Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كُرسي الرئاسة

من الرواية إلى الواقع!

كيف لبلد نفطي مثل فنزويلا أن تنقطع فيه الكهرباء؟ (رويترز)

الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس يبدأ روايته "اليوم وللمرة الأولى انتصرت المبادئ، ربما كهدية للجماهير المضطربة. في مناسبة حلول عام 2020 الجديد قرر الرئيس أن يقدم شيئاً من الرضا الأخلاقي، ففي الرسالة التي وجهها إلى الكونغرس دعا إلى انسحاب قوات الاحتلال الأميركية من كولومبيا، وإلى وقف تصدير النفط المكسيكي إلى الولايات المتحدة. وترتب على ذلك أن نُظم الاتصالات في البلد قد قُطعت مع سائر أرجاء العالم، وأصبحوا بدون فاكسات أو بريد إلكتروني أو إنترنت أو خدمة هاتف، ولم يعد لديهم سوى شكلين من أشكال الاتصال المتاحة الآن، الشفهية والرسائل، وسرعان ما يبرز المتنافسون الذين يسعون للاستيلاء على السلطة من خلال الرسائل التي يتبادلونها".

هذا الحدث بنى عليه الروائي المكسيكي روايته التي تقع أحداثها عام 2020م، وكان كتب ذلك قبل نحو العقدين من أحداث الرواية، ولقد اعتقد- في ظني- أنه يتخيل ما سيحدث في ألفية مقبلة، ولم تُكذبْ مخياله الأحداث التي قدمت الحدث سنة فقط عن حدث الرواية عام 2020م، وفي بلاد أُخرى غير المكسيك بلاد الرواية، فالحدث المتخيل وقع حقيقة عام 2019م في فنزويلا التي للروائي معها علاقة شائكة، ففوينتيس صاحب المواقف السياسية الصاخبة، أصدر كتاباً بعنوان "ضد بوش"، ولم يوجه مواقفه باتجاه واحد في ما يخص المسألة الفنزولية، قد أعرب عن أمله، مثلا، في رؤية حكومتين ديمقراطيتين في واشنطن وكاراكاس، وأكد أنه لا يؤيد "لا بوش ولا شافيز لا إمبريالية اليانكي ولا الاستبداد الاستوائي، تستحق القارة الأميركية ما هو أفضل". ورد على هجمات سفير فنزويلا التي اتهمه فيها بالعنصرية تجاه الرئيس هوغو شافيز قائلا "إن السفير مهرّج لدى المهرّج ولا يميز بين حرية الكاتب ووقار السفير".

والملاحظ أن التاريخ الذي تصوره كارلوس فوينتيس لأحداث روايته (كرسي الرئاسة) 2020م، سيكون العام المثال لوضع تصورات في التنمية وتطور المجتمعات في العديد من البلدان، ومن ضمن هذه البلدان ليبيا، حيث قام مركز بحثي في عهد القذافي بوضع كتاب شارك فيه جمع من البحاثة عن (ليبيا 2020). لكن الفارق بين مخيلة الروائي وتصورات الباحثين أن فوينتيس توقع الكارثة في هذا العام المنظور، فيما الباحث اعتقد أو أمل التنمية المستدامة.

من المكسيك إلى فنزويلا!

لم ينجح ترمب حتى الآن في وضع سوره حول المكسيك، لكن الرئيس نيكولاس مادورو يرى أنه نجح في فنزويلا بقطع التيار الكهربائي الذي بدأ في 7 مارس (آذار) 2019م على البلاد بأكملها لمدة ستة أيام تقريباً، والذي يرجعه خصمه الرئيس الآخر لفنزويلا! خوان غوايدو لإهمال الدولة، منذ نجاح الحزب الاشتراكي الموحد الفنزويلي في الوصول إلى السلطة!

المهم أن هناك من استطاع أن يجعل بلادا كفنزويلا تغص بالنفط تغص في ظلام دامس، ما مخيلة الروائي ترجعه إلى عامل خارجي مأتاه صراع داخلي على السلطة، أما الواقع فلا يخالف ما جاء في رواية "كرسي الرئاسة"، الذي هو محط المشكل الرئيس في بلاد استقل منذ عام 1811م، ويغص حتى الساعة في هذا الكرسي، ما لم ينجح صندوق الاقتراع في أن يجعله مسألة ديمقراطية، بل إن صندوق الاقتراع كالصندوق المسحور في قصص ألف ليلة وليلة أو صندوق باندورا في الأساطير اليونانية، تنبثق عنه الكوارث.

"المسألة الفنزويلية" كما الأيقونة الساعة لمسألة "كرسي الرئاسة" التي في الرواية تتحول بعد انقطاع الاتصالات إلى مسألة شائكة تدور في الظلام رغم "أنوار" الصندوق السحري، ويتضافر فيها العامل الخارجي والعامل الداخلي حتى لا يبان الخيط الأبيض من الأسود!، فالمسألة الفنزويلية تضع على المحك مسألة بدأت فيما سبق أنها جلية أي مسألة السيادة الوطنية، في حين أن الإشكال الفنزويلي يبين أنها مسألة شائكة منذ ظهور الدولة الوطنية والامبريالية متزامنين، حيث "كرسي الرئاسة" يتجلى بصندوق الاقتراع في المسألة الفنزويلية كمسألة إمبريالية أيضا.

الحقيقة الدامغة أن من ليس بمستطاعه أن يحافظ على (إنارة) ليله ليس بمكنته ادعاء تحقيق (الأنوار) في بلده، حتى ولو كان صراطه صندوق الاقتراع. عام 1973م اتخذ سلفادور الليندي هذا الصراط طريقة ودافع عن (كرسي الرئاسة)- ما حصل عليه بالصندوق- ببندقية، في مواجهة الإمبريالية وأداتها دبابة بينوشيت، ولم ينجح بالطبع في الحفاظ على الاستقلال الذي ناله بالديمقراطية، منذئذ وضحت العلاقة الشائكة فما بالك ما بعد العولمة وعصر الإنترنت.

الدرس الصعب والعصيب أن العدو لا يخون، وبالتالي فإن كارلوس فوينتيس صاغ المسألة بأن الموقف الثوري لا يعني نكران الواقع والقرقعة الفارغة، وكتب روايته عن 2020 في المكسيك، كمحصلة لتشابك العلائق بين الداخل والخارج، الذي بات داخلا في النخاع عبر شبكة عنكبوتيه كما الأكسجين!، وفي هكذا عالم تجلى الأمر أن السيادة الوطنية هي تحقيق التوازن الممكن مجتمعيا، فتحققه مع الإقليم والدولي ودون ذاك حرب طواحين هواء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"كرسي الرئاسة" رواية كارلوس فوينتيس (1928-2012 م) نقلها إلى العربية خالد الجبيلي، وصدرت عام 2009م عن"رؤية للدراسات والنشر والتوزيع" (القاهرة) و"دار كنعان" (دمشق).

المزيد من آراء