Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيروت تحتضن كل شباب لبنان في ورشة إزالة الدمار

شارعا الجميزة ومار مخايل من المعالم الأثرية وأدمى دمارهما قلوب أهل بيروت والسياح

محيط مرفأ بيروت وشارعا الجميّزة ومار مخايل تحولت شبه أطلال وذكريات لا تموت (أ ف ب)

مشاهدة ما أصاب الأحياء السكنية المحيطة بمرفأ بيروت من دمار عبر شاشات التلفزيون، يبقينا على مسافة من الحدث. نرى الدمار المادي في الأبنية وشرفاتها وغرفها التي باتت مفتوحة على الخارج ودمار المحال والأرصفة، لكننا لا نلمسه، التلفزيون يرينا المشهد كما هو، وكما يريده المصوّر أو المراسل، ويثير عاطفتنا تجاه ما نراه على وجوه الناس المنكوبين، لكنه لا يمنحنا الشعور نفسه حين نكون في المكان المدمّر، نمشي بين الأنقاض التي يجمعها الشبان والشابات المتطوعون على زوايا الشوارع، وننظر مباشرة في عيون السكان، وفي وجوههم التي تشي في اليوم الثالث على وقوع الانفجار، وكأنها تحمل خليطاً من الصدمة وعدم التصديق، ومن الذهول تجاه حجم الكارثة وهولها.

السكّان الذين عادوا إلى حيي الجميّزة ومار مخايل الواقعين مباشرة في الجهة الشرقية من المرفأ، تراهم يتحرّكون بين الأنقاض من دون أن تتمكّن من تحديد ما يفعلونه فعلاً، ففي المحال التجارية الواقعة مباشرة على الطريق، يتحرّك فيها أصحابها والعاملون فيها ذاهبين آيبين فيها وكأنهم لا يعرفون تماماً من أين يبدأون، هل عليهم بدء إزالة الركام أو جمع البضائع التي ما زالت صالحة، أم فقط عليهم التأمل بما آلت إليه أوضاعهم؟ بعدما كانت على شفير الهاوية، بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عانوها قبل أن يأتي كورونا، ليدفع هذه الأزمة إلى أقصاها، وليأتي انفجار المرفأ ليدفعها إلى الهاوية، يقول صاحب إحدى الحانات التي تحطّم كل شيء فيها "بعد الآن لا يمكننا القول إننا على شفير الهاوية. هذه العبارة التي نستعملها كلما حلّت أزمة ببلادنا. نحن الآن في الهاوية، وانتهى".

العمران التراثي البيروتي

في السنوات الأولى من هذا القرن، قررت وزارة الثقافة اللبنانية الحفاظ على العمران التراثي البيروتي، تحت ضغط الجمعيات البيئية والهندسية ومؤسسات دولية، خصوصاً أن بيروت خلال إعادة الأعمار وارتفاع أسعار العقارات شهدت طفرة في انتشار الأبنية العمودية الحديثة والشاهقة، التي غالباً ما كانت تبنى مكان أبنية بيروتية قديمة وتراثية يبيعها أصحابها، بسبب السعر الكبير المغري مقابلها، فيقوم الشاري بتهديمها ليبني مكانها بناية جديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان لشارعي الجميّزة ومار مخايل المتصلين حصة الأسد في تحديدهما كحييّن "ذي طابع تراثي"، وهما كذلك فعلاً، فمعظم أبنية الشارعين بُنيت خلال الانتداب الفرنسي، ولا تزيد على الطوابق الثلاثة، وتتميز بواجهاتها المفتوحة بشبابيك كبيرة مطلة على الشارع، وبقناطر الشرفات، وبحديد أسيجة الشرفات والنوافذ المشغول بأشكال فنية، وانتقلت ملكية هذه البيوت من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء الذين جددوها، وأعادوا طلاءها بلوّن موحّد في الشارعين، ما أعاد إليهما رونقهما.

وبعد سنوات، راح الحيّان يرثان حياة السهر من وسط بيروت المقفل ومن شارع مونو الذي ازدهر سهراً واستقبالاً للسياح في العقد الأخير من القرن العشرين، فانتشرت حانات السهر الليلي على طول الشارعين، واستقبلت هذه الحانات رواداً جدداً، فتبدّلت أحوال الشارعين من كونهما سوقين تجاريتين لعمّال المرفأ ولسكان الحي التي كانت تقتصر حياتهم على التبضّع منه والتمشي مساء فيه، وتبادل الزيارات كما هي حال الأحياء القديمة، ليصبحا مكاناً لسهر الشبان والشابات من مختلف الأعمار والطبقات، يأتون إليهما من مختلف الأحياء البيروتية وضواحيها، يختلطون بالسياح الأجانب الذين سكنوا في هذا الحي، وعايشوا حياة السهر فيه.

