من المسلمات في العلاقات الدولية عندما يواجه البلد أزمة دولية أن يضع الخبراء الإستراتيجيون عدداً من الحلول والطرائق البديلة يسمونها: خطة أ، ب، ج إلخ. وذلك حفاظاً على مصالحه وعلاقاته مع الأطراف المعنية بالأزمة.
كما أن الأطراف يكونون مستعدين لبعض التنازلات على طاولة المفاوضات ويقومون بصفقات تكون مربحة للطرفين (اربح- اربح).
وأما بالنسبة لبلدي تركيا، فإنها بدأت تتبع "إستراتيجية" يُرثى لها. ففي الشأن السوري سعى الرئيس رجب طيب أردوغان أولاً إلى تحقيق حلم "الإطاحة ببشار الأسد". وعندما فشل في ذلك، تحالف مع الولايات المتحدة، وتعاقد مع الأكراد في وجه روسيا. وعندما لم تجرِ الأمور على ما يرام في هذا التحالف، سعى لمواجهة روسيا والولايات المتحدة والأكراد. وفي النهاية أثارت هذه العملية غضب موسكو وواشنطن.
ونتيجة لذلك قامت الحكومة الأميركية بتنحية تركيا من برنامج إنتاج الطائرات المقاتلة F-35 الأكثر تقدماً في العالم. وفي وقت لاحق، أعلنت شركة "Lockheed Martin" أنها ستقوم باستبعاد تركيا عن إنتاج قطع الغيار أيضاً.
من ناحية أخرى، وبعد إسقاط المقاتلات الروسية من طرف القوات التركية وجد أردوغان نفسه مضطراً لتهدئة غضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فاشترى نظام الدفاع الجو S-400 مقابل نحو 3 مليارات دولار، مع العلم أن تركيا لن تتمكن من استخدامها بحال من الأحوال.
وفي بداية الأزمة في بحر إيجه، حاول أردوغان تصعيد الأزمة مع اليونان من خلال الاعتماد على روسيا، قائلاً: "أيها الناتو! أيها الاتحاد الأوروبي! أيها اليونان...!". في نبرة كان يخيل لأنصاره أنه سيغزو اليونان وأوروبا.
ولم يمض أسبوع واحد فقط، حتى زعمت صحيفة "دي فيلت" الألمانية أن الرئيس أردوغان أمر بإغراق سفينة عسكرية يونانية أو- على الأقل- بإسقاط طائرة عسكرية يونانية في شرقي البحر المتوسط، وأن الجنرالات في القوات المسلحة التركية هم الذين رفضوا هذا الاقتراح من أردوغان.
ويبدو أن جنرالات مُهيمنين في القوات المسلحة التركية هم الذين تعمدوا تسريب هذه المعلومات الاستخباراتية، وذلك للحيلولة دون مطلب أردوغان وعرقلةِ ما كانت روسيا ترغب فيه من نشوب مواجهة ساخنة بين تركيا واليونان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعقب هذه التطورات مباشرة صرح الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ بأن اليونان وتركيا مستعدتان للتفاوض من أجل حل القضايا المتعلقة بمخزونات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط. وتابع ستولتنبرغ في تصريحه قائلاً إن "كلا البلدين متفقان على إنشاء آليات لمنع نزاع عسكري من شأنها أن تقلل من احتمال وقوعِ تطورات أو حوادث غير مرغوبة في شرق البحر المتوسط".
وستبدأ هذه المفاوضات في أدني المستويات وعلى الصعيد التقني داخل الناتو وبالطبع لن يكون الأمر سهلاً. وهكذا خيب أردوغان- هذه المرة- آمال بوتين بعد ما خيل بتصريحاته لجماهيره قبل أسبوع أنه سيغزو أوروبا.
من ناحية أخرى، رفعت الولايات المتحدة جزئياً حظر توريد الأسلحة الذي فرضته على قبرص اليونانية منذ 33 سنة. وقد أبلغ هذا القرار شخصياً من قبَل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أثناء اتصاله بزعيم قبرص اليونانية نيكوس أناستاسيادس.
وهذا القرار الأميركي الذي اتخذ في الفترة التي تشهد العلاقات بين أنقرة وأثينا توتراً بالغاً في شرق البحر المتوسط وبحر إيجه، أغضب بالتأكيد حكومةَ حزب العدالة والتنمية.
وكما هو الحال في الشأن السوري، أصبحت حكومة أنقرة تواجه أزمة مع الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، ولم تستطع أن تحقق أي مكسب في نهاية المطاف. ففي حين قامت واشنطن برد فعل من خلال رفع جزئي لحظر الأسلحة المفروض على جنوبي قبرص. التزمت موسكو الصمت ولكنها لا تزال بالمرصاد.
من الآن فصاعداً، فإنه يتوجب على الرئيس أردوغان أن يقوم باتخاذ ثلاث خطوات بشكل عاجل.
أولاً: أن يمضي قدماً في المفاوضات مع الأطراف المعنية، وهو ما كان عليه أن يفعله منذ البداية.
ثانياً: أن يقوم بتهدئة مؤيديه وعلى رأسهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ثالثاً: أن يقوم بتهدئة جمهوره. وعلينا أن ننتظر لنرى ما سيخرجه المهرج من قبعته، وبما أنه ليس لديه آيا صوفيا أخرى، فعليه أن يفتعل قضية أخرى تمتص توتر الجماهير،
ولا أستبعد أن يزف إلى الشعب "بشرى جديدة" بأن يقول "سنبني أو سنشتري حاملة طائرات كبيرة" أو أننا سنسمع أخباراً "جيدة" من هذا القبيل.
وبالنسبة لتهدئة بوتين، فقد كانت تركيا وعدت روسيا بأنها ستشتري منها في عام 2020 ما يقابل نحو 3 مليارات دولار، ولكنها لم تستورد منها حتى الآن هذا المقدار، ولكنها ملزمة بأن تدفع لروسيا هذا المبلغ حتى وإن لم تستورد منها الغاز.
ولا ننسى أن تركيا ستدفع لروسيا إضافة إلى ذلك أجرة الدفعة الثانية لصواريخ S-400 التي لن نستخدمها بتاتاً. علما أنه ستجرى تغييرات في الأسعار وستدفع أنقرة فواتير باهظة.
نعم، كما ذكرتُ سابقاً في أحد مقالاتي "يحاول الرئيس أردوغان أن يغازل بوتين وترمب في نفس الوقت، ولكن الشعب التركي هو الذي سيدفع ثمن هذه الازدواجية الحمقاء" ولسوء الحظ تحقق ما كنا نتوجس منه، وبدأنا نشاهد انعكاساتها مرة أخرى في قضية شرق البحر المتوسط وبحر إيجه، حتى وقع البلد بين مطرقة بوتين وسندان ترمب.
وبدت تركيا تلعب دور الطرف المشاغب وصاحب ردود الفعل الطائشة، بدلاً من دور المبادر الاستباقي والوسيط المحترم، وتدفع ثمن الابتعاد من الدبلوماسية الرزينة العقلانية والقوةِ الناعمة، لتنتهج أسلوباً قتالياً وتفضل القوة العسكرية القاسية.
وستظل تركيا تفقد ثقلها في الوسط الدولي إذا اعتمدت على قدراتها العسكرية فقط، ولم تستخدم موقعها الإستراتيجي، ووضعها الجيوسياسي وقوتها الناعمة.