Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحكواتي السوري" سمير طحان يرى بالعين الثالثة!

لا يمر الحوار معه مروراً عابراً لأنه ليس شخصاً عادياً بل قامة أدبية وإنسانية تحمل في طياتها كمّاً من الطاقة والإبداع

الكاتب سمير طحان في غرفة المطالعة (اندبندنت عربية)

لم تكن حادثة انفجار لغم في وجه سمير طحان في العام 1970 على جبهة الجولان، جنوب سوريا، حين كان يُدرب فدائيين على زراعة الألغام، التي أدّت إلى تقطيع أوصاله واطفأت النور في عينيه تدريجياً، هي النهاية، فكانت البصيرة عينه الثالثة. وساعدت روحه الدمثة في خلق أدب فريد من نوعه يضاف إلى المكتبة العربية، ملؤه الشغف والوجدان ويقترب من القلوب والأفئدة بأحرفٍ وكلمات تنتمي إلى السهل الممتنع وتأخذ بُعداً فلسفياً أحياناً.

 
منبع الإلهام
 
تستهويك اللوحات المتناثرة على الحائط في غرفة مطالعته، حيث يعكف على الاستماع إلى أشرطة وتسجيلات. وتجوب عيناك مدققتين في لوحات عُلّقت بشكل منظم، مغطيةً جدران الغرفة برسوم خطها بفمه ورسغه، ولوحاتٍ لفنانين عبّروا عن محبتهم وتقديرهم لمبدع سوري فريد. وكأن الغرفة تحولت صالةً من صالات عرض لوحات الفن التشكيلي.
وعلى المنضدة الكبيرة التي تتناثر فوقها لوحات وأوراق، هاتف لا ينقطع عن الرنين من طلابٍ وباحثين وأصدقاء، لا يتوانى عن تقديم المساعدة والنصيحة لهم. يُغِلق بخفة سماعة الهاتف التي أمسكها برسغيه ومع ما تبقى من يديه بعد مكالمة طويلة مع طالب يتهيأ لمناقشة رسالة جامعية، ثم يشيح بوجهه نحوي قائلاً "إني أقدم بعض النصائح في بحث عن فلسفة الألوان".
 
 
حارس الكآبة
 
حوارك مع سمير طحان لا يمكن أن يكون عابراً لأنه ليس شخصاً عادياً، بل قامة أدبية وإنسانية تحمل في طياتها كمّاً من الطاقة والإبداع. لم يحظ بالاهتمام الكافي محلياً، ففضّل العيش في فرنسا كعصفورٍ جريح مهاجر من مدينة حلب، شمال سوريا التي عاش في ربوعها أجمل أيامه، ودفعته محبته لها إلى طباعة كتاب من 750 صفحة سماه "رزنامة حلب"، يروي فيه حكايا وقصصاً شعبية.
يندفع للكتابة عن نفسه كحارس جديد من "حراس الكآبة" وأحاله هوى الكتابة إلى أسمال ملونة تستند إلى عمود فقري متواضع، بكثير من الآهات واللعنات، وقليل من اللحم، يقول "انتهت علاقتي بالمكان لتبدأ علاقتي بالبشر والذاكرة، من المرئي إلى المتخيل".
الأديب أنطوان خباز، أحد أصدقاء سمير طحان، يقارنه بالشاعر خورخي لويس بورخيس، الذي لم تحتفِ به أوروبا ببردها وحرّها. إنه بورخس الأعمى، الأرجنتيني، ولكن الشاعر الأرجنتيني تميّز من الطحان بأن كانت يداه حاضرتين. غاب نظر سمير بفجيعة صالحت بين الليل والنهار ونقاط التشابه بين الرجلين كثيرة والأكثر منها نقاط الاختلاف.
يقول خباز "بينما يُسهب بورخيس في الحديث عن عماه لا يتحدث سمير إطلاقاً عن عماه ويشعرك بأنه عادي جداً ولا يتوقف عن ذكر عبارات مثل: قرأت اليوم قصيدة جميلة أو شاهدت البارحة فيلماً رائعاً".
 
