Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سرّ بيكاسو" يكتفي بتقديم الرسام الأسطوري من خلال عمله

الأقلام "العجائبية الأميركية" التي أبدعت لوحات وفيلماً فريداً

المخرج هنري كلوزو وبيكاسو أثناء العمل على الفيلم (غيتي)

لعل من الأمور الأكثر مدعاة للدهشة أن الرسام الإسباني/ الفرنسي الذي شغل القرن العشرين كله بفنه وصخبه الاجتماعي وحكايات حياته، والذي وُلد مع فن السينما وكانت علاقته بالفنون البصرية استثنائية في عمقها... هذا الفنان لم يكن حظه مع السينما كبيراً. بالكاد التفتت إليه والتفت هو إليها. ومن الصعب طبعاً معرفة أسباب ذاك الذي سيبدو كأنه نفور متبادل. ولئن كان المخرج الإسباني المخضرم كارلوس ساورا قد حقق أخيراً فيلماً من إنتاج مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" عن بيكاسو قام بدوره فيه أنطونيو بانديراس ضمن سلسلتها الجديدة "عباقرة"، فإن هذا الفيلم الذي عُرض قبل شهور في مسقط رأس بيكاسو وبانديراس معاً، مالاغا، اكتفى بتصوير بيكاسو وهو يرسم لوحته الشهيرة "غويرنيكا" التي خلدت المجزرة النازية التي اقتُرفت في تلك المدينة الإسبانية الشمالية إبان الحرب الأهلية، ويتشاجر طوال الوقت مع ملهمته وعشيقته المصورة الفوتوغرافية دورا مار. وكانت تلك كذلك حال الفيلم الذي حققه جيمس أيفوري قبل نحو ربع قرن عن الرسام الكبير نفسه بعنوان "العيش بعد بيكاسو" وقام فيه بالدور الممثل أنطوني هوبكنز الذي عاد ولعب دور هتشكوك في فيلم آخر!

وثائقيان فرنسيان استثنائيان

هنا أيضاً بالكاد شاهدنا لوحة لبيكاسو أو عرفنا شيئاً عن عمله فيما أُتخمنا بالمشاهد والمعلومات حول حياته العاطفية والجنسية. وسيقال لاحقاً إن سبب ذلك عدم نيل الفيلم إذناً بتصوير أي لوحة من لوحات الفنان! ولن تكون حال بضعة أفلام أخرى تحدثت عن بيكاسو وثائقياً أو روائياً بأفضل من ذلك. ومن هنا ظلّ مشاهدو الأفلام من محبي بيكاسو على ظمئهم لمشاهدة فيلم له وهو يصوَّر فيه كفنان حقيقي بعيداً من أساطيره النسائية، هو الذي كان من أكبر من عرفهم القرن العشرون من فنانين مجددين.

مهما يكن من أمر فإن الذين يريدون هذا بالفعل قد يكون عليهم أن يقصدوا واحداً من فيلمين كبيرين وثائقيين فرنسيين، أحدهما من إخراج آلان رينيه، صاحب "هيروشيما يا حبي" بين تحف سينمائية أخرى ويقتصر على تحليل لوحة "غويرنيكا" في تفاصيل تفاصيلها، من دون أي دنو حقيقي من حياة بيكاسو أو فنه، أما الثاني فهو ذلك العمل الكبير والفريد الذي نتوقف عنده هنا وهو فيلم "سرّ بيكاسو" من إخراج هنري – جورج كلوزو الذي كان زمن تحقيق الفيلم، عام 1955، واحداً من أكبر وأشهر المخرجين الفرنسيين السابقين مباشرة على ولادة "الموجة الجديدة" في السينما الفرنسية والممهدين لها.

عمل متفرد في تاريخ فنّين

في الأحوال كافة كان "سرّ بيكاسو" ويبقى فيلماً متفرداً في تاريخ العلاقة بين الفن السابع والفن التشكيلي. ناهيك بأنه يبقى دائماً وليد صداقة وجيرة بين الرسام والمخرج. ففيما كان الأخير يعيش في قرية سان بول دي فانس الجنوبية الفرنسية غير بعيد من مدينة "كان"، كان بيكاسو يعيش ويعمل في قرية فالوريس المجاورة للمدينة. ومن هنا كانا كثيراً ما يلتقيان في وقت كان كلوزو يحب أن يجرب حظه في فن الرسم ويعرض اللوحات التي يرسمها على بيكاسو سائلاً إياه رأيه. والحقيقة أن الصداقة بين الاثنين كانت تعود إلى سنوات العشرين حين التقيا شابين للمرة الأولى. أما حين عادا إلى اللقاء في الجنوب الفرنسي فكان كل منهما قد وصل إلى أعلى درجات الشهرة والنجاح إنما كل منهما في ميدانه. وطوال تلك الحقبة كان كلوزو لا يفتأ يقول لصديقه إن الوقت قد حان لكي يحقق عنه فيلماً... "لكن المشكلة هي أنني لا أريد أن يكون فيلماً عادياً. أريد ما يليق بقيمتك كفنان ويضيف إلى سجلّي كمخرج..."

هكذا حدث ذات يوم عند بدايات العام 1955 أن اتصل كلوزو ببيكاسو ناقلاً إليه خبراً قد يبدو عادياً بالنسبة إلى أي شخص آخر: خبر وصول اختراع جديد من أميركا هو عبارة عن أقلام حبر "فيلتر" من مميزاتها أنها ترسم على الزجاج كما ترسم على الورق لكن لها على الزجاج كما على الورق من الشفافية بحيث يظهر ما هو خلفها تماماً ظهوره خلف الزجاج النقي نفسه. إذاً؟! سأله بيكاسو وقد بدا عليه اعتقاده بأن المخرج الصديق في سبيله إلى نصحه باستخدام تلك الأقلام في رسمه. "إذاً؟ قال كلوزو، لقد عثرت على فيلمنا!" وراح يشرح للفنان فكرته. وهي طبعاً الفكرة التي ستتحول طوال شهري الصيف التالي في العام نفسه إلى ذلك الفيلم المدهش الذي سيحمل عنوان "سرّ بيكاسو".

فكرة بسيطة لفن كبير

والفكرة بسيطة في نهاية الأمر: سوف تصوّر كاميرا كلوزو تحت إدارة وبين يدي كلود رينوار شقيق جان رينوار وطبعاً الابن الأصغر للرسام بيار – أوغست رينوار، تصوّر بيكاسو وهو يرسم لوحات عديدة على لوحات من ورق خاص، مستخدماً تلك الأقلام التي وصفها كلوزو بـ"العجائبية" بحيث تنقل الشاشة للمرة الأولى في التاريخ مشاهد للرسام ولوحته مواجهة وهو يرسمها حيث وضع السينمائيان الكاميرا للمرة الأولى خلف مسطحات الورق الذي يستقبل الأقلام وهي تقوم بعملها فيما الرسام يتنقل بين مختلف ألوانها شارحاً فنه المدهش لكاميرا تعكس تلك الدهشة بالطبع.

وتستمر الحال في الفيلم على تلك الشاكلة طوال ثمان وسبعين دقيقة يشتغل فيها بيكاسو إنما من دون أن نراه دائماً بالوضوح الذي كان يمكن لنا أن نتمناه، إلا في لقطات عريضة وثابتة راحت فيها الكاميرا تلتقطه، غالباً من أعلى، لتعيد ربط مشاهده تلك بالعمل قيد التنفيذ أي باللوحات وهي تتكوّن أمام أعيننا من خلفها بأقلام بيكاسو. ومهما يكن يبقى أن بيكاسو يملأ الشاشة وحيداً مع فنه طوال الفيلم سواء شاهدناه مباشرة أو أحسسنا بيده وأقلامه وهي تقوم بعملها، وباستثناء دقائق نرى فيها كلوزو وهو يناقش أو يتساءل أو يبدي سروره أو استغرابه، ودقائق أخرى لا تقل عن تلك أهمية نرى فيها المصور رينوار نفسه وكاميراه وهو يقوم بعمله بدأب الرسامين الكبار.

ولعل من اللافت إلى هذا كله أن كلوزو حرص على أن ينوّع في تلوين الفيلم جاعلاً إياه يتراوح بين الأسود والأبيض من جهة والملوّن من جهة أخرى تبعاً لمسيرة الفيلم من ناحية، وحدس الفنان من ناحية أخرى... ما أنتج في نهاية الأمر نوعاً من "العمل قيد التنفيذ" لا شبيه له في تاريخ الفن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لولا حساسية بيكاسو الفنية

على هذا النحو وُلد إذاً ذلك الفيلم الذي سيبقى علامة أساسية في تاريخ الفن التشكيلي كما في تاريخ السينما. ففرادته لا تكمن فقط بطوله الذي كان استثنائياً في عالم ذلك النوع من الأفلام الوثائقية التي نادراً ما كانت فترة عرضها تتعدى الخمسين دقيقة فأتى "سرّ بيكاسو" ممتداً على مدى يقرب من ساعة ونصف الساعة. بل تكمن تلك الفرادة في حرص المخرج على أن يُبعد عن فيلمه أي عنصر تعليمي كما أي ربط لفن بيكاسو بحياته، يُترجم بغياب أي عنصر بيوغرافي أو تفسيري يخرج عن نطاق ما يُرسم أمام أعين مشاهدي الفيلم. بالنسبة إلى كلوزو كانت لحظة الإبداع الفني هي الأساس وبالتالي الموضوع. كانت وحدها ما يُشاهَد على الشاشة. أما بيكاسو فكان عليه أن يكتفي بأن يكون حضوره الأساسي في الفيلم من طريق فنه نفسه، لا أكثر ولا أقل. وربما إحساسه الفني العميق كان هو ما أملى عليه ذلك القبول الذي تواكب مع فكرة جديدة ما كان من شأنه أن يرضى بها هو الذي كان سيّداً في عمله: فكرة أن يكون الفن هنا مزيجاً من فنّين معاً. فنّين يولدان في اللحظات نفسها. ربما ما كان من شأنه أن يوافق على ذلك لو لم يكن كلوزو صديقاً له، وكبيراً من كبار السينمائيين الفرنسيين في ذلك الحين!

المزيد من ثقافة