Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جورجيو دو كيريكو سبر لغز العالم بريشته الميتافيزيقية

معرضه الباريسي الحالي يكشف مصادر فنه التشكيلية والفلسفية

لوحة من معرض دو كيريكو (الخدمة الأعلامية للمعرض)

"إلغاء المعنى في الفن لم يحصل على يدنا، نحن الفنانين. فلنكن منصفين، هذا الإنجاز يعود إلى الألماني نيتشه. وإن كان الفرنسي رامبو أوّل من استثمره في الشعر، فإن خادمكم هو الذي استثمره للمرة الأولى في فن الرسم". بهذه الجملة التي كتبها عام 1919، كشف الفنان الإيطالي جورجيو دو كيريكو (1888 ــ 1978) مصدر الفنّ الميتافيزيقي الذي ابتكره عام 1909 ومارسه حتى منتصف العشرينيات. فنٌّ صعق بفرادته وجانبه الملغز الشاعر أبولينر الذي كان أوّل من وصفه بـ "الميتافيزيقي" عام 1913، قبل أن يبلور الشاعر أندريه بروتون فكرته عن فن رسم ميتافيزيقي إثر مشاهدته صدفةً لوحة دو كيريكو "دماغ الطفل" (1914) في واجهة غاليري "بول غييوم" الباريسية عام 1922.

ولكشف ظروف هذه المغامرة التشكيلية المجيدة، ينظّم القيّمون على متحف "لورانجوري" الباريسي حالياً معرضاً مهماً لدو كيريكو هدفه إعادة خطّ مسيرته الفنية، من ميونخ إلى فيرّاري، مروراً بفلورانسا وباريس، وكشفِ التأثيرات الفنية والفلسفية التي تغذّى منها، والروابط التي نسجها مع حلقات فنية وأدبية معاصرة له. ولبلوغ هذا الهدف، تم اختيار 60 لوحة ومنحوتة ورسماً له تتوزّع على صالات ثلاث داخل المعرض ضمن مقابلة مثيرة مع لوحات لأرنولد بوكلين وماكس كلينجر وألكسندرأرشيبنكو الذين تأثّربهم، وأخرى لرفيقيه في الحركة الميتافيزيقية كارلو كارّا وجورجيو موراندي.

سؤال المرئي

وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن قيمة المرحلة الميتافيزيقية من مسيرة دو كيريكو تعود إلى طرحه خلالها سؤال المرئي كما لم يطرحه أحد قبله، واعتباره في هذا السياق أن روح العالم ولغزه، اللذين عبّرت الشعوب القديمة عنهما بواسطة الميثات، لا يكمنان في ما وراءٍ غير مرئي، بل في العالم الملموس والمادّي الذي سعى الفنان إلى كشف علاماته. وبفضل تأثّره العميق بفكر الفيلسوف نيتشه الذي قرأ كتبه بشغفٍ منذ 1908، وخصوصاً "هوذا الإنسان" و"هكذا تكلّم زرادشت"، طوّر انطلاقاً من مفهوم "الحاضر السرمدي" ــ أي تلك اللحظة المعلّقة بين سرمديتي الماضي والمستقبل ــ مقاربة تشكيلية خاصة تقع على هامش جماليات الطلائع الفنية المعاصرة له. مقاربة تدين أيضاً في خصوصياتها لما تعلّمه من رسامين آخرين أثناء إقامته في ميونخ وفلورنسا وتورينو وميلانو وطبعاً باريس. هكذا تمكّن دو كيريكو من ابتكار فنّ جديد كلياً ومبني لا على ظاهر الأشياء، بل على الدلالات الكامنة فيها وتداعيات الأفكار التي تثيرها. فنٌّ يجمع بين راديكالية رامبو الشعرية وثورة نيتشه التأمّلية.

الصالة الأولى من المعرض تحطّ بنا أولاً في ميونخ حيث أقام الفنان بين عامَي 1906 و1909 بدافع الدراسة وافتُتِن بعمل بوكلين وكلينجر. ولا عجب في هذا الافتتان، فلوحات هذين الرسامين المستوحاة من الأساطير الإغريقية يختلط داخلها الخارق باليومي، إلى جانب استحضارها إلى ذهنه عالم طفولته التي أمضاها في منطقة تيسالي اليونانية، منطلق رحلة الـ "أرغونوت" بحثاً عن "الصوف الذهبي"، ومهد قصص القناطير (centaures) والحوريّات (nymphes) والكائنات العملاقة التي كانت تسكن طبيعتها. هكذا اتّخذ رسم دو كيريكو بعداً سير- ذاتياً، بينما تماثل هو بأبطال رحلة الـ "أرغونوت"، وفي مقدّمهم ياسون، أو بعوليس الرحّالة الذي يشكّل استعارة حيّة للمعرفة. وإذ نستشفّ منذ تلك الفترة مناخاً ذهنياً ــ حلمياً في أعماله، يجب انتظار استقراره في فلورانسا خلال صيف 1909 كي يختبر تجلّياته الأولى، وهي عبارة عن رؤى للوحات أسقطها أولاً داخل رسوم إعدادية، قبل أن ينجز انطلاقاً منها لوحتين تُعتبران باكورة إنتاجه الميتافيزيقي: "لغز وسيطة الوحي" (1909) و"لغز بعد ظهرٍ خريفي" (1910). عملان تحضر في فضائيهما أبنية ذات هندسةرومانية قديمة ووجوه رمزية قليلة ضمن تضارب بين النور والظلال؛ ويوحيان للمتأمّل فيهما مشاعر ملتبسة، كالعزلة أو الحنين إلى الماضي أو الرغبة.

جدلية نيتشه

في الصالة الثانية، ننتقل إلى باريس التي حضر دو كيريكو إليها عام 1911 لعرض لوحاته الميتافيزيقية الأولى في "صالون الخريف"، قبل أن ينطلق في رسم سلسلة لوحات جديدة مستوحاة من مدينة تورينو التي أمضى فيها ثلاثة أيام قبل وصوله إلى باريس. تورينو، مدينة القناطر التي كتب نيتشه فيها أهم كتبه، واختار الفنان ساحاتها وابنيتها كديكور لتماثيل "أريان" التي رسمها ممدَّدةً في هذه الأعمال، أو للوجوه الذكورية والقطارات التي تعبرها وتستحضر صورة والده المهندس الميكانيكي، وفي الوقت نفسه، تشكّل استعارة للجدلية الـ "نيتشوية" مؤنث/مذكّر، ديّوس/أبولون. وحول هذه اللوحات، كتب الشاعر أبولينير عام 1913: "فنّ هذا الرسام الشاب فنٌّ داخلي، ذهني، لا علاقة له بفنّ الرسامين الذين ظهروا في السنوات الأخيرة. (...) هذه الأصالة جديدة بما يكفي كي تستحق أن نتوقف عندها. أحاسيس دو كيريكو الحادّة جداً والحديثة جداً تأخذ شكلَ هندسةٍ. هكذا نفهم محطات القطار المزيّنة بساعة في لوحاته، الأبراج، التماثيل، الساحات الكبيرة المهجورة، والقطارات التي تعبر أفقها".

وبفضل أبولينير، إنغمس دو كيريكو بسرعة داخل الحياة الفنية الباريسية واكتشف أسلوب سيزان وتشكيلات ماتيس الفضائية المستوحاة من إقامته في المغرب، ولوحات بيكاسو التكعيبية الأولى، فاستقى من جميع هذه المراجع عناصر لبلورة أسلوبه الخاص، قبل أن يحقق سلسلة لوحات مستوحاة من "إشراقات" رامبو، هي عبارة عن تشكيلات من أشياء غير متجانسة ــ خراشيف، فواكه، مدافع... ــ استخدم عبارة "عزلة العلامات" لوصفها، ويتحكّم بها، كما في قصائد رامبو، نظام تداعيات بصرية مدهشة في غرابتها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن تواطؤ دو كيريكو مع أبولينير قام على رؤية مشتركة لشعرية توحِّد الحداثة مع العصور الغابرة. وهذه الشعرية لم تفت أندريه بروتون الذي رأى مطلع العشرينيات في الفنان مبتكِر "ميثولوجيا حديثة" في حالة تشكُّل، وارتكز على أعماله لتحديد أُسس الفنّ السوريالي. أعمال لا يلبث البعد الرؤيوي ــ الحُلُمي فيها ومناخها المقلِق أن يلقيا صدى فورياً داخل لوحات رسامي الجيل السورّيالي الأول، وفي مقدّمهم ماكس إرنست ورنيه ماغريت وفرانسيس بيكابيا.

أما في الصالة الثالثة التي تنقلنا إلى مدينة فرّاري حيث أقام دو كيريكو أثناء الحرب العالمية الأولى، فنرى كيف شهد فنه الميتافيزيقي تغيّراً جذرياً لأسباب عملية ولتجديده مصادر وحيه. وفعلاً، نظراً إلى فقدانه محترفه واضطراره إلى الرسم في الليل، خلال الساعات القليلة التي كان يتحرر فيها من واجباته العسكرية، أنجز لوحات صغيرة ركّز نظره فيها على الواقع اليومي البائس بغية تحليل الجنون الذي اجتاح العالم. وفي هذا السياق، يعكس تمثيله فضاءات داخلية مغلقة حاجته إلى مكان تأمّلٍ آمِن لا يلبث أن يبتكر فيه حوارات صمّاء وعبثية بين أشياء تحضر بدقّة واقعية كبيرة: خرائط جغرافية، أدوات هندسية مختلفة، حلويات خاصة بمدينة فيراري، أوسمة عسكرية، طاولات بأرجل على شكل أطراف بشرية، من دون أن ننسى ماثلات الخياطة (mannequins) التي ترمز إلى فقدان البشرية إنسانيتها.

وفي ربيع 1917، وإثر إقامته في المستشفى العسكري للمدينة بعد انهيار عصبي، تدخل عناصر جديدة على لوحاته، مثل كرسي العلاج بالصدمات الكهربائية، أطراف بشرية اصطناعية، أدوات طبية مختلفة، ضمن عمليات إخراج مرعبة تعكس نظرة باردة وشبه عيادية إلى زمنه، وتشكّل تلميحات واضحة ومعبِّرة إلى عبثية الحرب ومآسيها.

المزيد من ثقافة