لا تزال مراكز المدن والبلدات أهدأ مما كانت عليه قبل فيروس كورونا، على الرغم من جهود الحكومة لإعادة الناس إلى العمل. لكن يبدو أن جانباً من حياة الشارع بدأ يعود بسرعة كبيرة إلى وضعه "الطبيعي". إنها بالفعل حياة الشارع، كما في عيش بعضهم بالشوارع.
في لحظة ما، عندما عمّ البلاد التآزر وكانت الحكومة في مرحلة "مهما كلّف الأمر" القصيرة، أدركنا أنه من الممكن بعد كل شيء توفير المأوى لأولئك الفقراء الذين لا يملكون مأوى. ثم تعاونت الحكومة المركزية والحكومات المحلية والجمعيات الخيرية والفنادق كلها معاً، وبدا ذلك عملاً ناجحاً.
استمتع بوريس جونسون رئيس الحكومة، والوزراء روبرت جنريك (الإسكان) وريشي سوناك (المالية) ومات هانكوك (الصحة) بذلك الوهج الدافئ. وقد اعتقدت أنه من الضروري الاعتراف بالفضل لمن يستحقه، وإنْ كانَ جزءٌ مِني يَودُّ تذكيرهم بأن حزبَ العمال، عندما كان في السلطة، لم يكن بحاجة إلى جائحة لكي يتخذ إجراءات ناجحة لمكافحة ظاهرة التشرد.
ولكن حالياً، على غرار الكثير من الأمور الأخرى المصنّفة ضمن ملف "حكومة المملكة المتحدة 2020-كوفيد-19،" يبدو أنهم كانوا قلقين بشأن التغطية الإعلامية في ذلك الوقت، أكثر من قلقهم على حياة الأشخاص الذين كانت تدور حولهم قصص الوهج الدافئ.
وأعلن جينريك، وهو رجل يملك العديد من المنازل واشتهر باتخاذ قرارات ساعدت ملياردير العقّارات ريتشارد ديزموند على حساب إحدى أفقر المناطق في البلاد، أن 90 في المئة من المشرّدين تم إيواؤهم بشكل لائق "لحمايتهم من الفيروس".
وأُطلِق على برنامج الإيواء ذلك اسم "الجميع في الداخل" Everyone In، لكن وبينما كان هو وجونسون يتبادلان المديح، كان هناك عدد كبير للغاية ممن تجدر تسميتهم بـ"الجميع في الخارج" يواصلون حياتهم في العالم الحقيقي بعيداً عن غرفة الإحاطة (الإعلامية) في مقر رئاسة الحكومة بـ10 داونينغ ستريت. وعلى أي حال، وجّه "مكتب تنظيم الإحصاء" ONS توبيخاً إلى جينريك على ادعائه بتوفير الإيواء لـ90 في المئة من المشردين من دون نشر أي بيانات تدعم ذلك. وقد أصبح هذا توجهاً معتاداً في ظل هذه الحكومة.
وكما حذّر العديد من الجمعيات الخيرية، شهدت البلاد خلال الجائحة ارتفاعاً في عدد المشرّدين بعد إغلاق الخدمات والمرافق التي يعتمدون عليها بسبب كوفيد-19. وكان هناك شك في أن ما حفز الوزراء على التحرك هو رغبتهم في طمأنة المجموعات الليلية لعينات الفئات المستهدفة (بغرض جس نبض المزاج الشعبي)، التي يموّلها دافعو الضرائب، من خلال إزالة مخاطر صحية محتملة من الشوارع، أكثر من اهتمامهم برفاه الأشخاص الذين كانوا يمرّون بهم على قارعة الطريق وهم يقودون سياراتهم الحكومية لسنوات، بينما كانت أعداد المشردين تزداد، حتى أصبح التشرد أمراً طبيعياً.
أفادت مؤسسة "ستريتلينك" Streetlink الخيرية بأن بلاغات الجمهور بخصوص المشرّدين خلال الفترة الممتدة من أبريل (نيسان) إلى يونيو (حزيران)، ازدادت بنسبة 36 في المئة على أساس سنوي. ووصل المجموع إلى نحو 17 ألفاً تقريباً، وهو ما يعادل سعة ملعب نادي بلاكبول لكرة القدم.
في ضوء هذا الوضع، أثارت خطة الحكومة لرفع الحظر الذي فُرض في مارس (آذار) على عمليات الإخلاء لمساعدة الأشخاص المتخلفين عن سداد الإيجار، جدلاً واسعاً. في المقابل، أعلنت حكومتا اسكتلندا وويلز تمديد إجراءات الحظر. وهذا وضع الحكومة البريطانية تحت الضغط كي تحذو حذوهما، وهو أمر يعكس توجهاً بات يتكرر كما رأينا أخيراً مع كارثة الامتحانات، وأعلنت لندن تأجيل رفع الحظر لمدة شهر واحد، على أمل، بلا شك، أن يحدث شيء آخر يستأثر باهتمام المعارضة.
وحتى إريك بيكلز، وزير المجتمعات في حكومة محافظين سابقة، وصف هذا الحل قصير الأجل بأنه "عديم الجدوى"، ما لم يتخذ مزيداً من الإجراءات التشريعية لتوفير قدر أكبر من الأمان للمستأجرين.
وتقدر منظمة "شيلتر"Shelter الخيرية لإيواء المشردين أن 227 ألف مستأجر خاص راكموا متأخرات منذ انتشار الجائحة وأصبحوا معرضين لخطر فقدان منازلهم. ويكفي هذا العدد لملء ملاعب كرة القدم لنوادي بلاكبول وبيرنلي وبرمنغهام سيتي ونوتنغهام فورست وسيلتيك وملعب وست هام في لندن.
نشرتُ في 21 مارس، أي قبل خمسة أشهر بالضبط، دليلاً من 20 نقطة حول إدارة الاتصال في وقت الأزمات، بهدف المساعدة. وجاء في النقطة الخامسة من الدليل أن "وفر تحديثات قصيرة وبسيطة عن كل ما تفعله الحكومة بما يتصل بالفيروس، واستباق المشكلات الصعبة التي لا بد أن تظهر، سواء كانت متعلّقة بالسجون أو الصحة العقلية أو العنف المنزلي وما إلى ذلك، وحدد العمل الذي ينجز، وأي تغييرات تحصل، وأي رسائل تريد إرسالها. لا تخجل من تعقيد واتساع التداعيات المحتملة، ولا تتظاهر بأنها سهلة أو واضحة".
لا أعتقد أن جونسون سبق أن فعل ذلك على الإطلاق. ففي ما يخص الصحة العقلية، قد أكون مخطئاً، لكنني لست متأكداً من أنه قد تطرّق إليها على الإطلاق إلا بشكل عابر. وتجدر الإشارة إلى أن وزيرة الصحة النفسية هي نادين دوريس، وبالكاد تبدو هذه القضية مسجّلة في جدول أعمال الحكومة.
مع ذلك، كما أفاد "مكتب الإحصاءات الوطنية" هذا الأسبوع، شهدت الجائحة تضاعفاً في عدد الأشخاص الذين أبلغوا عن أعراض الاكتئاب، وقد حذّر كبار الأطباء النفسيين من أن الأمراض العقلية ستكون "الجائحة الثانية".
ويعاني العاملون في الخطوط الأمامية من ضغط هائل؛ والعائلات المكلومة التي لم تستطع مواساة أحبائها وهم يودعون الحياة؛ والأطفال والطلاب الذين ينقلب تعليمهم رأساً على عقب؛ والشركات التي تفلس، والأشخاص الذين يفقدون وظائفهم ومنازلهم. إن المرء ليس بحاجة إلى أن يكون حلّالاً للمشكلات أو طبيباً نفسيا لكي يعلم أن هناك مشكلات كبيرة سنتعرض لها في المستقبل.
وعلى نحو مماثل، ارتفع العنف الأسري بشكل صاروخي في المملكة المتحدة كما في أي مكان آخر، وبالرغم من أنني أتابع هذه القضايا عن كثب، فإنني لست على دراية بأي استراتيجية حكومية متماسكة بشأنها.
لا أحد يتوقع من الحكومة أن تعالج جميع الأمراض، والجميع يُدرك أن هذه الأزمة قد ألقت كومة ثقيلة من التحديات الصعبة على الحكومة، وفرضت ضغوطاً هائلة على الخزانة العامة. لكن من حقنا أن نتوقع من الحكومة على الأقل أن تدرك طبيعة التحديات، وأن تفكر في كيفية التعامل معها قبل أن تتحول مشكلة ما إلى أزمة. ويبدو واضحاً جداً أننا مقبلون على أزمة تشرد وأزمة صحة عقلية.
ولا تكمن المشكلة هنا في الكفاءة الحكومية فحسب، برغم ضعف أدائها بالعديد من جوانب كوفيد-19، بل في مسألة القيم.
عندما يتعلق الأمر بالمشكلات التي تواجه الأشخاص الذين يرزحون في أسفل المقياس الاقتصادي والاجتماعي، أو أولئك الذين يُعتبرون "ضعفاء"، أي المشردين وأصحاب الأمراض العقلية وضحايا العنف المنزلي، فإن أعضاء الحكومة، بدءاً من جونسون إلى من هم دونه، يبدون كالعميان.
© The Independent