Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيرلندا ما زالت تخذل جيمس جويس مرة بعد أخرى

تحويل "منزل الأموات" فندقاً يسهم في تدمير آثار صاحب "عوليس"

الروائي الإيرلندي جيمس جويس (غيتي)

حين نشرت "عوليس" في باريس عام 1922، اعتبرتها إيرلندا البلد التي رفضت نشرها، رواية إباحية، تتجاسر على القيم والمعتقدات، وحظرتها بريطانيا، وأحرقتها الأجهزة الرقابية في أميركا. إلا أن جويس ظل مصراً على القول "إذا لم تكن "عوليس" جديرة بالقراءة، فالحياة غير جديرة بالعيش".

17 عاماً قضاها جويس في كتابة روايته الأخيرة "يقظة فينيغان" ليكمل اليوم الذي أسهب سرده في عوليس على مدار 18 ساعة، (الزمن المحدود لحركة بلوم اليومية في الحياة)، بالولوج إلى عوالم الحلم الفنتازية، مجازفاً باستخدام تقنيات أسلوبية ولغوية أكثر تعقيداً، جعلتها من أصعب الأعمال الروائية في الأدب على الإطلاق، والأقل مقروئية بين الجمهور. ويعتقد العديد من النقاد أن استخدام جويس هذه التقنية كان بمثابة محاولة منه لاستعادة تجربة النوم والأحلام، فقد اعتبرها فرويد فتحاً سيكولوجياً في مجال الرواية، واستلهم منها العالم الفيزيائي موري جيل مصطلح "كواركس" الشائع الآن، اسماً للجزيئات الثلاثة التي تتكون منها كل جزيئات العالم الثقيلة، كما وضعتها المكتبة الحديثة في إنجلترا عام 1998 في لائحة أعظم 100 رواية مكتوبة باللغة الإنجليزية في القرن العشرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بلادي وإن جارت عليّ...

"حين أموت، ستظل دبلن مكتوبة في قلبي"، هذا قول جويس الأخير على الرغم من استيائه من عدم قدرته على كسب عيشه في بلاده التي أطلق عليها اسم "مدينة الفشل والحقد والتعاسة". ووصفها على لسان ستيفن ديدالوس، شخصيته التي وزع أطيافها في أعماله بأنها "الخنزير العجوز التي تأكل خنوصها"، بعبارة أخرى، بلاد تلتهم أبناءه، كما شبهها بـ "مرآة مشروخة لخادمة". 

ديدالوس مدرس التاريخ الذي يمثل شخصية جويس نفسه، طلبت منه والدته أن يركع ويصلي من أجلها وهي تحتضر، لكنه رفض، وتركها تموت من دون أن يذعن لطلبها الأخير، فيُتهم من الجميع بالجحود، وتلاحقه الأم في أحلامه صامتة وتنحني فوقه بـ "جسدها الذاوي داخل أكفانها الفضفاضة، ورائحة باهتة لرفات رطبة، عيناها الزجاجيتان تحدقان من أعماق الموت، لتزعزعا روحي وتلوياها: لا يا أماه، اتركيني في حالي ودعيني أعيش".

جويس من الفئة التي عانت في حياتها كثيراً من أجل الحصول على لقمة العيش، كان يقطع يومياً مسافة هائلة قبل أن ينتقل في سلسلة من وسائل المواصلات، ما بين قطار وعربة ودراجة وسفينة، فقط ليقوم بتدريس ابنة ربان سفينة مقابل 5 شلنات. ذات يوم قال أمام صديق له رداً على ما يعانيه أنه سيكتب رواية معقدة تحتفظ بنسخة منها مكتبات العالم وكان أن استغرق في كتابتها 7 سنوات.

الاستهانة بالتراث الثقافي

في قصته "الأموات" يتخذ جويس من المنزل الكائن في 15 جزيرة أشر (منطقة تقع قرب أرصفة دبلن) مسرحاً للأحداث، والذي كان في يوم من الأيام مسكناً لعمات جويس، ومدرسة للموسيقى أدرنها في تسعينيات القرن التاسع عشر، ومكاناً أقمن فيه حفلات عشاء، ما ألهمه كتابة ما وصفه النقاد بأنه أعظم قصة قصيرة في كل العصور، ومنذ ذلك الحين ويُعرف البيت محلياً باسم "منزل الأموات".

طوال القرن الماضي، ساءت حالة المنزل وكان بحاجة إلى ترميم وكثيراً ما استولى عليه واضعو اليد. في عام 1987، قدم المخرج جون هيوستن فيلماً من قصة جويس، التي تعتبر بحد ذاتها كلاسيكية، دفعت مجلس مدينة دبلن إلى وضع المبنى على قائمة "المنشآت المحمية". لكن المنزل دمرته النيران تقريباً بعد بضع سنوات. وعندما اشتراه المحامي وأحد المعجبين بجويس، بريندان كيلتي في عام 2000، وأعاد ترميمه بمحبة ونظم فيه أنشطة أدبية، لكنه أفلس في النهاية وباع العقار في عام 2017.

