في مطلع سبعينيات القرن الماضي شغلني كثيراً الكاتب الإنكليزي كولن ولسن (1931-2013)، سيما في الكتابين: "اللامنتمي" و"ما بعد اللامنتمي". في النصف الثاني من ذلك العقد، كنتُ ضمن مجموعة الشباب الأدباء والشعراء، أذكر المقربين منهم: راسم كمال العاني ومحمد بديوي المعاضيدي وحاتم عبد الواحد البدري، ولم تغادرنا مؤلفات كولن ولسن الوجودية.
لم يمضِ الوقت كثيراً حتى قررت أن أدرس في إنكلترا، بعد محاولات مترددة بالدراسة في إيطاليا أو ألمانيا أو بولندا حيث الصديق سمير فاضل الشابندر، وصلت لندن في الثاني من أغسطس (آب) عام 1981. رغم أن فكرة الاتصال أو اللقاء بولسن لم تنقطع من ذهني، ولكن لم يسعفني الحظ أن أحقق شيئاً من ذلك، ربما لأنني ما زلت مغموراً، أو أن الاتصال بالمشاهير ليس هيناً؛ علاوة على أن سُبل الاتصالات كانت محدودة وقتذاك. ولكن هذا لا يمنعني من الاعتراف بأنني أتقاعس أحياناً عن انتهاز الفُرص، خصوصاً وأن أحد الأساتذة في الجامعة أخبرني بأنه كان صديقاً قديماً لكولن ولسن.
عموماً، في أواخر التسعينيات، وبعد أن نشرت سلسلة طويلة من المقالات والدراسات الموجزة في الفلسفة والأدب والسياسة، علاوة على صدور ثلاثة مؤلفات، اتجهت للكتابة باللغة الإنكليزية. لم تكن التجربة سهلة وبسيطة من الناحية العملية وليست العلمية، لأنني أهدف إلى توصيل الفكرة للقارئ البريطاني بصفة خاصة، والقارئ الغربي بصفة عامة، من منظور العقل العربي؛ بينما دور النشر سيما الكبيرة سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة الأميركية، تريد الاحتفاظ بالمفهوم التقليدي للغرب عن الفلسفة الإسلامية. على سبيل المثال، فإن الفارابي وابن سينا وابن رشد، وفق المفهوم الغربي، قد خرجوا عن الشريعة والإسلام، مفضلين فلسفة اليونان، لكنهم لم يفصحوا بذلك علانيةً خشية من غضب المجتمع، كما أنهم ليسوا أكثر من شُرّاح ومفسّرين لفلسفة أفلاطون وأرسطو لا غير.
وعندما ترجمت ونشرت كتابي الأول "الله والوجود والإنسان" لندن 2000، في طبعة عام 2002 أهديت نسخة منها إلى ريك لويس، رئيس تحرير المجلة الإنكليزية "الفلسفة حاليًا" في لندن. إذ حينها بدأت بالإعداد لكتابة مقالاتي عن الفلسفة الإسلامية في تلك المجلة. ولما كتب لي ريك لويس رسالته المؤرخة في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2002 التي أشار فيها إلى ما يلي:
"يؤسفني أن أقول إنه حتى الآن فإن الفلاسفة أمثال الكندي والغزالي كانوا مجرد أسماء بالنسبة لي. لذا فقد حان الوقت لأقرأ شيئاً عن أفكارهم. لقد استمتعت بالقسم القصير عن الفلاسفة القدامى في مصر والعراق. في الواقع إن سردكم الموجز عن تاريخ الفكر الذي قرأته يتعامل مع المصري كما العراقي باعتبارهم فكراً دينياً متقارباً. وإنني أتطلع إلى قراءة نظريتك الماورائية الخاصة بك في وقت لاحق".
