منذ خمسة أيام، اندلعت فتنة الاقتتال الأهليّ بين النوبة والبني عامر للمرة الرابعة، بعد موجات ثلاث، كانت أولاها في يونيو (حزيران) قبل الماضي، تزامناً مع مذبحة فضّ اعتصام القيادة العامة بالخرطوم، ثمّ الثانية في أغسطس (آب) الماضي، أمّا المرة الثالثة فكانت في يناير (كانون الثاني) الماضي.
هذه المرة، منذ الـ11 من أغسطس الحالي، اندلعت الفتنة مرة أخرى، والذين تسببوا فيها هم ذاتهم الذين تسببوا فيها للمرات الأولى والثانية والثالثة، وكانت الموجة الرابعة تجديداً للاقتتال وزرعاً للفتنة، بنية انتشارها انتشاراً كبيراً ينجو معه أرباب النظام القديم، خوفاً من المحاكمات التي تنتظرهم بسبب المتغير الجديد، الذي طرأ على المدينة، بتكليف الوالي المدني الجديد عبد الله شنقراي من طرف حكومة الثورة والياً لولاية البحر الأحمر.
تعيين الوالي المدني يعني بالضرورة وصول حكومة الثورة إلى المدينة، كما يعني تغيير الطبقة السياسية، ويعني كذلك الإسناد والتعاون مع لجنة إزالة التمكين ومكافحة الفساد التي تُعنى بتتبع عناصر النظام السابق، وكشف ملفات فساده في ولاية البحر الأحمر، وهي ملفات خطيرة وكبيرة.
لهذا السبب، تعيين الوالي المدني ضرب الفتنة المدينةَ مرةً أخرى، وعبر المكوّنين الأهليين ذاتهما، مع محاولة إدخال مكوّن آخر أيضاً "البداويت"، وتفاقُم الفتنة على هذا النحو أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك عناصر في اللجنة الأمنية هي التي لديها مصلحة في ضرب السلم الأهلي لبورتسودان وتعميم الفوضى.
فاللجنة الأمنية، مع ذهاب الوالي العسكري السابق حافظ التاج مكي، واللواء محمد موسى مدير الشرطة السابق، يوجد بين مكوناتها اليوم من هو حريص على تدبير استمرار الفتنة، والسعي إلى اتساع نطاقها، لإعاقة الثورة، وتعطيل عمل حكومة الوالي الجديد في الولاية. والذي يجعلنا نميل إلى هذا الاتهام حيثيات واضحة جدّاً تتمثل في أمرين.
أولاً، هذه اللجنة الأمنية صدّقت وسمحت لمسيرة احتجاج لأبناء النوبة في مدينة بورتسودان من أجل تسليم مذكرة مضمونها رسالة احتجاج على التعبيرات العنصرية التي طالت عضو مجلس السيادة الفريق شمس الدين كباشي، وهو من مكوّن النوبة، من بعض المتفلتين من لجان المقاومة في أثناء حادثة اجتماعه في مناسبة العيد بمنزل أحد الصحافيين بمدينة أم درمان، ولأن حيّ النوبة في مدينة بورتسودان متاخم لحي بني عامر، كان المرور إلى وسط المدينة يمر عبر حي بني عامر (دار النعيم).
وإذا تجاوزنا واجب عدم التصريح لهذه المسيرة من قِبل اللجنة الأمنية، لأن ما حدث للفريق كباشي حدث في العاصمة، كان الواجب على اللجنة الأمنية تحديد مسارات آمنة لطريق المسيرة، لا تمر بحي بني عامر، أي بحيث تمر المسيرة عبر طرق التفافية، تجنباً للاحتكاك بين المكوّنين، إذ لا يزال الاحتقان بينهما محتقناً نتيجة لموجات الاقتتال الثلاث السابقة، فإذا لم تفعل اللجنة الأمنية ذلك الإجراء الاحترازي، تجنباً للاحتكاك والفتنة، فماذا يمكن أن نسمّي هذا التصرف؟
إن الإدانة هنا واضحة لتصرّف اللجنة الأمنية في السماح بالتصديق للمسيرة أولاً، وفي عدم رسم مسارات آمنة لها، ذهاباً وعودة.