بين الترميم والبناء

ما فعله انفجار المرفأ هو تحطيمه صورتي الشارعين اللتين تميزهما، أي أنهما تراثيان وموئل للسهر، فقد أخرج الانفجار الهائل أمعاء البيوت والحانات إلى الشوارع، والبيوت التي كانت تحتاج قبل الانفجار إلى ترميم عادي يجري بشكل دوري على البيوت القديمة، ما عاد بالإمكان ترميم كثير منها، لأن تكلفة الترميم ستكون أكبر من تكلفة إعادة البناء، حسب ما أخبرنا أحد المهندسين الذي كنا قد التقيناه في الشارع، وقال إنه سيكون من الصعب على أصحاب المنازل والمحال إعادة بنائها من دون دعم مالي كبير، وكما نعلم أن المصارف اللبنانية ومصرف الإسكان والدولة اللبنانية بحدّ ذاتها غير قادرة على تقديم هذا الدعم، لذا فإنّ ما يثير الخوف في هذه الحالة هو أن تترك هذه الأبنية على حالها فترات طويلة قبل ترميمها، لأن هذا الأمر سيصيب قلب بيروت بالعطب، لأنّ هذين الشارعين جزءٌ رئيسٌ من قلب بيروت النابض.

 الكسندرا

الطفلة الكساندرا نجار، صارت ملاكاً في السماء بعدما أخذها هدير الانفجار وموجته من هذه الحياة، كثيرون هم من يعرفون الكساندرا "المهضومة" التي كانت تشارك في كل التظاهرات التي جرت في ساحة الشهداء حاملة العلم اللبناني، وعلى خديها رسم للعلم اللبناني، وكانت تردد في تلك التظاهرات شعارات تطالب بالحرية والاستقلال، وتطالب السلطة بالرحيل وتصرخ بشعار ثورة الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) "كلن يعني كلن".

ربما كان أهلها قد شرحوا لها معنى هذه الشعارات بطريقة طفولية ما، وربما فهمت أو لم تفهم ما شرحوه لها، لكنها بالتأكيد كانت تعرف أن مشاركتها في هذه التظاهرات الملوّنة بالأحمر والأبيض والأخضر وهي ألوان العلم اللبناني، هي مشاركة لأجل مستقبل أفضل، ولكي تتمكّن من البقاء في وطنها، ولا تضطر إلى الهجرة بمجرد تخرجّها في الجامعة، بسبب البطالة والأزمات المتتالية بأشكالها كافة، التي لا تكفّ عن هذه البلاد، وكأنها جزء من مصائرها.

بالتأكيد، كانت الكساندرا تعرف أن تجمّع كل هؤلاء الناس والأطفال الذين بعمرها أو أصغر منها أو أكبر منها، الذين يحملون العلم اللبناني، ويهتفون ملء حناجرهم بصرخات تجعلهم متحمسين وفرحين ومزهوين بما يقومون به، فتنتقل العدوى إليها وإلى أقرانها، فتفرح وتتحمّس وتزهو بفعلها كما هي حال أهلها، وكل مَن كان حولها في التظاهرة.

لكن، الكساندرا ما كانت لتعرف، لا هي ولا أهلها التعساء بمصابهم، أنها ستقتل بينما هي نائمة في غرفتها، أن يأتيها الموت على غير موعد ولا سبب، سوى أنها نائمة ببراءة تحلم بمستقبل أفضل لها ولأهلها جميعاً.

المتطوعون

مشهد الشبان والشابات المتطوعين والمتطوعات بإزالة الركام في شارعي الجميّزة ومار مخايل، يبعث على الاطمئنان، وعلى الشعور بالحماسة لمشاركتهم العمل.

جمع الشباب بعضهم بعضاً في أحيائهم وقراهم ومدنهم، وقَدِموا إلى بيروت، ليساعدوا أهلها بالخروج من تحت الردم والأنقاض، توزّعوا في مجموعات على طول المسافة المتضررة والمقابلة للمرفأ، في الأحياء الداخلية لبيروت التي لم يسلم فيها منزل من تكسّر زجاجه على الأقل، كانوا يجمعون الأنقاض بهدوء وترو علّهم يجدون بينها ألبوم صور قديماً يحفظ ذكريات أصحاب هذا المنزل، أو قطعة حميمية صغيرة لأصحاب ذاك المنزل، كانوا يبحثون بين الأنقاض عمّا بقي على قيد الحياة من الأشياء أكثر مما كانوا يبحثون عما تدّمر منها.

أحد الشبان اليافعين قال لنا إنه يعمل على التنظيف كما لو أنّ بيته الذي تدمّر أو تضرر، كما لو أن هذه الأغراض المرمية هنا وهناك، هي له ولعائلته، قاطعته إحدى الصبايا قائلة، "لقد احتضننا هذا الشارع في حفلاتنا وأوقات لهونا ومرحنا مع أصدقائنا، فلن نتركه حين (جرحه) الانفجار"، وأكملت، "أقول (جرحه)، لأنه لن يموت، ولن نتركه يموت، لا هذا الشارع، ولا أي مكان في بيروت، لأن بيروت لا تموت، همست بينما غصة كبيرة تقبع في مجراها التنفسي".

المزيد من العالم العربي