Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لو كليزيو يسترجع سحر الطفولة رغم صفارات الإنذار

"أنشودة بريتانية" شهادة على سنوات عمره الأولى وافتتانه الباكر بأفريقيا

الروائي الفرنسي لو كليزيو الفائز بنوبل (موقع الكاتب)

ثمة أسفار لا تتطلب جواز سفر أو تأشيرة، أسفار ثابتة لا تستدعي سوى الذاكرة والأحاسيس. وهذا ما ينتظرنا في الكتاب الأخير للكاتب الفرنسي جان ماري لو كليزيو، "أنشودة بريتانية"، الذي صدر حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية، ويتألف من نصّين، أو بالأحرى من سرديتين يفتح لنا الحائز على جائزة "نوبل" (2008) فيهما أبواب طفولته، مستعيناً بلغةٍ ساحرة تختصر بجمالياتها وقدراتها التعبيرية المدهشة المسافة الكبيرة التي باتت تفصله عن تلك المرحلة من حياته، من دون أن تدّعي إلغاءها.

في السردية الأولى التي تمنح هذا الكتاب عنوانه، يذهب لو كليزيو بنا إلى مقاطعة بريتانيا الفرنسية، موطن أجداده، حيث لم يمضِ سوى أسابيع قليلة كل صيفٍ بين عامَي 1948 و1954، ومع ذلك، "عرفتُ فيها أشدّ الانفعالات وأعمق الذكريات". من هنا رغبته في الاحتفاء بروعتها السابقة. وبقيامه بذلك، يسعى إلى كشف مصدر هذه الانفعالات، متجاهلاً منطق الترتيب الزمني للأحداث التي يرويها، تماماً مثل الأطفال. ونقول "روعتها السابقة" لأن الكاتب، حين عاد إلى بريتانيا مؤخّراً، وتحديداً إلى قرية سانت مارين حيث عاش، تعذّر عليه التعرّف إلى أي شيء فيها، فالحداثة كانت قد زحفت إليها في الستينيات ومحت كلياً معالمها ومكامن فتنتها، بما في ذلك اللغة البريتانية التي كانت محكية فيها: "كل شيء في مكانه، لكن ثمة شيء تغيّر. طبعاً، مرّ الزمن عليّ وعليها، لكنه أعاد طلاءها وعدّل قياساتها وحدّث (سلبياً) جغرافيتها". وهو ما يفسّر شعوره بأنه سُلِب كنزاً ثميناً يجهد في استعادته بكلمات مرتجفة لكن صائبة، من خلال سلسلة مشاهد مؤثِّرة تصدي فيها أصوات لغة تلك الأرض المهددة بالضياع.

واقعية حلمية

فصول هذا النص تحضر كـ "أنشودات" يعيد الراوي فيها إحياء حقبة لم تكن قرية سانت مارين فيها قد امتلأت بالمتاجرعلى أنواعها وخضعت لشقّ طرقات واسعة مجهَّزة بمختلف إشارات المرور وتفضي إلى مفترقات دائرية حديثة. أنشودات يقترح لو كليزيو فيها سردية واقعية ــ حلمية لطفولته في بريتانيا ثريّة بالتأملات حول التحوّلات التي طرأت على هذه المقاطعة. وعلى رغم استيائه من هذه التحوّلات، نراه لا يستسلم للحنين أو يتباكى على ماضي بريتانيا، بل يلتزم بهدف وحيد هو الشهادة على سحرها السابق الذي اختبره بكل أحاسيسه، عبر نسج سردية يصفها بـ "الحكاية"، كما للتشديد على أن للخارق أيضاً مكانه فيها. وهذا لا يحول طبعاً دون توقّفه من حينٍ إلى آخر عند بؤس البريتانيين آنذاك وعذاباتهم الناتجة تارةً من الإهمال الذي خضعوا له على يد السلطة المركزية، وتارةً من أهوال الحرب العالمية الثانية التي ما زالت آثارها حاضرة إلى حد اليوم من خلال الحصون التي شيّدها المحتلّ النازي على شواطئهم. لكن بالنسبة إلى لو كليزيو الطفل، ثمة ألغاز كثيرة كانت تنتظر فكّها وتثير فضوله في بريتانيا، كلغز تلك الصروح الضاربة في القدم، أو لغز تلك المناظر الطبيعية الخلابة التي نحتها الزمن. باختصار، "كان ثمة عالمٌ آخر قبل عالمي (...) وكنتُ مجرّد عابر في هذه الأرجاء".

ويفتننا هذا النص بالرقّة الرعوية التي تصبغه وتعزّز من وقعِ وصفِ كاتبه فيه طقوس الحصاد في بريتانيا خلال الصيف أو حرارة الحفلات في لياليها أو الروعة البسيطة لبستان مزهر، ما يحوّله إلى نشيد احتفاء بالريف السرمدي عموماً ومتعة الحياة فيه. وصفٌ بعيني طفلٍ كان يدهشه إلى أبعد حدّ مشهد "الصخور الغريبة الشكل على الشاطئ"، "انفجار الأمواج إثر عبورها المتواتر الثقوب التي تعتري الكهوف الصخرية"، "عزلة الخلجان المليئة بالحصى العملاقة"، "تراجُع البحر على مدى أميال أثناء الجزر وانكشاف باطنه المثير"، و"المشهد الساحر للشاطئ البريتاني في ضوء القمر".

أول قنبلة

السردية الثانية التي تحمل عنوان "الطفل والحرب" تسبق زمنياً "أنشودة بريتانية" وتحطّ بنا في مدينة نيس حيث وُلِد لو كليزيو، ثم في قرية روكبيليير القريبة منها حيث لجأ مع أمه وشقيقه وجدّيه أثناء الحرب العالمية الثانية وعرف الطفل الصغير الذي كانه الخوف والجوع والانغلاق. سردية غير خطوطية ومؤلمة يتنقل الكاتب في زمنها القصير (خمس سنوات) بطريقة عشوائية، خالطاً الحاضر بالماضي، متعثّراً، متردّداً ومكرّراً نفسه. وكما في النص السابق، لا تذكُّر في هذا النصّ، بل فقط انطباعات وأحاسيس ناتجة مما اختبره خلال نعومة أظافره: انفجار أول قنبلة قرب منزل جدّيه وإطلاقه صرخة "لم تخرج من حلقي، بل من العالم بأسره"، حياته على مدى شهور طويلة في قبو، صفّارات الإنذار التي كانت توقّع مرور الزمن...

سردية سيرذاتية إذاً لكنها مجرّدة من أي نرجسية. وحين تحضر الـ "أنا"، تحضر متعددة: "أنا" رضيعة، "أنا" بعمر ثلاث أو أربع سنوات، "أنا" مشدودة على صدر الأم أو الجدّة"، "أنا" راشدة"، "أنا" في طور الكتابة، وخصوصاً "أنا" طبعتها الحرب وخلّفت داخلها تعاطفاً عميقاً ومطلقاً مع جميع الأطفال الذين اختبروا أهوالها. وثمة أيضاً بعدٌ سياسي وأخلاقي في هذا النص يتجلّى في النظرة القاسية التي يلقيها لو كليزيو على أبناء وطنه بسبب سلوكهم المشين وعجزهم أثناء الحرب عن تحديد عدوّهم الحقيقي: "في بلدٍ مهزوم مثل فرنسا في مطلع الأربعينات، انتفى التكاتف والقوانين والكرامة وحلّ مكانها عهد الانتقام والتنازلات الخسيسة. أعمت الضغائن القديمة العيون، وأخطأ أولئك الذين كانوا قادرين على القيام بشيء ما، على التمرّد وحمل السلاح، في تحديد العدو. فبدلاً من مساعدة البريطانيين، اصطفّوا خلف المنتصِر".

وبالنتيجة، يقول الكاتب لنا أن طفولته هذه لم تشدّ عوده بل "جعلتني عنيفاً. (...) وهذا العنف ما زلت أستشعره كمرارة وإحساس بأنني خُدِعتُ، بأنني عشتُ كذبة معمَّمة". لكن "الطفل والحرب" لا تنتهي بهذا الاستنتاج الصادق والمعتم، بل في ألق أفريقيا وفضاءاتها الرحبة حين التحق لو كليزيو بعد سنواتٍ قليلة، مع أمه وشقيقه، بوالده الطبيب الذي كان يمارس مهنته في نيجيريا. أفريقيا التي فتنته طبيعتها وناسها إلى حدّ جعله يختم نصّه بقولٍ جريء يفجّر ذلك العذر الذي تسلّحت فرنسا به لتبرير استعمارها أجزاء واسعة من القارة السوداء: "أفريقيا هي التي نقلتنا إلى الحضارة".

المزيد من ثقافة