ثانياً، حين ترسل الشرطة منسوبيها إلى مناطق التماس والصراع، ثم لا تأمرهم بتحريك ساكن، ولا تسكين متحرك، في دور يتعارض مع مهمة الشرطة الأصلية: مكافحة الجرائم قبل وقوعها، ثم الكشف عن الجرائم بعد وقوعها ضمن مبدأ حماية الشعب، فإنّ دالة التواطؤ هنا حيال اللجنة الأمنية ستكون حاضرة بالضرورة، ودائرة الشك ستطال ضباطاً كباراً في الشرطة، من ناحية، وفي أطراف أخرى في اللجنة الأمنية من غير الوالي الجديد الذي لم يتسلّم مهام ولايته إلا قبل أيام.
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا هدأت الأوضاع بسرعة دراماتيكية مع قدوم قوة كبيرة من الخرطوم لمنسوبي قوات الدعم السريع وقوات الاحتياطي المركزي؟ ألم يكن في مدينة بورتسودان مركز لقيادة القوات البحرية، وكذلك وجود معسكر للقوات الجوية، ولقوات الشرطة، ولقوات نظامية أخرى بالمدينة، بينما كان مربع الاشتباك حين بدأ لا يتجاوز 500 متر بين حيي النوبة وبني عامر؟
للإجابة عن هذا السؤال لا يمكننا أن نتفادى أي تفسير لا يدل على إرادة الفتنة وتحريكها للمرة الرابعة في المدينة، بهدف حماية مصالح بقايا متنفّذي نظام البشير الذي يضم تحالف العنصريين والفاسدين. فتلك الإجابة هي التي ستفسّر لنا معنى أن تتجدد فتنة الاقتتال الأهلي بين مكوّنين في المدينة، ثم لا نرى محاكمات وعقوبات عادلة تطال مَنْ تسبب فيها على مدى ثلاث موجات من الاقتتال الأهلي؟
هكذا، كيفما قلّبنا وجوه الأمر سنجد أن اللجنة الأمنية هي التي تقع عليها المسؤولية في ذلك، سواءً أكان ذلك تقصيراً أو تواطئاً منها، لا سيما أنّ مراقبي مجريات الفتنة في المدينة رصدوا تحرّكات بعض المعاشيين من الشرطة في يوم الفتنة الأول بمنطقة التماس!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوجد سبب آخر مضاف ربما يفسِّر لنا تصرّف اللجنة الأمنية هذا، لا سيما أن مراقبين رصدوا تحركاً لقناصة وبقايا آثار لسلاح ثقيل لا يملكه إلا الجيش (دانة) من منسوبي الجيش في الجانب الآخر من طرفي الفتنة (النوبة) ضد بني عامر، (سقطت مقذوفة سلاح ثقيل أُطلقت من معسكر في منطقة غرب الظلط وراء حي دار النعيم، وسقطت في منزل إدريس محمد نور، وهو منزل مكوّن من طابقين بحي دار النعيم، فأحدثت فيه أضراراً كبيرة جدّاً).
وهذا السبب في تقديرنا يتّصل بما يضمره البعض في مدينة بورتسودان، وربما في بعض عناصر اللجنة الأمنية، نحو مكوّن بني عامر والحباب تأثراً بالإشاعات التي تروّج أكاذيب واتهامات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يشيع كثيرون من مريدي الفتنة وناشطي الشر في "فيسبوك" بأن بني عامر والحباب كلهم لاجئون وغير سودانيين، ما قد يعمم انطباعات خاطئة في أذهان كثيرين من السودانيين في المدينة، ممن لا يعرفون حقائق الهُوية السودانية لبني عامر والحباب، الأمر الذي يؤثر في تفاعل المواطنين مع المظالم التي تقع على هذا المكوّن في المدينة، وذلك بشبهة الامتداد الحدودي لبني عامر والحباب بين السودان وإريتريا، لا سيما أن مدينة بورتسودان ساحلية تكثر هجرات الناس إليها باستمرار من مختلف أنحاء السودان، ومن خارجه كذلك.
خطورة الأمر تتجسّد في الحملة التي يشنّها ما يسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة بشرق السودان"، وهو اسم خادع لا يمثل نظارات البجا السبعة في شرق السودان، ولا يضم إلا ناظراً واحداً من سبعة نظّار لسبع قبائل كبيرة، وعموديات أخرى في شرق السودان، وينشط في هذا المجلس فاسدون من عناصر نظام عمر البشير وعنصريون ومخدوعون، ويروّجون عبر صفحة عنصرية في "فيسبوك" تسمّى (المرصد نيوز) لفرية أنّ كل بني عامر والحباب في السودان لاجئون!
وبطبيعة الحال، خطورة مثل هذه الاتهامات العنصرية بحق بني عامر والحباب تكمن في أنها قد تؤدي إلى حروب إبادة وتطهير، لأن الذي يتجرّأ على تجريدك من هُويتك الوطنية سيتجرّأ على سلبك حقوقك المشروعة، وربما قتلك أيضاً.
ومع الأسف، هذا ما ظلّ يشيعه الناشطون في ما يسمّى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا بحق الوالي المدني لكسلا صالح عمار، إذ يتهمونه بأنه أجنبي، فقط لأنه ينتمي إلى قبيلة تمتد حدودها بين إريتريا والسودان.
في ضوء كل هذه المعطيات التي تشتبك فيها شباك الفتنة في شرق السودان، نعتقد أن فتنة الاقتتال الأهلي ستتمدد إلى كسلا، حال تسلُّم الوالي المدني مهامه، كما حدث في بورتسودان، الأمر الذي يحثنا على حضّ الوالي المدني الجديد لولاية البحر الأحمر عبد الله شنقراي، للتسريع بحل اللجنة الأمنية، وفتح تحقيق نزيه عبر لجنة قومية من المحامين في ملف فتنة الاقتتال الأهلي الذي تجدد أربع مرات، من دون أن يُقبض على المجرمين أو تجري محاكمات عادلة وعقوبات رادعة لمدبِّري هذه الفتنة، لأنه إذا لم يُسرَّع بذلك فإن الفتنة ستتجدد للمرة الخامسة والسادسة حتى تصل إلى مبتغاها، وهو إشعال شرق السودان بالحروب الأهلية عبر صراع لا نهاية له بين مكوّناته، وذلك من أجل إفشال الثورة في منطقة جيوستراتيجية جاذبة بطبيعتها للتدخلات الخارجية.
كما أنّ الأمر يقتضي من الحكومة المركزية في الخرطوم، بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، التسريع بتكوين مفوضية للسلم الأهلي بشرق السودان، تعمل على تعزيز السلم المجتمعي في المدينة، وتؤسس لاستعادة تعايش على أسس المواطنة بعد الخراب والتمزيق اللذين تسبب بهما نظام البشير، الذي ضرب نسيج المدينة عبر تغذية النزعات القبائلية وتسييس الإدارة الأهلية.
إلى وزير العدل نصر الدين عبد الباري
وبطبيعة الحال، لن يستتب الأمن في مدينة بورتسودان، ولا في إقليم شرق السودان المضطرب، الذي هو بمثابة "كعب أخيل" الثورة السودانية، إلا بسن قوانين رادعة لتجريم العنصرية والإقصاء على أسس عنصرية.
لهذا نطالب معالي وزير العدل نصر الدين عبد الباري، بصورة استثنائية، بفتح فرع في كل من مدينتي كسلا وبورتسودان لجرائم المعلوماتية، حتى تتمكّن الدولة من تتبع حسابات مثيري الفتن العنصرية بحق المواطنين، من أي مكون كانوا، في وسائل التواصل الاجتماعي، وسن قوانين وعقوبات رادعة لأولئك المجرمين الذين تسببوا في قتل عشرات الأبرياء في شرق السودان عبر إساءاتهم العنصرية والشحن القبلي ودعوات الإقصاء والنعوت العنصرية التي ظلوا باستمرار لا يكفون عن الجهر بها في حق مواطنين آخرين. والمجرمون معروفون لمتابعي وسائل التواصل الاجتماعي في شرق السودان.
كل تلك المهام العاجلة والإجراءات الضرورية لوأد الفتنة، ينبغي أن تكون على رأس أولويات متخذي القرار في كل الجهات المعنية باستتباب الأمن في شرق السودان من كل الأطراف ذات الصلة، ابتداء من الوالي المدني عبد الله شنقراي، ومروراً بوزير العدل نصر الدين عبد الباري، ووصولاً إلى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.