Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أحمد الملواني يقوم برحلة خطرة في الواقع السحري

"ما يشبه القتل" رواية البحث عن الشجرة ذات الأصل الإنساني التي تُثمر الحكمة

في رواية الملواني تنمو الحكمة في موضع الجريمة بعد تحول الإنسان إلى شجرة (غيتي)

في نسق روائي فريد، مارس الكاتب المصري أحمد الملواني في روايته "ما يشبه القتل" (الدار المصرية اللبنانية- القاهرة- 2020)، تجريباً سردياً، مزج فيه الواقع بالفانتازيا والأسطورة، فجاءت تجلياً من تجليات الواقعية السحرية التي ينتقل خلالها الكاتب من المألوف إلى اللامألوف بانسيابية شديدة ليتماهى الواقع والخيال ويحصل كلاهما على الدرجة ذاتها من التصديق.

استهل الكاتب أحداث بنائه الروائي بقتل نفس، تلك الخطئية الأزلية، وأول آثام الإنسان على الأرض. يقتل الابن أباه فتتضح المفارقة السردية التي ساقها الكاتب لتبدأ الحياة في النص كما بدأت على الأرض، وبالنهج ذاته يتتبع الجريمة داخل النسيج بندم القاتل وسعيه للتحرر من تبعاتها والتكفير عنها. وهنا يستدعي الملواني "الميثولوجيا" ويبدأ التداخل بين الواقعي والعجائبي أو الفانتاستيكي فتنمو الحكمة في موضع الجريمة بعد تحول الإنسان إلى شجرة، تلك الشجرة التي ظلت طيلة السرد غاية الشخوص ومرادهم من الرحلة.

غموض ومخاطرة

يتخلى الراوي بعد فترة قصيرة من السرد عن دور العليم بالأحداث ويترك العنان لأصوات الشخوص تواصل الرحلة المحفوفة بالشك والأسئلة والغموض والمخاطرة، فالعجوز والولد والبنت والفتى، جميعهم يعانون نوعاً من اغتراب الذات والريبة تجاه النفس والعالم، منهم مَن يدرك شكوكه ويسعى للحصول على الأجوبة ومنهم مَن يستسلم لعبثية الواقع من دون أن يحرك ساكناً، لكن القدر يجمع أربعتهم في الرحلة العجائبية ذاتها للبحث عن الشجرة ذات الأصل الإنساني التي باتت تُثمر الحكمة.

وعلى رغم اختيار الكاتب أسماء شخوصه الأربعة (بدر الوكيل، حمزة، علي وياسمين) إلا أنه استهل أصواتهم بـ"العجوز يحكي، الولد يحكي، الفتى يحكي، البنت تحكي"، في إشارة إلى أعمارهم واختلاف تجاربهم ورؤية كل منهم لنفسه والعالم، ليمرر عبر ذلك حالة الشك المستمرة وانعدام الثقة بين جيلي الماضي والحاضر، ويمرر أيضاً الكثير من ملامح القبح التي تلون وجه الواقع المعيش.

مشاركة الهزيمة والرحلة

تتشارك الشخوص شعور الهزيمة، فبدر الوكيل "العجوز" المناضل الذي باع نفسه للنظام وحصل على ثمنٍ من الرفاهية والحياة الرغدة، يهزمه صديق من رجال النظام ليجده متلبساً بالخيانة في فراشه، وبعد تلقيه الصفعة، يحاول الانقلاب على من باع لهم نفسه والعودة إلى ذاته القديمة لكنه لا يدرى إذا ما كان عاد إليها أم إنه ضلّ الطريق، وتكون شكوكه الدافع الذي يؤجج رغبته في البحث عن الشجرة الغرائبية التي تحمل وحدها التفسيرات الشافية.

الهزيمة نفسها تجرَّعها الفتى "حمزة" حين قهرته مخاوفه فكتم حقيقة اختلافه، وأسرّ قدراته، ما جعله يتظاهر بالتشوه والعرج أمام الآخرين وهو يدرك أن العرج في عقولهم القاصرة. ضاقت عليه نفسه فأغرته بالبحث عن الرحابة وكانت الرحلة طوقه للنجاة.

أما الولد "علي"، فقد تجرع الهزيمة على يد أبيه الشرطي الذي أجاد أداء عمله في تعذيب المسجونين ولشدة إجادته بات يصطحب عمله إلى منزله لتكون الأم والابن ضحيتي هذا الإتقان، فتدفع الأم حياتها ويرث الابن من الخوف ما يكفي ليعيش بنفسٍ هشة اعتادت مذاق الانكسار. الهزيمة الأبوية ذاتها تجرعتها البنت "ياسمين" ولكن بصورة أخرى حين ابتلعتها هوة الاحتياج في بيت جعلته المصالح شديد البرودة، لا يطأ الحب أركانه، لكنه نما بطريقة ما داخلها من دون أن تدري، واشتد عوده بينما كانت تنكره على نفسها، فهي تحب الفتى "علي" وتحب الطفلين المفقودين بالقدر الذي دفعها للمشاركة في الرحلة.

ساق الكاتب عبر تطور الأحداث مفارقة سردية أخرى، فإن كان الابن في مستهلها قتل أباه، ففي مرحلة أخرى من السرد يأتي الآباء بالفعل ذاته فيغتالون حيوات أبنائهم في ما يشبه القتل. فالذنب نفسه والجريمة نفسها، يتشابهان ولا يتشابهان، والكاتب دائماً يخفف من وطأة الفعل بالدوافع والأسباب والنتائج -ربما- ليمرر قناعته بوجوب وحتمية الغفران.

حضور مغاير للمعرفة

سلك الكاتب طريقاً مغايراً في استدعاء المعرفة داخل النص فلم يخبر بشكل مباشر عن شجرة دم التنين "دم الأخوين" في الأساطير القديمة والتى ارتوت بالدم بعد أول جريمة قتل على الأرض، ولم يقص حكاية "ثيما" في الأسطورة الهندية، وهي المرأة التي حزنت على زوجها بعد أن قتله الجُذام فضربت بنفسها في الأرض وتحولت من أصلها الإنساني إلى شجرة، بل أنبت الملواني شجرته وصنع أسطورته الخاصة التي بناها على أساس متين من المعرفة الغزيرة. كذلك لم يتحدث عن سيغموند فرويد ولا عن نظريته في التحليل النفسي التي تفسر الرغبات العدوانية والميول الوحشية للنفس البشرية، وإنما حذا حذوه واستدعى داخل السرد ذات التوليفة "الفرويدية" التي ضمت في طياتها الأسطورة والرمز والواقع. فبينما اعتبر فرويد أن الجريمة هي منشأ الحضارة مدللًا بقتل الابن أباه في "الطوطمية" وفي أسطورة أوديب، كان قتل الأب أيضاً في "ما يشبه القتل" بداية الحكمة وسر وجودها، وما كانت الحضارة عند فرويد ولا الحكمة عند الملواني إلا نتاجاً لنهاية مأساوية مقرونة بالندم، ومحاولة للتكفيرعن الإثم.

ثنائيات الصراع

تعددت أشكال الصراع داخل النص، ليبرز الكاتب من خلاله بعض مظاهر العطب في واقع لا يعرف ثقافة الاختلاف أو قبول الآخر، فيشب تارة بين من هم داخل السلطة ومن هم خارجها وتارة بين جيل الكهولة وجيل الشباب وثالثة بين طبقة اجتماعية وأخرى، يتوج هذا الصراع حالة من التلصص والمراقبة، تزيد من واقعية الأحداث وتبث هماً من هموم الكاتب، كان ممسوساً به طوال رحلة السرد.

نوع آخر من الصراع الداخلي أبرزه الكاتب عبر تعرية دواخل النفس البشرية والكشف عن تناقضاتها التي تتأرجح بين الحب والكراهية، الخير والشر، التمرد والخنوع والقبح والجمال. كذلك اعتنى ببعض تقنيات السرد كالمونولوغ الداخلي الذي خدم غايته في التسلل إلى داخل النفس والكشف عن أسرارها.

إستخدم الكاتب الرمز بكثافة داخل البناء الروائي، ما أتاح له أن ينفذ إلى مساحات أبعد وأكثر عمقاً من النفس الإنسانية، ومن واقع شديد التعقيد أيضاً، وتمكن عبر صوره الرمزية من إنتاج طاقة إيحائية شديدة الدلالة استكشف عبرها العديد من المناطق المظلمة والمخبوءة والمسكوت عنها. كما لجأ إلى الحلم كحيلة سردية ناجعة في العبور إلى اللاوعي وسبر أغوار الشخوص واستجلاء غموضها، وقد أضفت الصور الرمزية ومساحات الفانتازيا صبغة تشويقية على النص زادت من جماليته وأضافت مزيداً من القوة للبناء الروائي.

لغة خاصة

استخدم الكاتب، لغة خاصة لا تشبه إلا نفسها، فهي في مجملها عميقة المعنى، شديدة الشاعرية، كثيفة الصور، وفي الوقت نفسه، لا تعطل الحكي وإنما تنساب داخل النسيج في سلاسة متناهية على رغم حرص الكاتب على استمرار استخدام الفصحى حتى في مواضع الحوار... "أسلم أفكاره وأحلامه وحتى روحه، لإلحاح أمه المثقلة بغضب صامت يصم عقلها في النهارات، ويحجب ملائكة النوم عنها في المساءات، وزوجته الخائفة من مستقبل يبدو مرسوماً بتهديدات سوداء، قد يذهب عنها قدراً من النعيم الذي طالته- وهي ابنة الأجير على باب الله- في بيت زوج ما كانت تحلم بمثله، الأب قرر الزواج بصبية تصغر ابنه، الأم تصب اللعنات وتتهمه بالخرف، سيخلق لها في حكايات الناس ضُرَّة ويجعلها في أمثالهم: القديمة" (ص7).  

ولم يحدد الكاتب فضاءً زمنياً بعينه، ولم يحدد أسماءً للأماكن التي شهدت تسلسل الأحداث وإنما ترك أحداثه وما طرحه عبرها من قضايا تخبر عن فضاءات السرد إخباراً ضمنياً يشي بامتداد الزمان والمكان ويتسق مع حضور الفانتازيا داخل البناء، كما اختار نهاية لها ذات الروح العجائبية وشت بفلسفته وشكوكه في فكرة جريان الزمن، فإن كان قتل الأب بداية الأحداث ففي نهايتها بداية أخرى وأشجار أخرى، ليستمر القتل ويستمر الغرس وتستمر الحكمة.

المزيد من ثقافة