أقول لم أتفاجأ بعدم معرفة ريك لويس بالكندي والغزالي، وهو رئيس تحرير مجلة مختصة بالفلسفة، فالعقل الغربي ما زال يدور حول ذاته، ولا يرى من الآخرين شيئاً في ذواتهم. ولعل من بين أضعف النقاط التي لا يستطيع العقل الغربي أن يتفاداها هو عندما يدرس أو يقرأ تاريخ الفلسفة الغربية، فإنه يبدأ بالتركيز الكبير على اليونان ثم أقل بالرومان ثم الانقطاع لخمسة قرون، حيث سادت الفترة المظلمة عموم أوروبا، وفجأةً يظهر الاهتمام الواسع بالعصر الحديث ومميزاته عن الماضي اليوناني والروماني، دون إبراز الدور المهم الذي أدته الحضارة العربية الإسلامية في حفظ علوم وفلسفة اليونان الذي كان محرماً من قِبل الكنيسة. وإذا كان لا بدّ للمؤرخ أو الباحث الغربي من الاعتراف الحضاري للمسلمين، فإنه يذكر ذلك بالنزر اليسير وبطريقة لا ترتقي إلى المستوى المطلوب لحضارة عالمية أسهمت بشكل فاعل في تطور الحضارة الإنسانية.
كيفما كان الأمر، فقد كانت المجلة الحقل المشترك الذي جمعني عبر صفحاتها بالكثير من الفلاسفة والمفكرين والكُتاب الغربيين، ومنهم كولن ولسن. وعندما صدر كتابي "تاريخ الفلسفة الإسلامية" أوآخر عام 2004، أهديت نسخة منه إلى ولسن الذي كتب لي رسالته المطبوعة والمؤرخة في 7 فبراير (شباط) 2005، وجاء فيها:
"عزيزي السيد الجبوري... شكراً جزيلاً على كتابكم (تاريخ الفلسفة الإسلامية). يسعدني أن أحصل على هذه النسخة، لأنني بالفعل أعلم أهمية هذا الموضوع. وباستثناء أهمية القليل من الصوفيين الذين اخترتهم من كتاب لإدريس شاه، لكنني كنت مفتوناً جداً بإيجازك الرائع والماهر عن هيراقليطس وأفلاطون. ومن ما كتبته في مقدمتك حول الموقف غيرالعادي إلى حد ما تجاه راسل وفليو وتوملين وآخرين غيرهم، فإن مثل هذا الكتاب الذي نحتاج إليه بشدة. إذ من الواضح أنه كتاب أخّآذ لدرجة أنني أعتقد أنه من الضروري أن يسد فجوة مهمة. أحتفظ به على ذراع كُرسيّ لأتصفحه بشكل عشوائي، ويبدو أن كل صفحة تحتوي على شيء رائع... شكرًا جزيلًا حقًا. المخلص كولن ولسن".
وإذا كنتُ من أيامِ بغداد أقرأ وأهتم بنتاجات ولسن، وسُررتُ بالمراسلة الفكرية معه بعد مضي عشرين سنة أو أكثر، فإن المفاجأة الجميلة جاءتني من الفيلسوف الإنكليزي أنتوني فليو (1923-2010)، الذي لم أكفّ عن توجيه سهام نقدي له، كونه لا يعطي للفلسفة الإسلامية حقها ومكانتها التاريخية في مؤلفاته. حيث ما أن أهديته نسخة من "تاريخ الفلسفة الإسلامية" حتى بادرني بأكثر من رسالة، وتناول الكتاب في عرض خاص على صفحة المجلة. وأجريت معه عدة اتصالات هاتفية، وكان في غاية الكياسة والاحترام. ولقد فهمت أن فليو الذي أفنى معظم حياته فيلسوفاً ملحداً، وكان مدافعاً قوياً عن هذا النهج بحجة عدم وجود برهان تجريبي ظاهر على وجود الله، لكن في الوقت الذي اتصلت فيه كان في مرحلة الانتقال (عام 2004) وتغيير موقفه جذرياً نحو الإيمان بوجود الله الخالق لهذا الكون. ولهذا أبدى اهتماماً مميزاً بالكتاب وأصرّ أن يكتب عنه رغم اعترافه بجهل الكثير عن الفلسفة الإسلامية.
وأود أن أعرض رسالته الخطية الأولى التي كتبها بتاريخ 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2004، والتي يوضح فيها السبب في تقصيره تجاه الفلسفة الإسلامية، حيث يقول:
"عزيزي الجبوري... شكراً جزيلاً لك على إرسال نسخة من (تاريخ الفلسفة الإسلامية). سوف تعتقد أنه من الجيد أن تعرف أنه، وفقًا لشروط إرادتي، ستتم إضافته إلى رف مليئ بالكتب الأخرى عن المسائل الإسلامية في مجموعة أنتوني فليو في مكتبة الجامعة الأوروبية المركزية في بودابست. كانت ملاحظاتي حول الفلسفة الإسلامية في (مدخل إلى الفلسفة الغربية) تمثل بأمانة الموقف في الفلسفة الغربية بذلك الوقت من نشر الكتاب للمرة الأولى. لقد كُنتَ مُحقاً أن تراها كدليل على الحاجة إلى كتابك. أما كتاب (قاموس الفلسفة) فقد تم تحريره ولم أكتبه، بل وضعت الأبواب الكثيرة كأي مساهم آخر. لكن الفلسفة الإسلامية كانت أحد الموضوعات التي أدركت جهلي فيها، ولقد استعنت بشخص آخر لتأليف كل هذه المساهمة القليلة. إنني على ثقة من أن كتابك سيتم مراجعته على نطاق واسع وجيد، وبذلك سيقلل من جهلنا الغربي. المخلص أنتوني فليو".
وفي رسالته الخطية الثانية والقصيرة بتاريخ 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2004، فإن فليو بالقدر الذي يريد إبلاغي عن الوقت في نشر تقييمه للكتاب، لكنه يوضح مدى إصراره على الكتابه رغم قلة معرفته في هذه المراجعة. تنص الرسالة على ما يلي:
"عزيزي السيد الجبوري... آمل أن أخبركم بالفعل أن مراجعتي لتاريخ الفلسفة الإسلامية يجب أن تكون في العدد القادم من مجلة (الفلسفة حاليا). أعلم أنني لم أكن مؤهلاً لمراجعة هذا الكتاب. ولكن كان إما لي، أو لا مراجعة على الإطلاق. المخلص أنتوني فليو".
ومن المناسب والمفيد أيضا أن أستعرض المراجعة التي كتبها فيلو في المجلة عدد أغسطس (آب) 2005، حيث استهلها بعنوان الكتاب، ثم باشر بالسرد: "ينقسم هذا المجلد الهائل من 514 صفحة إلى كتابين. يتناول الكتاب الأول مصادر الفكر الإسلامي وينقسم إلى جزأين، الأول عن (الفكر اليوناني) والثاني عن (الإسلام). ويتناول الكتاب الثاني الفلاسفة المسلمين، ويحتوي على ثمانية فصول، السبعة الأولى تتناول الشخصيات الرئيسة السبعة، والثامنة حول (نقل التراث). تم وضع مقدمة من هذين الكتابين الجديدين بمقالات عن (مصادر الفلسفة الإسلامية) و(دور الفلسفة الإسلامية في تاريخ الإنسانية) و(المؤرخون والفلسفة الإسلامية)، بينما تم تقريب الثاني من هذين الكتابين مع خمسة جداول أنساب وقاموس التعبيرات العربية والملاحظات ومصنف المصادر والفهرس.
تكمن الفائدة الفلسفية الجوهرية للمجلد الحالي في اعتبار أعمال الكندي والفارابي وابن سينا والمعري والغزالي وابن رشد وابن خلدون، قد امتدت تواريخ هذه الفترة الزمنية لهؤلاء الفلاسفة السبعة ما بين العام 800 إلى العام 1332. وكان العديد منهم في المشرق العربي خلال الفترات التي كانت فيها أوروبا في عصر الظلام. وبالطبع فإن جميع الترجمات إلى اللاتينية لأعمال أفلاطون وأرسطو وغيرهم من المفكرين اليونانيين التي أصبحت متاحة لاحقاً إلى توما الأكويني وغيره من العلماء المدرسيّن، فقد قام بها العلماء المسلمين أصلًا.
بما أنني واثق، حيث من المفترض للمؤمنين بجوهر الروح الإنسانية، أن يكون الاعتراف بذلك جيداً. وربما ينبغي عليّ أن أجيب على شكوى المؤلف (الجبوري) في كتابي المكوَن من 510 صفحة، بعنوان: (مدخل إلى الفلسفة الغربية)، حيث أنني قد اختصرت الفلسفة الإسلامية كلها في ستة أسطر. إن عُذري لا خجل فيه، لأن هدف الناشرين من ذلك الكتاب أن يكون كتاباً مدرسياً في عالم الفلسفة للناطقين باللغة الإنكليزية، كما أن أصل النشر يعود إلى عام 1971.
وفي تلك الفترة من العالم، كانت الديانة الوحيدة التي يجب على فلسفة الدين أن تُراعيها هي المسيحية. لذلك أصبح تعريف العالم هو (الله) الذي قدمه ريتشارد سوينبرن بالأساس قياساً في العالم الفلسفي للناطقين بالإنكليزية جميعاً. وتكون وفق الشكل التالي: أن الشخص بلا جسد يعني الروح الموجودة في كل مكان، وأن خالق الكون ومدبره قادر على فعل كل شيء، فهو كلي القدرة، ويعلم جميع الأشياء، صالح الكمال، مصدر الأخلاق، ثابت أبدي، كائن ضروري، مقدس يستحق العبادة.
ولكن منذ أن نشر سوينبرن لأول مرة هذا التعريف، فإن نسبة سكان المملكة المتحدة من المسيحيين المؤمنين الذين يمارسون المسيحية بانخفاض مستمر، بينما عدد المسلمين المؤمنين الذين يمارسون الدين الإسلامي في تصاعد، مما سيؤدي إلى أن الإسلام سيصبح دين الأغلبية، إن لم يكن بالضرورة هو دين الأغلبية. وبلا شك ستتألف الأغلبية، كما هو الحال الآن، من أولئك الذين يؤمنون اسمياً ولكنهم بالتأكيد لا يمارسون الدين بانتظام.
وبالنظر إلى جهلي شبه الكامل بموضوع كتاب الجبوري، إذًا لماذا أحاول تقديم تقييم هنا؟ السبب هو بمجرد أن قرأت عنوانه، أدركت أن هذا عمل يجب ملاحظته في الفلسفة. وأن تناوله من قِبل مجلة (المعهد الملكي للفلسفة) ومجلة (الفلسفة حاليًا)، ستوصله إلى الجمهور الفلسفي الأوسع. وعلى قدر معرفتي، أن محرر الفلسفة قد أخفق في إيجاد ناقد مناسب، وأنا شخصياً لا أعرف مثل هذا الشخص. ومع ذلك، من الضروري في الأقل ملاحظة مجلة "الفلسفة حاليًا" حيث تنبه أن كل ما فعلته للتو هو استعراض ولكن ليس بشكل نقدي.
طبعاً يعود إلى الفلاسفة المسلمين أن يقدموا تعريفا لكلمة "الله" بما يلائم الفلسفة الإسلامية للدين. ولكن من السهولة جداً بالنسبة إلى القارئ لتفسير آرثر جي آربري عن القرآن، حيث أن التقييم في هذا الصدد يواجه بعض الصعوبات الجمة في هذه المهمة. فبدايةً أن كل سورة تستهل بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم". إن الكلمات التي يفترض أن تكون إسهاما تحريريا لكن سلطتها ومدى ملاءمتها تصبح مشكوكا فيها للغاية بمجرد أن نضع في الاعتبار حقيقة أن الكثير من هذه السور تتضمن الوعيد بالجحيم والعقوبة الأبدية. ومن وجهة نظري، يوجد ما لا يقل عن 255 وعيداً من هذا القبيل في كتاب آربري المكوَن من 669 صفحة.
في الواقع، كانت هناك رسائل من آخرين أيضًا، أذكر منهم أنتوني أوهير رئيس المعهد الملكي للفلسفة، حيث وجه لي رسالتين خطيتين الأولى في 8 أبريل (نيسان) 2005، والثانية في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2005. لكنني فضلت أن أُقدم مَنْ تعرفت على أفكارهم قبل أشخاصهم.