الحصان المربوط
 
بهمة عالية عكف الأديب طحان، وهو ابن قرقيزيا البُصيرة، مصبّ الخابور في الفرات، شرق سوريا، على إنتاج سلسلة كتب شعرية وقصصية، وصبّ اهتمامه على الأدب الشعبي الشفوي لينتج كتاب "الحكواتي السوري"، مشجعاً من خلاله الناس على كتابة مذكراتهم اليومية ولو كانوا أشخاصاً عاديين.
يعتمد نظرية سماها "الحصان المربوط"، هي خلاصة نظرته إلى الحياة كشرطٍ للتقدم، فالإنسان كما يراه يشبه ذلك الحصان المربوط، ففي حالات كثيرة المسافة بينه وبين الوتد، هي كلمة لا أو مستحيل. ويقول "لا أستطيع العودة للرؤية في عيني الاثنتين لأنه يوجد فقدان مادي، وهذا لا يمنعني أن أفجّر عيني الثالثة عيني الداخلية ولديّ كتابٌ أسميته "العين الثالثة". كل ما هو ضمن حيّز القدرة الإنسانية، ممكن وكل ما هو خارج هذه القدرة لا نستطيع فعله لأننا لا نستطيع التحكم بالموت مثلاً".
يقول ذلك مُستذكراً كيف اندفع غاضباً يمزّق ما رسمه خلال رحلة علاجه في مستشفى في اسبانيا بعد سلسلة عمليات جراحية. وكان بدأ يرسم برسغَيْهِ وفمه، وهذا ما سبّب له إجهاداً، أدّى إلى شللٍ عارضٍ في عصب وجهه لكن راهبةً أنقذت 60 رسماً من رسومه ليقرر بعد ذلك تغيير نظرته إلى الحياة بتفجر طاقاته وتسخيرها لفنه.
 
 
تفجير الطاقات
 
ويلفت صاحب العين الثالثة النظر إلى أهمية أن يفجر الإنسان طاقاته الإبداعية الدفينة عبر ما سماه الـ "بارا بسيكولوجي" (ما وراء علم النفس). وهو علم يعرف كيف يمكن أن يفجّر الإنسان طاقته الداخلية لاستخدامها في حل المشاكل عبر الإبداع.
يسرد "الحكواتي السوري" كما يحلو له أن يطلق على نفسه، قصة حياته، ففي معهد "الأرض المقدَّسة" للآباء الفرنسيسكان في حلب، بدأ يتعلم اللغتين العربية والفرنسية معاً، ثم رحل إلى لبنان، وأقام في قرية "عين عار".
عمل في الجامعة اليسوعية في بيروت، وكان ينشر ما يكتبه باسم الصحافي اللبناني نسيب الشُّحَيْني، كما تتلمذ على يد الشاعر يوسف الخال الذي اطَّلع على كلّ ما كتبه وناقشه معه حرفاً حرفاً. ويضيف "عدت إلى سوريا والتحقت بخدمة العلم، وتخرّجت في مدرسة الهندسة العسكرية نقّاباً لغّاماً مختصاً بالمتفجّرات، ثمّ أُفرِزت للخدمة في الجبهة السوريّة حيث اهتممت بتعليم الجنود الأميين علاوةً على مهماتي الأخرى، إلى أن وقعت الكارثة، وهي حادثة انفجار اللغم".
لا يخفي تعرضه للطعنات حتى من أقرب الناس له، فيقول "أنا أخلصت لزوجتي وهي لم تخلص لي وأخلصت في كتاباتي وأدبي وفي المقابل لم أجد الجهة الإعلامية أو الثقافية لتكون مخلصة معي وأرجو في المستقبل أن يتعادل الميزان. وأذكر قصة لميخائيل نعيمة (أديب لبناني) قرأتها حين كان عمري 11 سنة اسمها "صادق" تقول تلك القصة في آخرها: لا مكان لصادق في هذا العالم".
 
مؤلفاته المطبوعة
 
تنتشي كلماته بعدما تتمدد على الورق الأبيض، يسمعها لحناً شجياً يطرب خياله المتّقد، تغريه بأن يفلت كلماته شعراً وأدباً وتأريخاً. يرفض تقييد الكلمات في رأسه، فمقتل الإبداع الأدبي أن تكون الكلمات حبيسة، فخرج بهذه المؤلفات المطبوعة: "التاميرا"، "الحكواتي الحلبي"، "هناهين قويق"، "شفهيات سورية بالفرنسية"، و"لاويل بردى". وتطول قائمة إبداعات رجل يعشق الأدب والشعر، منها رواية "أرواح تائهة"، "قاموس حيوي"، "مجمع العمرين"، "العين الثالثة"، "الجنك"، "أنا بحكي عربي سوري دارج"، "أرواح تائهة"، "القناع في الطباع"، "روزنامة حلب"، "أحبك"، "حكايات شعبية من سورية"، "الغسطرنوم"، "ظواهر وجد بن وجدان"، "أراك".
لا يتوقف عند هذا الحد بل كانت له مشاركات شعرية مغنّاة من خلال بعض أعمال المطربة السورية ميادة بسيليس، أو عبر شارات أعمال درامية، مثل: "أيام الغضب"، "إخوة التراب"، "هوى بحري"، "نساء صغيرات"، "أبناء القهر"، ومسلسلات أخرى، إضافة إلى تدريسه الفلسفة والأدب وإتقانه لغات عدة، منها الفرنسية والإسبانية.

المزيد من ثقافة