تسلط راوية "فاكهة للغربان" (دار المتوسط) للكاتب اليمني أحمد زين الضوء على الأحداث التي دارت في جنوب اليمن وعاصمته عدن ما بين 1968 إلى 1986، أي ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الإنجليزي، وقوفاً علي شفا اشتعال الحرب الأهلية هناك.
إنها رواية البحث عن الهوية بعد الانعتاق من ربقة احتلال دام نحو 150 عاماً. وبعد هذا الخلاص كان سكان هذا الجزء من اليمن يبحثون عن الهوية التي تجمعهم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً داخل أيديولوجيا موحدة، إلا أن الصراع ما بين "الجبهة القومية" و"جبهة التحرير" وجبهات أخرى قضى على تلك التجربة في مهدها.
تدور أحداث الرواية حول "صلاح" الموظف في الحزب الشيوعي الذي تطلب منه "نورا" زوجة رئيسة السابق "جياب" الذي اختفى فجأة، أن يكتب لها مذكراتها. ومن خلال الجلسات التي تجمعهما تتكشف لصلاح حقائق تزلزل نقاء عقيدته الاشتراكية.
صور متشظية
ومن خلال شخصية"صلاح" وأصدقائه تتكشف لنا صورة مدينة عدن وكيف آلت إلى ما آلت إليه في ثمانينات القرن الماضي، عبر حكي سارد قادر على قراءة أفكار شخوص الرواية والانتقال من مشهد إلى آخر بشكل مفاجئ لا يسمح للقارئ بأن ينفصل عنه، وإلا سيجد نفسه غير قادر على متابعة أحداث النص المتداخلة في بنائها. وقد يكون المؤلف عبَّر عن فلسفته في بناء حبكة هذه الرواية على لسان إحدى شخصياته قائلاً: "تبدو له في إصرارها على عدم حكي حكايتها دفعة واحدة، إنما تواصل إسماعها له في ما يشبه الشظايا، تنسى أن تقدم ما ينبغي عليها تأخيره، وتأخير ما يجدر بها وضعه في المقدمة، مثل شخص ينهمك في ممارسة لعبة ذهنية، قوامها تركيب قطع تظهر متنافرة في البدء وأن لا سبيل معها للوصول إلى غاية، إلا أنه مع اللعب تتكشف تدريجياً ملامحها، لتعبر عن وجه مثلاً أو مشهد طبيعي وربما صورة مريعة". فهذا هو التكنيك السردي نفسه الذي اختاره أحمد زين في كتابة هذه الرواية. صور متشظية تنتقل من مشهد إلى آخر من دون رابط، ولا يمكن فهم المراد أو الصورة الكلية لما تريد كشفه وقوله إلا مع نهاية الرواية التي توحي أنها بداية ربما لجزء ثان من تاريخ هذه المدينة اليمنية الجنوبية، التي هيمنت على روايته السابقة "ستيمر بوينت".
تتداخل في رواية "فاكهة للغربان" العديد من المفاهيم الجديرة بالدرس حيث الصراع ما بين الأيديولوجبا واليوتوبييا، ما بين الهوية، والاغتراب، الأسطورة والخرافة. فالأيديولوجيا في هذا النص بارزة في فضاء مدينة تحولت إلى عاصمة لشيوعيين من مختلف أقطار العالم، بعدما حلت الماركسية محل العقيدة الدينية. إنها تدور في حقبة الحرب الباردة ما بين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق واشتداد الصراع بينهما لفرض رؤية محددة على العالم بغية السيطرة عليه.
فإذا كانت حرب فيتنام أشهر تجليات ذلك الصراع، فإن أحمد زين يكشف عن جانب آخر لها في عدن، فالقيادي البارز في الحزب الاشتراكي اليمني زوج "نورا" ورئيس "صلاح" السابق في العمل يطلق على نفسه اسم "جياب"، وهو اسم عسكري فيتنامي كان له دور مهم في هزيمة الغرب الإمبريالي مع هوشي منه.
وهذه الأيديولوجيا الشيوعية تدخل في صراعات عدة، أولها مع الدين، فيظهر "بقطاش" الشيوعي الجزائري ابن مدينة وهران الذي وجد في عدن الوطن. يتذكر كيف رفض أن يقرأ على أبيه سورة "يوسف" التي كان يرغب في سماعها؛ "لم تقدر أن تكون في وقت واحد شيوعياً وممسكا بالقرآن". و"صلاح" القادم من الريف ليناضل ضد الاحتلال الإنجليزي وضد تقسيم صارم يفصل ما بين عدن وريفها. فبعد اشتراكه في الثورة على الإنكليز يتفاخر بتوقفه عن الصلاة وكان ذلك سبباً كافيا لطلاقه من زوجته وحدوث ما يشبه القطيعة مع والدته.
صراع أيديولوجي
هذه الأيديولوجيا دخلت أيضاً في صراع مع الأعيان الذين كانوا موجودين إبان الاحتلال الإنجليزي وتم تأميم ما يملكون من أراض وأموال وعقارات وتوزيعه على الفلاحين. ويتجسد هذا الصراع بشكل مباشر في اللقاء الذي يجمع "صلاح" ابن الحزب الشيوعي، ووالد "نورا" الأرستقراطي الذي سلبت الثورة أملاكه التي جمعها من خلال تجارته، فما أن يقابله يسأله: "هل ما زلتم تعيشون مع أغنامكم في الشقق التي نهبتموها مِنا؟". مضايقات شتى لحقت بهؤلاء الأعيان شبيهة بما حدث مثلاً في مصر بعد حركة يوليو 1952، فإذا كانوا في مصر أصدروا قرار الإصلاح الزراعي، ففي اليمن الجنوبية ساد قانون الأرض لمن يفلحها.
وعملت الأيديولوجيا الشيوعية على التبشير بعصر الرفاهية عبر منابر عدة، أهمها ما يعرف بالمسرح الطليعي. فقد كان "عباس" الشيوعي العراقي الذي وجد الملاذ في عدن مع العديد من الشيوعيين من مختلف الأقطار العربية، يحلم بأن يكون كاتب مسرح، لكنه وجد نفسه حاملاً للسلاح. كما أن التبشير بالماركسية كان يأتي عبر الأغاني والندوات التثقيفية والكتب الميسَّرة التي تتناول أهداف الحزب الاشتراكي... كلها في النهاية تهدف إلى تزييف الوعي الجمعي كأي أيديولوجيا تبرر سياسات الجماعات الحاكمة.
أما عن اليوتوبيا بوصفها تقديم شكل بديل للسلطة الحاكمة، فقد كان يملكها الثوار حتى نجاحهم في طرد المستعمر ومن ثم تحولوا إلى أيديولوجيا حاكمة لا همَّ لها سوى الارتماء في حضن الاتحاد السوفياتي، وإلقاء الشعارات الرنانة على الشعب، والتناحر في ما بينهم، وحياة المؤامرات وتلفيق التهم بعضهم لبعض، وقمعهم لأي أفكار تخالف رؤيتهم المشتتة أصلاً، رغم أنهم جميعاً ينتمون إلى شيوعية واحدة، لكن يبدو أن الشيطان كان يسكن في تطبيق هذه الأيديولوجيا كما يسكن في التفاصيل.
سؤال الهوية
ومن الثيمات الرئيسة التي تنشغل بها رواية "فاكهة للغربان" هو سؤال الهوية أو بعبارة أخرى البكاء على الهوية المتشظية التي تعاني منها المدينة المنقسمة على نفسها. ويبدو ذلك من عنوان الرواية الذي يطرح أسئلة حول المقصود بتلك الفاكهة التي تأكلها الغربان: هل هي عدن التي كثر فيها الشيوعيون من كل حدب وصوب؟ أم السلطة التي يتقاتل عليها الاشتراكيون؟ أم هي الشيوعية نفسها؟ أم هو شعب اليمن؟.... فالغربان تحضر في الرواية في أكثر من 20 مشهداً أغلبها ذو دلالة سلبية يتوافق مع الخرافات الشعبية العربية التي تتطيَّر من "الغربان". هذه الغربان جلبها الاستعمار معه من أجل الانقضاض على الزواحف التي تكثر في عدن. وارتباط الغربان بالهوية يعيد إلى الأذهان ما فعله المخرج المصري شادي عبدالسلام في فيلمه "المومياء"، فقد ربط فيه ما بين تلك العائلة التي تبيع "مومياوات" أجدادهم كما تفعل الغربان التي تأكل الجيف.
والهوية في رواية أحمد زين تعاني من التشظي، فالشخصية الرئيسة فيها؛ "صلاح" يشعر بأنه منقسم ما بين ذلك الشخص الريفي الذي بدأ يفقده، وما بين ما هو عليه الآن في المدينة، بخاصة بعدما زلزلت "نورا" ما يعتقده وكشفت له ما كان مستوراً عنه.
و"نورا" التي عاشت حياتين؛ الأولى كابنة أرستقراطية تربَّت بين الإنكليز، وبعد الثورة كراقصة في الفرقة الشعبية اليمنية وزوجة لقيادي مهم من قادة الثورة. وهناك "نضال"؛ الفلسطيني الذي شاهد مجازر شتى في فلسطين ولبنان وكل بلد زاره، حتى تحولت شخصيته من الوداعة إلى أن يصبح قاتلاً محترفاً فظَّ الطباع على غير ما هو معهود منه. و"سناء" الفلسطينية أيضاً التي قُتل أهلها في إحدى تلك المجازر.
ويمتد هذا التشظي من الأفراد إلى البلاد: الجزائر، اليمن، العراق، لبنان، فلسطين، الأردن، حيث يسود التناحر في ظل صراعات لا تنتهي، لكنها تكشف جحم الأزمة التي يعيشها العرب بعد خلاصهم مِن الإستعمار. فهم لم يجدوا الإيديولوجيا التي تجمعهم سياسياً رغم اتفاق هويتهم عبر سمات عدة أبرزها اللغة، وهي الأزمة التي أحسن أمين معلوف وصفها في كتابه "اختلال العالم".
مدينة كوزموبوليتية
وتحضر في هذه الرواية الأحلام كوسيلة للكشف عن الاغتراب الذي يعانيه العرب سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، بوصف أن الاغتراب هو نقيض الهوية. فالهوية هي شعور المرء بالانتماء، فيما الاغتراب يتجسد في عدم قدرة الشخص على الشعور بأنه ينتمي إلى المكان الذي يوجد فيه. لذا تجعل هذه الرواية من عدن عاصمة للاغتراب. فحتى "صلاح" يشعر أن مَن يحكمون مدينته غرباء عنها، ومن ثم يتوق إلى العودة إلى قريته كي يستعيد ذاته التي سلبت منه. فعدن أصبحت مدينة في تلك الحقبة كوزموبوليتية تحوي أجناساً من خلفيات عرقية وثقافية مختلفة، خصوصاً مِن روسيا ودول شرق أوروبا، لا يجمع بينهم رابط سوى الشيوعية. هؤلاء، وخصوصاً العرب منهم، الذين توليهم الرواية عناية خاصة، حين اشتعلت الحرب الأهلية فروا من عدن بحثاً عن مأوى جديد. كما تشير الرواية بشكل مكثف إلى ما يعانيه الفلسطيني في الشتات، فجدة "سناء" مثلاً ما زالت تحمل مفتاح بيتها القديم وتعاني من وساوس أن هذا المفتاح قد ضاع فتظل تبحث عنه. تقول سناء: "في كل بلد أقمنا فيها يعمدون إلى تذكيرنا بأننا غرباء. أن سورية للسوريين ولبنان للبنانين والأردن للأردنيين، كأننا لا نعرف ذلك. كأنما هذه المعرفة لا تشعل النيران في أجسادنا ليل نهار".
ختاماً يجدر القول أن أحمد زين رغم لغته التي تقلل كثرة الوصف من سرعة إيقاعها، نجح في أن ينقل صورة مأساوية لما دار في عدن، وكشف قسوة الشيوعيين الذين حكموها وصراعهم المرير في ما بينهم الذي ولَّد العديد من المآسي، منها على سبيل المثال تعديهم على "نورا" انتقاماً من زوجها الذي قاموا بتصفيته، ومنعهم لها من السفر وتركهم لقدمها تتعفن في معادل موضوعي لقماءة مَن حكموا عدن في هذه الفترة وأوصلوها إلى الحرب الأهلية.