أول سؤال يخطر في البال هنا هو التالي: هل قرأ الكاتب المسرحي الألماني برتولت بريخت وحتى قبل وصوله منفيّاً إلى أميركا رواية آبتون سنكلير "الدغل" التي يتحدث فيها هذا الكاتب الاشتراكي (الذي سيقتبس المخرج المعاصر لنا بول توماس أندرسون فيلمه الرائع "ستكون هناك دماء" عن روايته التي لا تقل روعة "بترول")، عن أوالية التحكّم الرأسمالي بمسالخ شيكاغو التي كانت أشهر مسالخ للحوم في العالم في ذلك الحين وصوّرها سنكلير بوصفها الأكثر قسوة ليس فقط على المئة ألف عامل الذين يعملون فيها، بل على مستهلكي اللحوم ومربّي الماشية والأبقار في أميركا؟
بين المنتج والمستهلك
في رواية "الدغل" التي نشرها سنكلير مسلسلة أول الأمر عام 1905 في مجلة تقدمية هي "دعوة إلى العقل" ثم في كتاب لقي رواجاً هائلاً لتتحول لاحقاً إلى فيلم، من إخراج هنري كنغ، تبدو وكأنها العمل الإبداعي الأفضل الذي يصور أواليات الاحتكار الرأسمالي الناشب أنيابه في عنق المنتج من ناحية والمستهلك من ناحية أخرى، جاعلاً من الوسيط بين الاثنين، أي تجار اللحوم ومصنعيها، الرابح الأكبر. وبالتالي من المؤكد بالنسبة إلى بريخت الذي كان في بدايات سنوات الثلاثين من القرن الفائت يعتبر أن المسرح، بل الإبداع عموماً لم يوجد في الأصل إلا لكي يخلق الوعي الحاسم بتلك الأواليات، من المؤكد أن المسالخ الواقعة في حي يونيون ستوك يارد بمدينة شيكاغو، ناشرة الروائح الهائلة والظلم الاجتماعي الأكثر هولاً، هي المكان الأفضل لفضح همجية الرأسمالية.
ومن هنا سواء كان بريخت قد قرأ رواية آبتون سنكلير أو لم يقرأها، فإن التقارب بين الرواية وبين مسرحيته التي كتبها بين العامين 1929 و1930 يبدو لافتاً كما يبدو منطقياً التطابق في النظرة بين الكاتبين في زمن كان يحث على مثل ذلك التفكير. ففي تلك السنوات تماماً كانت ألمانيا وأوروبا عموما تنهاران تحت وطأة كارثة اقتصادية واجتماعية لا سابق لها في التاريخ، فيما كانت أميركا تتهاوى بحلمها العظيم تحت مطرقة انهيار 1929 في البورصة ما أدخلها ومعها مناطق كثيرة من العالم في كساد عظيم.
حلّ روزفلتي وكارثة هتلرية
طبعاً نعرف أنه سيكون ثمة حلان، واحد أميركي قاده الرئيس روزفلت عبر "الصفقة الجديدة" ما أنقذ أميركا بسرعة وأدخلها خلال سنوات قليلة من جديد إلى جادة "الحلم"؛ والثاني أوروبي كان على العكس تماماً، الممهد لتلك المجزرة التي تسبب فيها هتلر والنازيون الذين إذ وصلوا إلى السلطة في ألمانيا بفضل انهيارهم وبحثهم عن أي حلّ متّبعين خطى الإيطاليين الذين أوصلوا موسوليني وفاشييه إلى سدة الحكم في روما، اندفعوا في تلك المجزرة التي حملت اسم الحرب العالمية الثانية.
غير أن بريخت حين كتب مسرحيته "جان قديسة المسالخ" لم يكن في قلب ذلك التاريخ اللاحق بعد. كان لا يزال عند مستوى دقّ ناقوس الخطر والتنبيه إلى ما يمكن أن يسفر عنه "طغيان الرأسمال على المجتمع". ولم يكن أمامه ما يمكّنه أن يكون أفضل من النموذج الماثل في مسالخ شيكاغو خلفية لعرض أفكاره. تماماً كما أن نموذج البطلة الفرنسية القروسطية جان دارك كان نموذج الفعل الذي يداعب خياله، هو الذي كان يتطلع منذ زمن إلى أن يحذو حذو شيلّر وجورج برنارد شو وغيرهما من كبار أسلافه في الكتابة المسرحية، كي يجعلها شخصية محورية في عمل جديد له، وإن باستخدامها على النقيض من الاستخدامات الأخرى لها كما سوف نرى.
القديسة متأمركة تماماً
تحمل البطلة لدى بريخت اسم جان دارك كسابقتها الفرنسية لكن اسمها أميركي يُكتب JEANNE DARK حتى وإن كانت تريد أن تجعل من نفسها مناضلة كالفرنسية تدافع عن قضية عادلة. وهي هنا قضية الألوف من عمال مسالخ شيكاغو من الذين يُرمون في البطالة بسبب إفلاسات متتالية في الشركات العاملة في المسالخ، ناتجة من ضروب تنافس على البيع والأسعار. وفي بداية الأمر لأن جان عضوة نشطة في ما يسمى "جيش الخلاص" ستعتقد أن هذا الجيش الذي يُعرف شعبياً بـ"ذوي القبعات السود"، هو وسيلتها المثلى والمكان الأفضل لخوض النضال ضد الرأسماليين، لكن سرعان ما سوف يخيب أملها لا سيما حين تكتشف أن "جيش الخلاص" متواطئ في الحقيقة، ولو بشكل غير مباشر، مع الصناعيين. وتكون طامة جان دارك الكبرى حين تجد نفسها بدورها عاطلة من العمل بعد إقفال الفرع الذي كانت تعمل فيه. وبالتالي تروح المناضلة مجمّعة من حولها أشباهها من العمال لتخوض معهم التظاهرات والصراعات وكل أنواع الإضرابات العامة لينتهي الأمر إلى ... انتصار الصناعيين على العمال: الأُول يحققون ممارساتهم مبقين على مكاسبهم وحرية تحركهم فيما الآخرون يزدادون فقراً ولا توصلهم كل نضالاتهم إلى أية نتيجة.
لقد شخصن بريخت الصراع فجعل جان تواجه الصناعي الكبير مولر الذي لا يفتأ يحدثنا في فصول المسرحية عن "قلبه الكبير" و"تعاطفه مع العمال" إلى درجة أنه حين يسقط عدد منهم شهداء خلال الصراع معه، لا يتوانى عن إقامة تأبينات صاخبة لهم. فهو في نهاية الأمر لا يتحمل مشهد عجل يُذبح أمامه، لكنه يعتبر الكائنات البشرية مخلوقات عصية على الإصلاح. وفي المقابل يقدّم بريخت جان شخصية تحمل كل انفصامات الطبقة البورجوازية التي يعتبرها منتمية إليها أصلاً، فنجدها تخون وتموت حتى قبل أن تستفيد من أي درس يعلمها إياه التاريخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نساء بريخت الجديدات
مهما يكن، يقول لنا الباحث فردريك إوين في كتابه – من ترجمة كاتب هذه السطور – "برتولت بريخت، حياته، أعماله، عصره" إن جان هذه كما صوّرها بريخت إنما تفتتح سلسلة جديدة من "بطلات مسرحه" من اللواتي سوف نراهنّ في مسرحيات تالية له يثبتن حضورهنّ ولو بطريقة مبهمة: فلاسوفا في"الأم كوراج" والأم كارار (في مسرحية "بنادق الأم كارار") وتشن – تي ("دائرة الطباشير القوقازبة") وغروشا (في "الأم")، كلهنّ بطلات سيصبحن أكثر واقعية وإنسانية ومن النادر لأية منهنّ أن تنتصر في نهاية الأمر على الرغم من جدية نضالاتهنّ. وهنّ غالباً ما يكنّ متفوقات على الرجال حتى في هزائمهنّ، ويتوقفن عن أن يكنّ عدميات "لكي يلعبن دوراً فعالاً في هذا العالم الذي – تبعاً لبريخت – يمكنه أن يتغيّر بل ينبغي أن يتغير" ومن نافلة القول هنا إنهنّ سيلعبن دوراً في تغييره وأحياناً من خلال نهاياتهنّ المثيرة للغضب كما حال نهاية جان دارك هنا... ولعل ما يتعين علينا أن لا ننساه هنا هو أن بريخت كان لا يزال، عند كتابة هذه المسرحية، يوجه خطابه إلى البورجوازية نفسها من دون أن تخامره أية أوهام في أنه يكتب لغيرها من الطبقات، وبالتالي كان ما يهمه أن يضع أمامها مرآة ترى فيه حقيقة انفصاماتها.
وهنا قد يكون مفيداً ذكر أن مسرحية "جان قديسة المسالخ" حتى وإن كانت قد حققت نجاحات جيدة في عروضها الأولى لا سيما في المدن الأميركية، غابت عن الريبرتوار المسرحي العالمي فترة طويلة من الزمن من دون أن يدري أحد لماذا. لكنها عادت وعرضت بصخب كبير عام 1964 في فرانكفورت، في ألمانيا الغربية (الاتحادية) وليس الشرقية حيث عاش بريخت سنواته الأخيرة، ويومها لفت ناقد إحدى كبريات الصحف النظر إلى أن "هذه المسرحية لا تزال تحتفظ بكل مغزاها في زمننا هذا. صحيح أن سوق التبادل (الرأسمالية) لم تعد كما كانت عام 1929 أي حين كتابة بريخت المسرحية، لكنها لا تزال قائمة على حالها في العديد من الأماكن الأخرى إن لم نقل في كل مكان"، ما يُبقي لرسالة المسرحية أهميتها المطلقة "من دون أن ننسى أن الكلمات الأخيرة التي تتفوّه بها جان دارك وهي تُحتضر هي نفسها الكلمات التي توصينا بها الرسائل البابوية. أما الفرق فهو في المصطلحات ليس إلا".