ينشغل العالم كله بنتائج الانتخابات الأميركية، وأحد العناوين الفرعية في الحملة الانتخابية والصراع السياسي الجاري في المجتمع الأميركي، يكمن في الصراع بين العنصرية والتطرف من ناحية، وقيم العدالة والمساواة من ناحية أخرى.
وهو صراع طويل وممتد في هذا المجتمع، وقد تم تناول بعض أبعاده إبان أزمة مقتل جورج فلويد، ولن تحسمه الانتخابات الأميركية الأخيرة على الأقل.
ومن ناحية أخرى، تتداعى الجرائم الإرهابية المتطرفة التي لا يمكن تبريرها منذ أن أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريحاته التي خلطت الأوراق، وبدلاً من أن تتركز على قضية مبررة، وهي عزلة وتطرف بعض المسلمين، فقد سقطت في فخ التعميمات، وأرسلت إشارات خاطئة أدت إلى استغلالها من جانب عناصر مغيبة ومريضة، ولم تقتصر هذه الجرائم على فرنسا التي شهدت عدداً من الحوادث البشعة بل امتدت إلى النمسا أيضاً.
وفي الواقع، فإنه قد آن الأوان لوقفة جادة لمواجهة استمرار هذه السلسلة من الحوادث المتكررة في العقود الأخيرة بشكل لا يقارن مع عقود سابقة.
مشكلة مزمنة في الجنس البشري
يصف علماء النفس الاجتماعي مراحل التعصب بين الجماعات في ثلاث مراحل، أولها التنميط السلبي الذي قد لا ترافقه المرحلة الثانية، وهي المشاعر السلبية وآخرها النزعات السلوكية السلبية، وعلينا أن نقر أنه تاريخياً كانت البشرية تعيش أغلب الوقت فكرة التنميط السلبي عن الآخر، وأحياناً كان هذا يصحبه مشاعر سلبية من دون التورط في السلوكيات العدوانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الموضوعية هنا الاعتراف بأن هذه ظاهرة تكاد تكون ملتصقة بغالبية شعوب الأرض، وعرفتها كل الحضارات القديمة بدرجة أو أخرى، وكان الإغريق وبعدهم الرومان ينظرون بدونية كبيرة للآخرين جميعاً من دون استثناء.
ولم تسلم شعوب الحضارات الشرقية في آسيا وأفريقيا ومنها حضارتنا العربية الإسلامية بدرجات، وإن كانت أقل حدة مقارنة مع تلك الأوروبية. والمشاعر السلبية وحتى العنصرية موجودة فى تفاعلات البشر في آسيا وبخاصة بين الهنود والصينيين، وبين غالبية الآسيويين واليابانيين.
ولكن مرة أخرى، كانت الثقافات الأوروبية أشد عنصرية وتعالياً، وطورت بعد العصور الوسطى نظرياتها حول التفوق العرقي وتبرير الاستعمار لنشر الحضارة والتمدين وتبرير عبودية الشعوب الأخرى، ما قادها إلى أكبر أزماتها الكبرى تاريخياً ممثلة في النازية والفاشية، التي وجهت حتى للتمييز بين الشعوب الأوروبية ذاتها، وقادت إلى كارثة الحرب العالمية الثانية.
وفي الولايات المتحدة التي بدأنا حديثنا منها، كانت قضية العنصرية تاريخياً أحد أكبر محاور الصراع السياسي، ولم تكف الحرب الأهلية فى سبعينيات القرن التاسع عشر لطي هذه المشكلة، ولا حتى تفجر حركة الحقوق المدنية منتصف القرن الماضي، فقد ثبت الآن أن هذه القضية ما زالت مطروحة وتنبئ بتفجرات عنيفة في المجتمع الأميركي.
الغرب والشرق
من ضرورات النظرة المتكاملة، العودة إلى أزمنة تاريخية سابقة في العلاقة بين العالمين المسيحي الأوروبي والإسلامي الشرق أوسطي والعربي، ولم تكن هذه التفاعلات بعد ظهور الإسلام وتوسع الدولة الإسلامية شمالاً كلها إيجابية، على أنه يمكن وصف الحروب الصليبية بأنها نقطة تاريخية فارقة وكبرى على صعيد هذه المواجهة، وتحول المشاعر السلبية الأوروبية إلى سلوك عدواني ترك بصمات غائرة بين الجانبين.
والثابت تاريخياً أن هذه المشاعر، لم تختف عندما احتلت بريطانيا وفرنسا شعوب وبلدان المنطقة، وهناك كلمات وذكريات محفورة تشير إلى استدعاء هذا التاريخ ومحاولة الانتقام لهزيمة الصليبين عند حدوث الاحتلال الغربي للمنطقة.
والمؤكد أيضاً من مراجعة أنماط التفاعلات التاريخية، أن هناك تراثاً كبيراً من سوء الفهم والنظرة المتشككة بين الجانبين، بما يجعل من اللحظات التاريخية القصيرة التالية لانتهاء الحقبة الاستعمارية تكاد تكون إحدى أفضل مراحل التفاعلات التاريخية بين الجانبين، ومحاولة كثيرين من الجانبين طي صفحة الماضي، والتجاوز عنها بخاصة أن النظرة السلبية للآخر أياً كانت دوماً مشكلة الأغيار، وأن هذه المعضلة هي طاقة سلبية تكاد تعرفها كل شعوب العالم تجاه الآخرين.
ما حدث من عمليات إرهاب أخيرة وسابقة في عدد من الدول الغربية معروف ومفهوم، هو حصيلة عدد كبير من العوامل، تشمل سياسات هجرة مرتبط كثير منها بحاجة المجتمعات الأوروبية إلى عمالة رخيصة ومتخصصة، وارتباطاً شجعته مع مجتمعات كانت مستعمرات سابقة وتريد مواصلة نفوذها وروابطها معها، وظروفاً ليست سهلة في كثير من المجتمعات الطاردة، وأنشطة لجمعيات متطرفة استضافها الغرب ذاته لأغراض سياسية، كل ذلك مصحوب عند البعض بعنصرية لا تقبل اندماج الآخر، وظنت في البداية أنه من الأفضل إبقاء هذا الآخر في عزلته، التي هي أيضاً لاعتبارات اقتصادية اجتماعية.
وكي لا نكون كمن يدفن رأسه في الرمال، ثمة تحديات عميقة أيضاً تواجه الفكر الإسلامي في بيئات سياسية كلها لا تملك أدوات تصحيح، لا في المجتمعات الأصلية ولا تلك الوافدة، ومن ثم أليس من اللافت أن بعض هذه المجتمعات التي يشجع الغرب فيها الإسلام السياسي، هي أكثر من يقدم العناصر المتطرفة في الغرب ذاته، ولكن من يملك شجاعة الاعتراف بهذا؟
توظيف الدين في السياسة
كما ورد سابقاً، تعيش البشرية تاريخياً على تغذية المشاعر السلبية تجاه الآخرين، ولكن هذا لم يؤد برفاعة الطهطاوي ولا طه حسين ولا بملايين المسلمين، الذين عاشوا مؤقتاً أو حتى مماتهم في المجتمعات الأوروبية على مدى أكثر من قرنين إلى تبني أي سلوك عدواني تجاه الآخرين، بل سجل الطهطاوي وبعده مهاجرون، إعجابهم بل وتفضيلهم لهذه المجتمعات الغربية على بلدانهم، وتفضيلهم العيش والموت فيها، ولكن جرثومة توظيف الدين في السياسة عندما انتقلت إلى هذه المجتمعات بتشجيع غربي، ولتوفير قاعدة لعمليات أجهزتها السياسية والمخابراتية في المجتمعات الأصلية، أحدثت شروخات عميقة زادتها العوامل الاجتماعية العديدة السلبية التي طرحناها من قبل، أدت إلى أن أصبحت شريحة في حقيقة الأمر صغيرة ومحدودة، نبتة للتطرف، الذي زاد اشتعاله صعود خطاب يميني متطرف وعنصري فى هذه المجتمعات الغربية، ونشوء جماعات سياسية تعتمد عليها في بناء نفوذها السياسي وأحياناً الاقتصادي، إضافة إلى تغذية التطرف والعنصرية ورفض الآخر.
حلقات وسلاسل مفرغة
المؤسف في الأمر هو أن رصيداً لا يتوقف من جهود محاولة مواجهة أفكار التعصب والكراهية ورفض الآخر يتلاشى، بعد بذل كثير من الوقت والمعاناة، ولو راجع المرء كم الوثائق والمؤتمرات التي عقدت خلال العقود الأخيرة في الغرب والعالم الإسلامي سيصاب بالإحباط الشديد، وسيسأل أين تذهب كل الجهود التي كان من بينها أخيراً وثيقة الأخوة الإسلامية، التي وقعها شيخ الأزهر أحمد الطيب شيخ الأزهر والبابا فرانسيس، فضلاً عن مجلدات من الجهود الحثيثة للأمم المتحدة ومفوضية حقوق الإنسان تحاول زرع ثقافة التعايش والتسامح وقبول الآخر، ولكن عندما تحدث هذه الوقائع المؤسفة يتبخر كل شيئ وكأنه لم يكن، ومن ثم نجد من يتحدث عن الحوار والجهود من نقطة الصفر.
أظن أن هذه الدائرة المفرغة تحتاج إلى نظرة أكثر جدية، ومن الضروري أن تنطلق من فهم أن تقدم البشرية الحقيقي رهن بالمعالجة الجادة لهذه المعضلة، التي سببت الحروب والتعاسة منذ بدء التاريخ، وأن تتوجه طاقة البشرية لتحديات جديدة فرضتها التكنولوجيا الحديثة والتغير المناخي والفيروسات التي تعطل وتفسد الحياة، ونطوي تدريجياً صفحة هذه القضية أي كل منظومة عدم التسامح، بمعالجة جادة وتفهم حقيقي للآخر، وبحسم حقيقي ضد كل من يوظف الدين في السياسة، وبقوة ضد كل من يستخدم العنف والإرهاب باسم الدين أو باسم أي نظريات تفوق أو رفض للآخر تحت أي مسمى، وأن نبدأ في تربية أجيال جديدة لا ينمو بينها هذا العنف ولا رفض وعدم قبول الآخر، عندئذ فقط سنكون قادرين على مواجهة تحديات المستقبل التي قد تهدد الوجود البشري على هذه الأرض، أمر قد يستغرق وقتاً وجهدًا، ولكن لو تذكرنا أن الجزء الأول من النصف الثاني من القرن العشرين كانت الأمور فيه أفضل، فثمة أمل لو كانت هناك محاولات جادة.