لم يُظهر مجلس مدينة دبلن أي اهتمام بشراء المنزل، لذلك ذهب مقابل 650 ألف يورو إلى اثنين من رجال الأعمال؛ فيرغوس مكابي وبريان ستينس. وقبل أيام، أعطى مجلس مدينة دبلن الضوء الأخضر لمشروع تحويل هذا المنزل الشهير، إلى نُزل، وخلص إلى أنه في حين أن المبنى "ذو أهمية خاصة"، فإن "حالته الحالية تثير القلق والتغيير المقترح لاستغلاله هو أفضل طريقة لضمان الحفاظ عليه على المدى الطويل". وقام أصحاب المشروع أيضاً بطرح خطط امتداد في الخلف، أثارت مخاوف من أن هيئة المبنى ستتغير بشكل لا رجعة فيه.

يقول الباحث جون ماكورت: "في قصة "الأموات" يحقق جويس سلامه النفسي مع دبلن، لذلك أعتقد، مرة أخرى، أن إيرلندا تخذله إلى حد ما بفشلها في تقدير المبنى".

ماذا بقي لأهالي دبلن؟

عندما تم الكشف عن خطط تطوير المبنى إلى نزل يتكون من 54 غرفة في عام 2019، كان رد الفعل سريعاً. وقّع تسعة وتسعون كاتباً بياناً ضد الاقتراح، بمن فيهم روني وأوبراين وإيان ماك إيوان وسلمان رشدي، جاء فيه: "في العقود التي انقضت منذ وفاة جويس، ضاع الكثير من الأماكن التي أصبحت خالدة في كتاباته عن المدينة فدعونا لا نكرر هذا الخطأ اليوم". وفي بيان اعتراض منفصل، ادعى تويبين أن تطوير المنزل "سيدمر جزءاً أساسياً من التاريخ الثقافي لإيرلندا".

وزارة الثقافة والتراث في إيرلندا اعترضت بدورها، ووجدت أن ذلك "سيقوض، ويضعف، ويقلل من قيمة موقع للتراث الثقافي العالمي، ومن أهمية جزء من شبكة المدن الإبداعية في يونسكو".  وكتب جون ماكورت، الباحث في أعمال جويس والناشط في الحملة المناهضة لاستثمار المبنى، يقول: "يمكن لدبلن بناء جميع غرف الفنادق/ النزل التي تروق لها، ولكن إذا استمرت في تجاهل التراث الثقافي الفريد وهدمه، فسوف تمحو ما بقي من قلب المدينة ولن يبقى سوى القليل للزوار أو في الواقع لسكان دبلن أنفسهم ليقدروه".

في 11 يناير (كانون الثاني) 1941، خضع جويس لجراحة في زيورخ بسبب قرحة الإثني عشر دخل إثرها في غيبوبة، استيقظ منها في الثانية من صباح يوم 13 يناير 1941، وطلب من الممرضة الاتصال بزوجته وابنه قبل أن يفقد وعيه مرة أخرى.

كانا بالفعل في طريقهما إليه عندما توفي بعد 15 دقيقة عن عمر يناهز التاسعة والخمسين، ودفن في مقبرة فلونتيرن بزيورخ، وعلى الرغم من وجود اثنين من كبار الدبلوماسيين الإيرلنديين في سويسرا في ذلك الوقت، لم يحضر أي منهما جنازته، ورفضت الحكومة الإيرلندية لاحقاً عرضاً بالسماح بإعادة رفاته إلى إيرلندا، أرض الوطن.

عندما أبلغ السكرتير في وزارة الشؤون الخارجية في دبلن، بوفاة جويس، قال لمحدثه: "من فضلك أرسل لنا تفاصيل عن وفاته. إذا أمكن معرفة هل مات كاثوليكياً؟!

في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، تم تقديم اقتراح إلى مجلس مدينة دبلن بإعادة دفن جويس فيها، وفقاً لرغبة عائلته، وأصبح الاقتراح مثيراً للجدل على الفور، حيث علقت صحيفة إيرلندية قائلة: "...من الصعب عدم الشك في وجود حسابات خاصة، بل تجارية، لعلاقة إيرلندا المعاصرة بكتّابها العظماء، الذين غالباً ما نحرص على الاحتفال بهم، وإذا ما أمكن تحقيق عائد من خلالهم بدلاً من مجرد القراءة". 

في السنوات الأخيرة، غادر العديد من الكتاب والموسيقيين والممثلين دبلن بسبب ارتفاع الإيجارات وقلة المساحات المجتمعية، بعدما طغت المشاريع على أماكن الترفيه. لكن مهما حدث ل"ـمنزل الأموات"، فإن الخطر الحقيقي هو أن جيلاً جديداً من الفنانين الإيرلنديين يتم دفعهم إلى المنفى، تماماً كما حدث مع جويس.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة