Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل "أكاذيب وطلاسم" لمورانتي هي رحم روايات فيرانتي؟

حين يستعان بصاحبة "الحكاية" لحل لغز الكاتبة الشبح التي تدهش الملايين

الكاتبة الإيطالية إلسا مورانتي (غيتي)

يبرز في فضاء الحركة الإبداعية الإيطالية منذ سنوات اسم يبدو كالشبح لكاتبة غزيرة الإنتاج، ما إن يصدر كتاب جديد لها حتى يتدافع القراء لشرائه بمئات ألوف النسخ، كما يتدافع مترجمو ما لا يقل عن عشرين لغة أوروبية لنقله إلى لغاتهم. وحتى لو كانت هذه الكاتبة تعتبر ظاهرة اليوم، فإن كثراً من النقاد ينظرون إليها نظرة جدية، معتبرين أنها وريثة إلسا مورانتي الكاتبة التي كان لها حضور كبير في أواسط القرن العشرين.

 توقّع الكاتبة كتبها، لا سيما رباعيتها التي باتت كلاسيكية الآن باسم إيلينا فيرانتي الذي هو اسم مستعار يخفي اسماً حقيقياً لا يعرف أحد من صاحبته، أو صاحبه. بل وصل الأمر ببعض النقاد إلى القول إن فيرانتي قد تكون هي مورانتي نفسها على الرغم من موت هذه الأخيرة منذ سنوات طويلة، مفسرين الأمر بأن مورانتي ربما تكون تركت نصوصاً يعاد اكتشافها الآن. ومن المؤكد أن هذه الفرضية ليست قادرة على حلّ لغز فيرانتي، لكن أصحابها يستندون إلى تشابه في رنّة اسمي المرأتين كما إلى تشابه يرصدونه في أسلوبيهما وفي البيئة التي تصفها كل منهما في رواياتها وهي بيئة غالباً ما تنتمي إلى الجنوب الإيطالي.

 ولئن كان هذا يبدو من قبيل التخريف، يطّلع أصحاب النظرية على واحدة من روايات إلسا مورانتي الصادرة باكراً في عام 1948 ليستنتجوا أنها يمكن أن تكون في جزء منها الرحم الذي منه ولدت رباعية فيرانتي. وهذه الرواية هي "أكاذيب وطلاسم" التي لا بد من أن نلاحظ على الفور تفرّدها بين روايات إلسا مورانتي المعروفة. فما هي هذه الرواية؟ وكيف تراها تساند نظرية من يعتبرون إيلينا فيرانتي وريثة لإلسا مورانتي إن لم تكن هي نفسها؟

ثلاثة أجيال من عائلة واحدة

تدور أحداث الرواية على مدى ثلاثة أجيال من حياة عائلة واحدة من الجنوب الإيطالي وهي تُروى لنا غالباً على لسان امرأة تنتمي إلى الجيل الثالث وترتبط بعلاقات قرابة حقيقية من ناحية وبعلاقات تبني من ناحية ثانية. ولقد رأى كثر من النقاد أن تلك المرأة ربما تكون مستعارة من شخصية الكاتبة نفسها بحيث تبدو الرواية في نهاية الأمر أوتوبيوغرافية، كما حال رباعية فيرانتي. وبحسب حكاية الراوية التي قد تترك مكاناً في بعض الأحيان لتعددية أصوات لافتة، تشتبك العلاقات العائلية جيلاً بعد جيل وتتعقد إنما دائماً من حول تيمة السيطرة داخل العائلة وحكايات الحب التي تخيب وتتمزق، مجبولة بهيمنة ذكورية تتعامل مع المرأة وكأنها سلعة يتم توارثها، حتى من دون أن تبدر من النساء المعنيات أية بوادر مقاومة إن لم يكن على المستوى الفردي البحت انطلاقاً من رغبة امرأة ما في الارتباط بمن اختاره قلبها.

ومن الواضح أن هذه الوضعية غير قابلة للتبدّل حتى بالنسبة إلى إليسا الراوية. ولا ننسى هنا أن "أكاذيب وطلاسم" قد كتبت بعيد الحرب العالمية الثانية يوم لم تكن أية أمور اجتماعية قد تبدّلت في الجنوب الإيطالي، مسقط رأس إلسا مورانتي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شهرة تدين للنظرات الطفولية

مهما يكن، ربما يمكننا أن نقول أن شهرة إلسا مورانتي قامت، أساساً، خلال السنوات الأخيرة من حياتها، على صراعها اللفظي ومعركتها الحامية مع ألبرتو مورافيا، رفيقها خلال سنوات طويلة، وعلى رائحة الفضيحة التي نفدت من خلال ذلك الصراع فأتى رحيل إلسا عام 1985، ليضع حدّاً لكل ذلك، ويُنسي الناس "معارك" إلسا مورانتي، مبقياً على أعمالها الأدبية. ولن يكون من الصعب بعد ذلك اكتشاف أن أعمالها هذه كانت من الأعمال الأدبية الأساسية في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد ذلك بأشهر قليلة، جاء فيلم "لا ستوريا" - أو "الحكاية" - الذي أخرجه لويجي كومنشيني ومثّلته كلوديا كاردينالي، ليرسّخ نهائياً مكانة إلسا مورانتي التي اقتبس الفيلم من واحدة من أجمل رواياتها.

بشكل عام، كانت إلسا مورانتي كاتبة الأحاسيس الطفولية، الكاتبة التي نظرت إلى العالم من خلال عيون الأطفال، فاكتشفت قسوته وأحست باليأس منه ووقفت في نهاية الأمر موقف الحيرة إزاءه. ولقد كان دأب إلسا مورانتي في كل رواياتها ونصوصها الأخرى، تحرّي جوانب ذلك اليأس الذي كان لا يكف عن اعتصارها، جنباً إلى جنب مع الهواجس الأسطورية التي أسست لذلك اليأس. وهي هواجس ولدت مع إلسا مورانتي منذ بداياتها، هي التي لن تنسى أبداً أنها أطّلت على الحياة في 1918، أي في العام ذاته الذي ولد فيه القرن العشرون من رحم مآسي ومجازر الحرب العالمية الأولى.

دهشة وشرّ مستطير

كانت إلسا مورانتي لا تزال مراهقة حين كتبت روايتها الأولى "مغامرات كاترينا الغريبة"، صحيح أن تلك الرواية لم تحقق يومها النجاح الذي كانت تتوقعه لها كاتبتها، غير أنها حددت لإلسا طريقها المقبلة، وكذلك حددت لها مواضيعها الأساسية: الطفولة والدهشة أمام العالم والشرّ المستطير في عالم الكبار، وهي مواضيع تشغل الكثير من صفحات "أكاذيب وطلاسم" حيث لا تقال الحقائق أبداً، بل تستخدم اللغة لإخفائها. والحال أن إلسا لن تخرج بعد ذلك عن هذه المواضيع أبداً، لا في كتاباتها ولا في نظرتها، كامرأة، إلى العالم، حيث ظلت على الدوام تلك الطفلة  المدهوشة التي تراقب العالم بعينين قلقتين، وتعرف في كتابتها كيف تربط بين الخاص والعام، بمعنى أن "الحكاية" لديها تكون حكاية وتكون "تاريخاً" في الوقت ذاته، ومن هنا ذلك الالتباس الخلاق والمدهش في عنوان روايتها الأساسية "لا ستوريا".

أول رواية كبيرة كتبتها إلسا مورانتي كانت “أكاذيب وطلاسم" في 1948، وهي تنطلق أصلاً من الحكاية التي ترويها لنا إلسا عن طفل ولد وترعرع مثل طفل وحشي برّي في بيت كبير، وكان كل أمله في الحياة أن تتكرر زيارة والده الذي كان ينظر إليه بوصفه مخلوقاً خرافياً جاعلاً منه بطل مغامرات غريبة يبتكرها خياله. غير أن العالم الغريب والخرافي الذي ابتكره الفتى، سرعان ما أخلى مكانه لنظرة على الواقع كشفت عن قسوة ذلك الواقع. وهكذا كانت خيبة الطفل كبيرة حين وجد الواقع يحلّ بشكل مباغت محل عالمه المتخيل، فيصدمه تلك الصدمة التي لن يبرأ منها أبداً.

الصغار لإنقاذ العالم

أما كتاب إلسا الكبير، فصدر في 1969 ليكشف كم أن هذه الكاتبة التي كانت تعيش كطفل روايتها "أكاذيب وطلاسم" معزولة خارج كل جماعة وشلة، وسط روما تحلم بالجنوب الأسطوري الذي ينتمي إليه أبوها، وكم أنها كانت قادرة على مراقبة العالم وأحداثه التي تدور من حولها. ففي ذلك الكتاب وعنوانه "العالم الذي ينقذه الصغار"، انطلقت مورانتي من حادثة انتحار لتصل إلى تأمل التاريخ والكيفية التي يتطور بها المجتمع وسط خضّات انتفاضات الطلاب في 1968 وحرب فيتنام والقنبلة الذرية وآفاق استخدامها المدمر.

 كل هذا قاد الكاتبة إلى التعبير عن تصور مأساوي للتاريخ، تصور قولبه الموت ومطاردته لها، ولكن قولبه أيضاً ذلك التقسيم الذي رأت إلسا مورانتي أنه يقسم الناس قسمين: الأكثرية البائسة والأقلية السعيدة، الأول هم الذين يخضعون لمنطق المجتمع ويندمجون في مؤسساته، أما الآخرون فهم الذين يرفضون ذلك الخضوع ويعيشون على الهامش. ورواية "لا ستوريا" تأتي ضمن هذا الإطار، ولكن دائماً من خلال عالم تتأمله عينا الطفل، الطفل المصاب بالصرع المندمج بالطبيعة، إلى درجة أن إلسا تقدمه لنا حاملاً، وحده، لحقيقة الوجود. وإلسا تركز على علاقة شخصيتها بالتاريخ من خلال أسلوب يقوم على تسليط الضوء على أحداث التاريخ الحقيقية بالتقاطع مع أحداث الرواية. وهذه الرواية حققت نجاحاً كبيراً ما إن صدرت وصارت واحدة من أكثر الروايات شعبية في تاريخ الأدب الإيطالي الحديث، وكذلك حال رواية إلسا التالية "آراكولي" التي، مرة أخرى، تنظر إلى العالم وقسوته من خلال عيني طفل. ولا شك أن هذه الرواية كما بقية كتبها تقول لنا بكل وضوح إن إلسا مورانتي في كل هذه الأعمال، التي كانت قليلة العدد على أي حال، عرفت كيف تصنع لنفسها مكانة على حدة في تاريخ أدب إيطالي لم يكف عن طرح أسئلة الوجود على نفسه طوال إبداعاته خلال قرننا العشرين هذا، وهي نجحت في ذلك إلى درجة أن كثراً يرون أنها لا تزال حيّة وتكتب باسم... إيلينا فيرانتي!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة