّق هذا الفيلم الآن؟ بل كيف لم يحقق قبل الآن، لماذا انتظر الفن السابع ثلث قرن وأكثر بعد مقتل لورانس في حادث سير عام 1935 قبل أن يلتفت إلى سيرته محققاً عنها ذلك الفيلم الكبير والاستثنائي؟ كيف تمكّنت السينما من أن تتجاهل حياة لورانس العابقة بالدراما والمغامرات والتقلبات كل ذلك الوقت؟ والحقيقة أن الذين طرحوا السؤال لم يكونوا على حق. بالأحرى أن معلوماتهم كانت ناقصة.

فالسينما لم تتجاهل لورانس ولا كتابه "أعمدة الحكمة السبعة"، الذي اقتبس منه ديفيد لين وكاتبه المفضل روبرت بولت ذلك الفيلم الذي سيصبح من أعظم إنجازات السينما التاريخية. كل ما في الأمر أن لورانس نفسه أوقف عام 1935 قبل أشهر قليلة من رحيله، مشروعاً طموحاً اشتغل عليه المنتج والمخرج الإنجليزي ألكساندر كوردا لتحويل "أعمدة الحكمة السبعة" إلى فيلم. والحال أننا لا نكشف هنا عن سرّ تاريخي ولا نورد فرضية. بل نستند إلى ما يرويه لورانس نفسه في واحدة من آخر الرسائل التي بعث بها إلى صديقه وكاتب سيرته لاحقاً روبيرت غريفز، وهي رسالة مؤرخة في 4 فبراير (شباط) 1935؛ حادث الدراجة النارية الذي سيؤدي إلى مقتل لورانس حدث في 13 مايو (أيار) من العام ذاته. ولهذه الرسالة حكاية لا بد منها قبل الانتقال إلى ما تحمله بالنسبة إلى موضوعنا هنا.

 أصل الحكاية

 الحكاية أن صحيفة "تايمز" اللندنية كانت طلبت من غريفز، على سبيل الاحتياط، أن يكتب لها نعياً لصديقه لورانس يتضمن سيرته للاحتفاظ به لحين تدعو الحاجة. من فوره فكّر غريفز أن من الأفضل أن يعهد بالمهمة إلى صاحب العلاقة نفسه، فكتب إليه طالباً منه أن يكتب تلك النبذة، واعداً بأنه لن يفضح الأمر على الإطلاق، لافتاً إياه إلى أنه سيحوّل إليه مكافأة المقال سراً بالنظر إلى أن لورانس كان حينها يعيش في ضائقة مالية. وكانت رسالة لورانس ردّاً على طلب غريفز هذا، إذ قال له، إنه لا يشعر بالحاجة حالياً لكتابة المزيد من سيرتي التي "دوّنتها في (أعمدة الحكمة السبعة)". إذا شعرت بذلك سأضيف صفحات إلى ما أرويه في سيرتي، ثم ألا تلاحظ يا عزيزي أن أي نص أكتبه يمكنني أن أربح بفضله أضعافاً مضاعفة لما تعرضه عليّ؟".

 هنا ينحرف لورانس بالحديث كاتباً، "والآن هاك صفحة جديدة وموضوعاً جديداً: لقد التقيت ألكساندر كوردا في الشهر الفائت، مع أنني لم آخذ مأخذ الجدية تلك الشائعات التي راجت متحدثة عن أن كوردا يسعى إلى تحقيق فيلم سينمائي عني. بيد أن الشائعات تواصلت لدرجة وجدتني معها أسعى إلى لقائه، شارحاً له أنني لن ألين أبداً بالنسبة إلى ما يتعلق برفضي القاطع لمثل هذا المشروع. والحقيقة أن الرجل أبدى أعلى درجات اللباقة والتفهم. وهو أمر فوجئت به، إذ وجدته ماثلاً لدى منتج سينمائي، وقد وافق على موقفي على الأقل حتى أموت أو أبدّل رأيي. فهل تعتقد أن موقفي هذا إنما هو إشارة إلى تقدمي في العمر؟ مهما يكن، فإن مجرد التفكير في أني سأكون على شريط فيلم ما، أمر يرعبني تماماً".

 رأي سلبي في السينما الروائية

ويبدي هنا لورانس رأياً في السينما، لسنا ندري ما إذا كان سيصرّ عليه أو يبدّله لو قُيّض له أن يشاهد تلك التحفة السينمائية التي "ستضعه" على الشريط، بخاصة أن الممثل الذي قام بدوره في الفيلم كان بيتر أوتول الذي لا يفوقه طولاً بسنتيمترات وفيرة فقط، بل يعتبر واحداً من أجمل فتيان الشاشة الإنجليزية بما لا يتناسب بالطبع مع سمات لورانس التي تعتبر أقل من متوسطة، ما جعل الصورة التي احتفظ بها عشرات ملايين المتفرجين للورانس منذ شاهدوا الفيلم، صورة أوتول وليس الصورة الحقيقية لذلك الكاتب المغامر المقاتل وعالم الآثار الذي كانه لورانس في الحقيقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مهما يكن من أمر، تابع الأخير في رسالته إلى غريفز مفنّداً رأيه في الفن السابع، ذلك الرأي الذي لم يكن من سبيل إلى اكتشافه إلا في ثنايا تلك الرسالة، "وأصارحك بأن زياراتي النادرة إلى صالات السينما إنما أعطتني على الدوام إحساساً عميقاً بالسطحية والزيف. بل وأقول بالابتذال. فلئن كنت أمقت ذلك الابتذال الذي يطبع رجل الشارع، كيف لي أن أقبل سوء ما تحمله الأفلام من خداع؟". ومع ذلك يستدرك لورانس هنا ليضيف، "بيد أن الأفلام التي تنقل الواقع والأحداث الراهنة، أي تلك الأحداث التي تجري في الحقيقة وتتمكّن الكاميرات من تصويرها، شرائط تمنحني قدراً كبيراً من اللذة. فأنا أشعر أن الكاميرا تكون في مكانها الصحيح حين تمارس مهنة الصحافة. أما حين تحاول إعادة إنتاج الواقع أو غير الواقع، فإنها تخوض كل ابتذال ممكن وتجعلني أُصرّ بقوة على أسناني. بالتالي لن يكون هناك فيلم روائيّ عني. لقد وعدني كوردا بذلك وأغلق الملف".

والحقيقة أن كوردا قد حافظ على وعده، مؤكداً للورانس أنه مع ذلك سيبقي الإشارة إلى المشروع واردة في منشوراته الدعائية وفي كاتالوغات إنتاجاته المقبلة. لماذا؟ "بكل بساطة يا سيد لورانس لأن المشروع طالما بقي في منشوراتنا، لن تقدم أي شركة أخرى لا في حياتك ولا بعد مماتك، على الخوض بما يماثله". ولسوف يبقى الأمر على ذلك النحو حتى إقدام لين على تحقيق "لورانس العرب" وربما من دون أن يكون على علم لا بحكاية المشروع السابق، ولا بموقف لورانس ولا بوعود كوردا.

لورانس والثورة العربية

بقي أن نذكّر أخيراً بأن حكاية "أعمدة الحكمة السبعة" هي قصة الحرب والمغامرة، هي المختصر المتكامل لما يمكن أن يعنيه العرب للعالم. لقد احتل هذا الكتاب مركزه، فوراً، بين الكتب الكلاسيكية الإنجليزية. "أما غنى الموضوع وقوته وميزة الأسلوب الرفيعة وتلك الشخصية الصوفية التي لا حدود لها، فإن كل ذلك رفع هذا العمل الجبار إلى ما فوق مستوى جميع المؤلفات المعاصرة". إذا كان السياسي البريطاني ونستون تشرشل قال هذا الكلام السابق عن كتاب لورانس الأشهر، فإن الأخير نفسه كان ينظر إلى عمله الذي كان هذا الكتاب بالذات خلاصته وسرده التاريخي على الشكل التالي، "لم يكن لديّ طوال وجودي سوى رغبة وحيدة، وهي أن أتمكّن من التعبير عن نفسي، بأيّ ضرب من ضروب الأشكال التخييلية، غير أن عقلي المشتّت أكثر من اللازم، لم يعرف أبداً كيف يحصل على التقنية اللازمة لذلك، ثم أتت الصدفة، إضافة إلى مزاج منحرف بعض الشيء، لترمي بي في خضم العمل والفعل نفسيهما، وأعطتني مكاناً في الثورة العربية، موفّرة لي بالتالي فرصةً كي أخوض في مضمار ذلك النوع من الأدب الذي بدا بالنسبة إلي فناً من دون تقنية". وهذا الخوض، كما نعرف هو الذي أفضى بلورانس إلى وضع هذا الكتاب الذي منذ صدوره في طبعته الأولى المحدودة النسخ، للمرة الأولى عام 1926، يُقرأ ويتَرجم باستمرار، ولا يكفّ عن إثارة المخيّلات وشحذ المشاعر وكذلك عن توجيه أصابع الاتهام إلى السلطات البريطانية لكونها، وكما يؤكد لورانس دائماً - ومن دون أن يُقدم على تحويل رأيه هذا إلى فعل احتجاجي حقيقي، على أية حال- غدرت بالعرب، إذ تخلّت عنهم وعن مساندتهم في أحلامهم بعدما جرّتهم إلى حربها ضد الدولة العثمانية وانتصرت فيها نصراً"؛ من المؤسف والمحزن، بالنسبة إلى لورانس، أنها لم تشركهم فيه ولم تمكّنهم من جني ثماره.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة