Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الوقائع السرية الكاملة للصراع الذي أفضى إلى دعوة قيادة الجيش إلى تنحي بوتفليقة

رئيس الأركان وجد نفسه بين نارين: تعنت "الشلة الرئاسية" وتمسكها بالبقاء في الحكم بأي ثمن من جهة وتزايد نقمة كبار ضباط الجيش تحت ضغط الشارع من جهة أخرى.

قبيل منتصف نهار الثلثاء 26 مارس (آذار) الحالي، ساعات قليلة قبل خطاب رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري، الجنرال أحمد قايد صالح، الذي دعا فيه إلى تنحية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لأسباب صحية، وتفعيل المادة 102 من الدستور، وصلت مجموعة من موفدي الجيش إلى مقر الرئاسة الجزائرية في "قصر المرادية"، مهمتها بمثابة "وساطة الفرصة الأخيرة"، لمحاولة إقناع الدائرة المقربة من الرئيس بقبول "مخرج مشرف" من خلال رسالة استقالة يعلن فيها بوتفليقة تنحيه طوعاً لأسباب صحية. وأتت هذه الوساطة بعد قرابة أسبوع من القطيعة الكاملة بين الرئاسة وقيادة الجيش، وتحديداً منذ التضارب الذي خرج إلى العلن، يوم الاثنين 18 مارس، حين كُشف عن رسالة نُسِبت إلى بوتفليقة جددت تمكسه بالبقاء في الحكم خلال فترة انتقالية طويلة تمتد لأكثر من سنة، فيما ألقى رئيس الأركان خطاباً تعهد فيه بإيجاد "حل سريع للأزمة"، استجابةً لمطالب الحراك الاحتجاجي الذي يهز البلاد منذ 28 فبراير (شباط) الماضي.

ضباط كبار ناقمون

ذلك التضارب غير المسبوق بين أجنحة النظام الحاكم، أخرج إلى العلن خلافاً سرياً احتدم في الكواليس منذ ثلاثة أسابيع. وذكر مصدر مقرّب من دوائر القرار العسكري أن "التظاهرات الضخمة التي شهدتها البلاد يوم 15 مارس، والتي عكست معارضة شعبية قوية لقرار الرئيس بوتفليقة الاستمرار في الحكم بعد انتهاء ولايته الرئاسية، أفرزت تجاذبات عاصفة في صفوف الجيش. وخلال اجتماع عاجل للقيادة العسكرية، عُقد مساء اليوم ذاته، واجه قائد الأركان موجة انتقادات شديدة من قبل كبار الضباط".

"الضباط الناقمون"، وفق تسميتهم من قبل المصدر ذاته، حذّروا رئاسة الأركان من "خديعة" قد تلجأ إليها "الشلة الرئاسية"، عبر افتعال أعمال عنف خلال التظاهرات، بهدف وضع الجيش أمام الأمر الواقع، وجرّه إلى الاضطرار للتدخل من أجل ضبط الأمن. الأمر الذي تريد قيادة الجيش تفاديه بأي ثمن، خشية أن تجد نفسها أمام وضع من التمرد والانفلات يصعب التحكم فيه.

وقرر الاجتماع العسكري انتداب موفدين للقيام بمحاولة وساطة أولى بهدف إقناع بوتفليقة بـ "التعقل". وتم اللجوء إلى اللعب على الوتر الحساس لمشاعره الوطنية الموروثة عن فترة ثورة التحرير، من خلال دعوته إلى اغتنام "عيد النصر" في 19 مارس (تاريخ وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب التحرير الجزائرية ضد

الاستعمار الفرنسي)، لتوجيه رسالة إلى الشعب يعلن فيها تنحيه عن الحكم طوعاً، بدافع "التضحية من أجل المصالح العليا للوطن".

سعيد بوتفليقة يصدر رسالة باسم شقيقه

ولاقت الفكرة قبولاً من قبل الرئيس بوتفليقة، لكن مستشاري رئيس هيئة الأركان فوجئوا صباح الاثنين 18 مارس، بينما كانوا عاكفين على وضع اللمسات الأخيرة على خطاب كان قايد صالح يستعد لإلقائه ليحضّر الرأي العام للإعلان الرئاسي المرتقب في اليوم التالي، بنشر سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس الجزائري ومستشاره الأقرب، رسالةً باسم الرئيس جدّد فيها تمكسه بالبقاء في الحكم سنة إضافية بحجة الإشراف على الفترة الانتقالية.

ووجد رئيس هيئة الأركان نفسه بين نارين: تعنت "الشلة الرئاسية" وتمسكها بالبقاء في الحكم بأي ثمن من جهة، والنقمة المتزايدة في قيادة الجيش، تحت تأثير ضغط الشارع من جهة أخرى. وحرصاً منه على تماسك المؤسسة العسكرية، لم يجد قايد صالح بداً من معارضة بوتفليقة علناً في الخطاب الذي ألقاه في 18 مارس، بعدما بقي وفياً له منذ أن عيّنه قائداً للجيش في العام 2004.

"مساعدة بوتفليقة ليموت رئيساً"

لم تتوقف الأمور عند ذلك الحد. ففي صباح اليوم التالي، توجه وفد من كبار الضباط إلى قصر الرئاسة وفق ما رواه مصدر أمني لـ "اندبندنت عربية". لم يكن الهدف هذه المرة القيام بأي وساطة، بل مطالبة سعيد بوتفليقة، باستقالته الفورية من كل مناصبه الرسمية. وأضاف المصدر أن تلاسناً حاداً حدث خلال اجتماع وفد الجيش بشقيق الرئيس. ما دفع أحد الضابط إلى مخاطبته بلهجة عاصفة، قائلاً "البلاد تقف على حافة البركان، وشقيقك مشغول فقط بمجده الشخصي. وإذا كان مصراً على الموت رئيساً، فإننا يمكن أن نساعده في ذلك".

 

وكانت لهجة التهديد واضحة وحازمة بما فيه الكفاية لإقناع أشقاء الرئيس بوتفليقة بالتراجع. وأعلن تلفزيون "النهار"، المعروف بقربه من سعيد بوتفليقة في مساء اليوم ذاته، على نحو مفاجئ بأن الرئيس لن يستمر في الحكم بعد 28 أبريل (نيسان)، الموعد الرسمي لنهاية ولايته الرئاسية الرابعة.

"حرب إلكترونية" بإشراف ابن شقيقة بوتفليقة

عندئذٍ، ساد انطباع بأن التجاذبات بين قيادة الجيش والحلف الرئاسي عادت إلى الهدوء. لكن، لم تمرّ ثلاثة أيام حتى ضجت العاصمة الجزائرية بأخبار متواترة عن "حرب إلكترونية" من تدبير "الشلة الرئاسية" بهدف زرع البلبلة في أوساط الحراك الاحتجاجي، من خلال استعمال شبكات التواصل الاجتماعي لنشر إشاعات مغرضة وأخبار كاذبة. وسرعان ما بينت التحريات بأن تلك الحملة تُدار، بإشراف شركة إلكترونيات يملكها كريم بن منصور، ابن شقيقة الرئيس بوتفليقة، في مبنى من خمسة طوابق، يقع في حي "حيدرة"، في أعالي العاصمة، كان يُفترض أن يكون مقراً لقناة تلفزيونية تحمل اسم "استمرارية" تقرر إطلاقها ضمن حملة الترويج لترشيح بوتفليقة لولاية خامسة.

مخاوف من خديعة للزج بالجيش في العنف

وتجددت المخاوف من تدبير الحلف الرئاسي "خدعة" بهدف جر الحراك الشعبي إلى العنف، لكن قيادة الأركان سعت إلى تهدئة "الضباط الناقمين"، داعيةً إلى التريث وضبط النفس، لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت السماح، مساء السبت 23 مارس، بإقامة تظاهرة لقدامى "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، في معقلهم التاريخي في حيّ "القبة"، في الضاحية الشرقية للعاصمة، على الرغم من أن تحركات الناشطين الإسلاميين تخضع، منذ حل حزبهم في العام 1992، لرقابة لصيقة من قبل أجهزة الاستخبارات.

ووفقاً لمصدر أمني تحدثت إليه "اندبندنت عربية"، فإن "عدم اعتراض هؤلاء المتطرفين من قبل أجهزة الأمن، خلال تلك التظاهرة، أكد الشكوك في أن "الشلة الرئاسية" تخطط لتخويف الحراك الاحتجاجي بـ "بعبع" عودة الإسلاميين، فضلاً عن محاولتها ابتزاز القوى الدولية بورقة التصدي للتطرف والإرهاب"، الأمر الذي دفع ثمنه رئيس جهاز الاستخبارات، الجنرال بشير طرطاق، المقرب من سعيد بوتفليقة، والذي أُقيل بعد ساعات على خطاب قائد الأركان الداعي إلى تفعيل الإجراءات الدستورية لتنحية الرئيس.

وزادت هذه التطورات من مخاوف الضباط الناقمين، وأفرزت إجماعاً في قيادة الجيش بأن إبعاد "الشلة الرئاسية" بات ملحّاً، لوضع حد لمثل هذه الألاعيب.

لذلك، حين توجه موفدو الجيش إلى قصر الرئاسة، صباح الثلثاء 26 مارس، لم تكن لدى غالبية الضباط أي أوهام بخصوص تجاوب "الشلة الرئاسية"، لكن قائد هيئة الأركان أصرّ، من باب الوفاء لمسار الرئيس بوتفليقة، على مخاطبة "روحه الوطنية"، مرة أخيرة.

ووفقاً لمصدر مقرّب من قيادة الجيش، فإن "الجنرال قايد صالح احتفظ، حتى اللحظة الأخيرة، قبل خطاب القطيعة بينه وبين "الشلة الرئاسية"، بالأمل في أي يجد الرئيس بوتفليقة مخرجاً مشرّفاً من الأزمة، من خلال التنحي طوعاً". وأضاف المصدر بأن "قائد الأركان كان يفضل حلاً توافقياً، تفادياً لاضطرار الجيش إلى إكراه الرئيس على التنحي. لكن تعنت الفريق الرئاسي ورفضه أي تعديل في خريطة الطريق التي أُعلن عنها في 11 مارس، لم يترك له خيار آخر".

"غلاف دستوري" لا يحظى بالإجماع

وعلى الرغم من إجماع القيادة العسكرية على ضرورة التعجيل بتنحي بوتفليقة، إلا أنها حرصت على الاستعانة بخبراء في القانون الدستوري لإيجاد الصيغ القانونية الأمثل التي يتوجب على رئيس الأركان اعتمادها في خطابه لتفادي إعطاء انطباع بأن الأمر يتعلق بـ "انقلاب عسكري"، خشية استغلال ذلك من قبل بعض أطراف المعارضة، الإسلاميين بخاصة، لمحاولة تأليب "الحراك" ضد المؤسسة العسكرية.

وعلى الصعيدين النظري والإجرائي، فإن "المجلس الدستوري" هو الذي سيتولى تفعيل آليات إقرار شغور المنصب الرئاسي، على أن تتم المصادقة عليها بعد ذلك، بغالبية الثلثين في غرفتَي البرلمان. لكن المصدر الأمني اعترف بأنه "لا أحد في الجزائر يشك، ولو للحظة، في أن إعلان رئيس هيئة الأركان حسم نهائياً

مصير الرئيس بوتفليقة وشلته". وأضاف بأنه "كان من الضروري إيجاد "غلاف دستوري" لقرار قيادة الجيش، لأن ذلك ضروري لضمان استمرار مؤسسات الدولة، على الرغم من أن الصيغة الانتقالية المنصوص عليها في المادة 102 من الدستور لا تحظى بالإجماع لا في صفوف الجيش ولا في الحراك الاحتجاجي".

بالفعل، وفي وقت شكّل رفض التمديد للرئيس بوتفليقة أحد المطالب الرئيسة للحراك الاحتجاجي، الا أن أغلب الناشطين سارعوا إلى الاعتراض على استعمال المادة 102، لأن من شأنها أن تختزل التحوّل الديمقراطي المنشود في انتخابات مشكوك في نزاهتها، لأنها ستُجرى تحت إشراف الهيئات الإدارية والحكومية ذاتها التي نصبها الرئيس بوتفليقة، ووفق الدستور والقانون الانتخابي اللذين تم تفصيلهما على مقاسه. ويتنافى ذلك مع تطلعات الحراك لتأسيس "جمهورية ثانية"، لذلك يُرتقب أن يشهد يوم الجمعة 29 مارس حشداً احتجاجياً ضخماً، للتشديد على تمسك "الحراك" بمطالبه بالإصلاح الشامل وإرساء مبادئ دولة القانون.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات