Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تقف برلين على أعتاب "الرايخ الرابع"؟

قلق في أوروبا وأميركا من قيامة جديدة للإمبراطورية الألمانية

فسيفساء للنسر الإمبراطوري الألماني من عام 1888 (غيتي)

في أواخر يونيو (حزيران) المنصرم، كتب المحلل السياسي الروسي الشهير "ألكسندر سيتينكوف" من خلال "سفوبودنايا بريسا" الروسية مقالاً مطولاً حول "عودة الرايخ الرابع" إلى ألمانيا خلال شهر أغسطس (آب) الجاري، مشيراً إلى وجود خطة ألمانية للسيطرة والقوة، تستغل انشغال أميركا حالياً، لا سيما وهي متسارعة ومتصارعة بسبب تفشي وباء كورونا من جهة، والاستعداد للانتخابات الرئاسية من جهة ثانية.

أسئلة عديدة يثيرها مقال "سيتينكوف"، تبدأ من عند، ما الذي يجري في ألمانيا على وجه التحديد، وما توجهات الألمان التي تعزز فكرة الرايخ الرابع، وهل حقاً بات الأمر مزعجاً لأوروبا من جراء ارتباط هذا الرايخ بالصحوة الألمانية المتجددة، وصولاً إلى الخوف الذي يشعر به الأوروبيون من جراء تنامي قوة الألمان، ناهيك عن قلق الأميركيين والروس... ما قصة الرايخ الرابع وإلى أين تمضي؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذه السطور.

ماذا يعني مفهوم الرايخ؟

حسب الموسوعات المختلفة "الرايخ الألماني" هو الاسم الرسمي لألمانيا في الفترة ما بين 1871 و1945 وترجمته الحرفية هي "الإمبراطورية الألمانية" (Deutsches Reich) وقد انتهى الرايخ الألماني الثالث رسمياً مع هزيمة النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وترجع صياغة المصطلح إلى "أرثر مولر فان دن بروك"، وقد استخدم المصطلح عنواناً لكتابه "الرايخ الثالث" المنشور عام 1923.

استخدم الألمان هذا المصطلح ضمن حملاتهم الدعائية، من أجل إعطاء شرعية لنظامهم كدولة وريثة معاد تسميتها بأثر رجعي للرايخ الأول (الإمبراطورية الرومانية المقدسة من 962 – 1806)، وقد كانت رؤية هتلر للرايخ الثالث أنه سيعيش ألف عام، ولهذا انطلق في حربه الكونية للسيطرة على أوروبا أول الأمر، وتالياً العالم برمته.

تظهر السجلات التاريخية أن القبائل الجرمانية تنحدر من الهندو أوروبيين الذين هاجروا من الأراضي في جميع أنحاء البحر الأسود أو بحر قزوين إلى شمال أوروبا وبالتحديد في ألمانيا وفرنسا.

والتاريخ يكشف بوضوح أن القبائل الجرمانية استوعبت الطرق الرومانية في بناء الإمبراطورية وسارت على دربها، ولهذا فإنه بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الأولى، ولد الرايخ الأول في عهد الإمبراطور شارلمان، والثاني في زمن القائد بسمارك، وضاع الثالث في عصر هتلر، فهل يولد الرايخ الرابع الآن؟

رايخ اقتصادي أم سياسي؟

لعل السؤال المثير للتفكر، هل نحن بصدد رايخ اقتصادي ألماني، أم توجه سياسي لن ينفك أن يضحى عسكرياً للإمبراطورية الألمانية الرابعة؟

الجواب عبر التاريخ هو أن القوة الاقتصادية والوفرة والغنى عادة ما تولد الرغبة الدفينة في الهيمنة العسكرية، ويمكن أيضاً تفسير المشهد بأنه حماية للمصالح الاقتصادية في الداخل والخارج.

في مقال "سيتنيكوف" إشارة إلى الرايخ الرابع الألماني في شقه الاقتصادي، إذ يشير إلى موافقة البنك المركزي الأوروبي على نقل وثائق مهمة إلى السلطات الألمانية حتى تتمكن من تحديد الطبيعة النسبية لبرامجها في شراء الأصول، الأمر الذي اعتبرته وسائل الإعلام الأوروبية إجراء غير مسبوق في تاريخ أوروبا الموحدة الحديثة، وقد شبه المشهد كما لو أن حاكم إقليم روسي يريد إجراء مراجعة لعمل البنك المركزي الروسي بجهود خبرائه الإقليميين.

يتساءل المراقبون في الداخل الأوروبي اليوم، هل انحنى البنك المركزي الأوروبي أمام ألمانيا، وهل يشي الأمر بتوازنات جديدة في القارة الأوروبية تجعل من ألمانيا القاطرة التي تجر جميع بلدان أوروبا القديمة وراءها؟

يدرك الأوروبيون أن المشهد على هذا النحو قد يعني في القريب العاجل أن يجد الأوروبيون أنفسهم أمام الرايخ الرابع، ولو من المنظور الاقتصادي على الأقل، لا سيما بعد أن وسعت ألمانيا سلطة قانونها لتشمل الاتحاد الأوروبي برمته، وجعل البرلمان والحكومة الألمانية على الحق في إخضاع البنك المركزي الأوروبي لسيطرتها.

والشاهد، أن القرار الذي ستتخذه ألمانيا هذا الشهر بشأن البنك المركزي الأوروبي، سيكون تأثيره حاسماً لا سيما على صعيد العلاقة بين عملتي الأطلسي القويتين، اليورو في أوروبا والدولار في الولايات المتحدة.

هنا من اليسير استشراف المشهد، ذلك أنه إذا ما قامت ألمانيا بإلزام البنك المركزي الأوروبي بإعلام السلطات الألمانية في المستقبل بما يقوم به، وتنسيق قضية المال مع البوندسبنك، فساعتها يتوقع الجميع أن "الرايخ الرابع" قريب جداً، وسيكون المشهد أبعد مما تتصور بقية الدول الأوروبية، إذ لن تكتفي ألمانيا بهيمنة اقتصادياتها على بقية اقتصاد أوروبا، وإنما ستقوم بإخضاع آلية طباعة اليورو لنواب البوندستاغ والمستشار الفيدرالي.

هل قوة اليورو يمكن أن تكون خصماً من عظمة الدولار، تلك العملة الخضراء التي من خلالها سيطرت الولايات المتحدة الأميركية على مقدرات الاقتصاد العالمي بعد الحرب الكونية الثانية وتخليق نظام "بريتوون وودز"، وحيازة مقدرات البنك والصندوق الدوليين، بقيامهما على أراضيها، أي نشوء وارتقاء الرايخ مقابل أميركا المنقسمة؟

مخاوف واشنطن من الرايخ الرابع

يمكن القطع بأن صحوة ألمانيا لا تسبب للأوروبيين فقط مخاوف من تكرار الماضي، بل للأميركيين كذلك، لا سيما أن قوة اليورو سوف تنتزع الكثير من هيمنة الدولار، والذي بات يلقى عداوة كبرى من قوى كثيرة حول الكرة الأرضية، لا سيما في الجانب الآسيوي، بسبب العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن على من يخالف رؤاها أو توجهاتها السياسية.

قبل بضعة أعوام، وفي زمن باراك أوباما، اكتشف الألمان أن الأميركيين لديهم برامج تجسس خاصة موجهة إلى ألمانيا، جلها يسعى في طريق معرفة خطوط الطول والعرض لصحوة ألمانيا اقتصادياً، وبلغ الأمر مفاجأة كبرى، إذ أدرك خبراء ألمانيا في علوم الجاسوسية أن هاتف المستشارة ميركل خضع لاختراق من خلال برنامج أطلق عليه اسم "بريزم".

ولعل سنوات دونالد ترمب في البيت الأبيض قد أظهرت أن هناك توجساً خفياً حقيقياً من كل نهضة ألمانية، في الماضي والحاضر، ولهذا سعى الرئيس الأميركي إلى تكبيل ألمانيا بالمزيد من القيود الاقتصادية، ووصل به التفكير إلى توقيع عقوبات مقنعة في صورة جمارك على الألمان، ناهيك عن مطالبته التي لا تنتهي ليل نهار في شأن زيادة حصص مساهمة ألمانيا وبقية الدول الأوروبية في الإنفاق على الناتو، وأخيراً قيام واشنطن بالإعلان رسمياً عن سحب بضعة آلاف من الجنود الأميركيين من الأراضي الألمانية بذريعة مواجهة روسيا في مواضع أخرى من أوروبا.

 لقد أدرك الأميركيون في العقود الثلاثة التي أعقبت انهيار جدار برلين أن ألمانيا غير منشغلة بسباق تطوير الأسلحة أو الإنفاق على ترسانتها العسكرية، كما تفعل واشنطن التي دخلت في المرحلة المعروفة تاريخياً بـ"فرط الامتداد الإمبراطوري".

عوضاً عن ذلك انشغل الألمان بالصناعة والتجارة، ركيزتي الاقتصاد الرئيستين، ولهذا أطلق على ألمانيا اليوم لقب "مغناطيس الاقتصاد الاستثماري"، كما أن البيانات الإحصائية التي قامت بها غرفة التجارة الأميركية في ألمانيا، أخيراً، تشير إلى أن الشركات الأميركية باتت تعتبر ألمانيا أكثر مواقع الأعمال جاذبية في أوروبا.

قبل بضعة أعوام اشتعلت معركة بين الجانبين الأميركي والألماني معاً، حول المخزون الألماني من سبائك الذهب، والقابعة في مخازن البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وتبلغ قيمتها اليوم وبأسعار الذهب الصارخة نحو "تريليون دولار" أو أكثر.

قبل أعوام كان البنك المركزي الألماني يعجز عن استرجاع هذا الاحتياطي الذهبي، بل ويفاوض لأجل تفقده مرة واحدة كل سنة، الأمر الذي دعا نوبار بارثلي المتحدث باسم البرلمان الألماني وقتها للتصريح بالقول "أنا لا أفهم عدم السماح لنا بتفقد ذهبنا، ولا أتبنى نظرية المؤامرة، ولكن ينبغي أن يكون للبنك المركزي الألماني، القدرة على تدقيق الذهب مرة واحدة في السنة، كما يفعل مع احتياطياته في فرانكفورت".

كانت المعركة الألمانية ـ الأميركية، حول الاحتياطيات الذهبية مدعاة لقلق كثير من دول العالم على أرصدتها الذهبية والبنكنوتية في الداخل الأميركي.

واليوم تجيء مقررات ألمانيا الاقتصادية لتقوية اليورو، وتعزيز سيطرة أوروبا، لتضع واشنطن أمام لحظة قلق، وإن لم تكن مصيرية، لكنها ستشكل ضربة مطرقة ثقيلة لاقتصاد الولايات المتحدة، ذاك الذي يعاني من أزمات متتالية في العام الأخير، من جراء تفشي فيروس كوفيد – 19 المستجد من جهة، والانقسام والتشظي في النسيج المجتمعي ما بين الأميركيين من أصول إفريقية، والأميركيين الأنجلو ساكسون من ناحية ثانية، وبينهما إدارة سياسية فراقية وليست وفاقية، وانتخابات رئاسية يخشى من استحقاقاتها القاصي والداني، وأحاديث عن طبع أوراق جديدة من الدولار الأميركي من غير أي أرصدة حقيقية، الأمر الذي يهدد بالمزيد من التضخم في الداخل من جهة، وباهتزاز عرش الدولار حول العالم من الناحية المقابلة... هل العامل الاقتصادي هو المدخل المتوقع للرايخ الرابع من الجانب السياسي؟

أوروبا أوروبية أم ألمانية؟

يبدو هذا هو السؤال الذي يشاغل عقول الإنتلجنسيا الأوروبية، لا سيما بعد أن أخذت المكتبات الأوروبية تعرف مؤلفات تتحدث عن "الرايخ الرابع" في طبعته السياسية ونزعته النازية العسكرية، وليس الاقتصادية فحسب، ومنها المؤلف الذي يحمل عنوان "الرايخ الرابع" وصاحباه هما الصحافيان المعروفان فيتوريو فيلتري، وهو من أنصار اليمين المتطرف، وكانت آراؤه وراء دخوله المحاكم أكثر من مرة، والثاني، جينارو سانغولياني، المشابه له في النسق الفكري.

التساؤل الرئيس في هذا الكتاب كان يدور حول ما تقوم به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهل تعمل من أجل صالح ومصالح "أوروبا الأوروبية" أم "أوروبا الألمانية" الأمر الذي يقود في نهاية المشهد إلى مولد "الإمبراطورية الألمانية الرابع" أو "الرايخ الرابع" الذي نحن في سبيله؟

ولعل هذا التساؤل قد ذكر الأوروبيين، وربما الأميركيين أيضاً بعمق الإشكال الذي تحدث عنه "توماس مان" الكاتب الألماني الجنسية الذي تساءل عن المستقبل الأوروبي، وهل سيمنح الأوروبيين "أوروبا ألمانية أم ألمانيا أوروبية؟"

تحليل ما جاء في سطور الكتاب يوضح بجلاء أن ألمانيا وطوال القرن العشرين كان هدفها الواضح هو الهيمنة على مقدرات أوروبا، وما لم تنجح في تحقيقه بقوة السلاح، عمدت إلى بلوغه عبر تصدير فكرة "القوة المسالمة"، وبغية تحقيق ذلك الطموح، مضت عبر السيطرة على العملة الأوروبية الموحدة، وجعل مقدرات اقتصاد الأوروبيين بين يديها وليس بيد أحد غيرها.

إنها إذن "إرادة الهيمنة المقنعة" التي تنزلق بعيداً عن أبسط قواعد الديمقراطية، وحيث لا ضامن أن يقود المشهد إلى مولد "نازية جديدة"، لم تعد تداري أو تواري وجهها، ضمن الصفوف الرسمية مرة، كما الحال مع حزب البديل من أجل ألمانيا والذي حاز على نحو مائة مقعد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أو من خلال صفوف الحركات العنصرية مثل "بغيدا"، والنازيون الجدد، مرة أخرى... هل بات الرايخ الرابع بالنسبة للأوروبيين، وكما يقال، قدراً مقدوراً في زمن منظور؟

المؤكد أن الأوروبيين لا ينكرون إعجابهم الذي يصل إلى حد الاندهاش من القدرة الألمانية على الصعود من القاع إلى القمة، فقد عانت ألمانيا من مرارة الهزيمة في حربين عالميتين، ومع ذلك استطاعت بعد سقوط سور برلين، واستيعابها الكامل لدولة ألمانيا الشرقية بكامل سكانها، ودمجها في تعداد شعبها، أن تعيد تجميع إرادة الأمة الألمانية، وتضعها في مصاف الدول الكبرى.

غير أن المخاوف من أن يكون الرايخ الرابع بمذاق النازية الحديثة، وهنا يضحى الرايخ الرابع هولاً جديداً لأوروبا والعالم، قائماً وقادماً... ماذا عن ذلك؟

النازية ومستقبل الرايخ الرابع

الذين لديهم علم من كتاب وأفكار أصحاب الرايخ الرابع من النازيين الجدد، يدركون أبعاد الكارثة التي يمكن أن تضرب أوروبا والعالم، إن تحول الأمر من مجرد كابوس في ليلة صيف حارة، إلى واقع حي، في نهار مشمس دافئ جميل.

ملامح الرايخ الرابع عند النازيين الجدد، تتمحور من جديد حول تميز العرق الآري، وتحمل في طياتها دعوات معاداة السامية من جديد، الأمر الذي يجعل يهود أوروبا يعانون من حالة خوف وقلق مستقبليين بنوع خاص.

يؤمن النازيون الجدد كذلك بمفهوم "الليبنسراوم"، وهي كلمة ألمانية ترجمتها الحرفية تعني "أماكن إعاشة"، وتعد واحدة من كبرى سياسات الإبادة الجماعية التي أنتجها هتلر، ومكوناً رئيساً للإيديولوجية النازية، كما ساعدت على إيجاد الدوافع المطلوبة لاستمرار السياسات التوسعية لألمانيا النازية، والتي تهدف لإيجاد مساحة أكبر من الأراضي بغرض استيعاب النمو السكاني الألماني لألمانيا الكبرى.

يؤمن النازيون الجدد بالسياسات العسكرية العنيفة والشمولية، كما يعتقدون أنه لكي يقوم الرايخ الرابع فإنه على ألمانيا أن تستحوذ على الأسلحة النووية، وليس سراً أن ألمانيا لديها المعرفة العلمية الضرورية للحصول على السلاح الذري، كما أنها صممت مصانعها لتكون جاهزة للتحول من الأغراض الاقتصادية – الصناعية، إلى الإنتاج الحربي والعسكري، ولا تحتاج لأكثر من ستة أشهر للحصول على قنبلتها النووية، كما الحال مع اليابان، حتى لو كانت تفضل أدوات الردع النقدي لا النووي حتى الساعة.

النازيون الجدد يعتقدون أنه على الألمان استخدام الابتزاز النووي لإعادة توسيع حدود ألمانيا السابقة، أي ما قبل عام 1937.

في هذا السياق لا بد للمرء من أن يتوقف مع الأفكار والإيديولوجيات التي أفرخت ظاهرة النازيين الجدد، ودعوات الرايخ الرابع.

في أوائل التسعينيات كان اليميني البريطاني الأصل ديفيد ميات يقوم بتوزيع منشورات تحمل ملامح الرايخ الرابع، ملامح كارثية لا شك في ذلك، وعنده أن مولد هذا الرايخ سيمهد الطريق لتأسيس "الإمبريوم الغربي"، وكلمة "الإمبريوم" لاتينية قديمة تعني "السيطرة والقيادة"، والذي سيشابه إمبراطورية عالمية جديدة تجمع الشعوب الآرية حول العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عن حركة مواطن الرايخ

السؤال الرئيس والذي ينبغي التوقف أمامه هل تحولت أفكار وتنظيرات جماعة الرايخ الرابع إلى حركة على الأرض؟

يبدو أن هذه هي الكارثة وليس الحادثة، فالأفكار حين تتجاوز عتبات التنظير والأدلجة إلى الواقع على الأرض، يصعب معها إعادة التاريخ إلى الوراء، وتضحى بقوة الطبيعة، وحركة الأشياء، أمراً يفرض نفسه بالقسوة أو اللين، حسبما تسمح الظروف.

هنا يمكن الإشارة إلى أن أفكار الرايخ الرابع، قد وجدت لها إطاراً تنظيمياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، وإن اكتسبت حضوراً قوياً في الألفية الثالثة ومارس أنصارها العنف بشكل ملفت للنظر بدءاً من عام 2016، مما جعل السلطات الأمنية الألمانية، تغير نظرتها إليهم، وتصفهم بالخطر الذي يهدد أمن البلاد.

أحد تقارير المكتب الاتحادي للجريمة في ألمانيا والصادر في 23 يوليو (تموز) عام 2017 يشير إلى وجود تهديد كبير على الدولة من قبل أعضاء حركة مواطني الإمبراطورية الألمانية أو "مواطني الرايخ الألماني"، لا سيما وأنهم لا يعترفون بمؤسسات الدولة، ومستعدون لممارسة العنف المفرط الذي يصل إلى حد تنفيذ عمليات إرهابية.

تتبنى حركة "مواطني الرايخ"، أطروحات تعتبر وجود ألمانيا الحالي غير شرعي، وترى بالدولة القائمة شركة مساهمة محدودة تديرها الجماعات السرية الماسونية واللوبيات والمجموعات العالمية، وتعتقد أن المواطنين الألمان هم مجرد موظفين في هذه الشركة، وأن ألمانيا دولة محتلة، ودستورها غير صالح لأنه أملي من الحلفاء المنتصرين بالحرب العالمية الثانية، من غير إجراء استفتاء شعبي عليه.

لا يؤمن "أنصار الرايخ" الرابع بفكرة أن ألمانيا الحالية دولة ديمقراطية، على الرغم من أن كبار رجالات القانون الألمان يرفضون فكرة "ألمانيا المحتلة"، ويعتبرون أن البلاد تخلصت من هذه الصفة في اتفاقية عام 1955، كما أن واقع الحال يخبرنا بأن هيمنة الحلفاء على القرارات المهمة فوق الأراضي الألمانية انتهت بخروجهم منها عام 1991 وفق معاهدة 2 + 4 التي تأسست لتوحيد الألمانيين، ووقعتها ألمانيا الغربية، وألمانيا الديمقراطية، والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا وفرنسا.

هل من خلاصة؟ يحتاج الحديث عن النازيين الجدد، ومواطني حركة الرايخ الرابع، إلى أحاديث معمقة ومطولة، وإلى تحليلات اجتماعية وفلسفية تخبرنا عن السر وراء نهضة هذه الأفكار من جديد، وهل هي رغبة الثأر من الذين أذلوا ألمانيا من قبل في حربين عالميتين، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، فقد كانت اتفاقية فرساي المجحفة، أحد الأسباب الرئيسة في اندلاع الحرب العالمية الثانية.

غير أن المؤكد في واقعنا المعاصر أن ألمانيا وعبر "رأس المال" المسيطر على القارة الأوروبية، باتت تمثل علامة مثيرة في سطوتها وقدرتها، وينتظر العالم هذه الأيام مآلات قراراتها الاقتصادية، ليقطع الجميع بما إذا كان الرايخ الرابع على الأبواب بالفعل أم لا.

في كل الأحوال سيضاف صوت "الرايخ الرابع"، إلى بقية أصوات اليمين المتشدد إلى حد المتطرف، وسيزخم مجرد الحديث عنه، نشوء وارتقاء أصوليات أخرى، شرقاً وغرباً، وعلى صعيد  مختلف الأمم والأديان، مما يعني أن عالم ديمقراطيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، مهدد بقوة في وجوده ومستقبله، وبخاصة  في ظل الفراغ الاستراتيجي الأممي الحادث في حاضرات أيامنا، والتحركات المثيرة لجيوسياسة العالم، والضباب المختلف الألوان الإيديولوجية الذي يخيم عليه.

هل هي أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية تعود من جديد؟ مهما يكن من أمر الجواب، فإن ألمانيا ستكون شريكاً رئيساً في رسم معالم وملامح العقود المقبلة، سواء أستعلن "الرايخ الرابع" أو لم يفعل.

اقرأ المزيد

المزيد من دوليات