Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"رجل الأسانسير" قائد مصعد استراتيجي وشاهد على أسرار الركاب في مصر

تظهر أهميته بالمصالح الحكومية أثناء ذروة انصراف الموظفين والقطاع الخاص يعده من وجوه البطالة المقنعة

عامل المصعد في مصر وظيفة مهمة بالمباني الحيوية والحكومية  (أ ف ب)

القيادة فن. وهي كذلك ذوق وأخلاق ولا تخلو أبداً من مقدار من الفطنة في التعامل مع الطوارئ التي قد تحدث نتيجة صعود مفاجئ أو هبوط اضطراري أثناء الرحلة. وقفة فجائية هنا، هبوط اضطراري هناك، أعمال صيانة أو انقطاع كهرباء هنا وهناك، جميعها يضع القائد في فوهة مدفع الرضا أو الاستياء من أداء المصعد.

يخطئ من يعتقد أن قائمة مخترعي "المصعد" بدءاً بأرشميدس الذي ابتكر مصعداً بدائياً سنة 436 ق.م. أو لويس الخامس عشر الذي اخترع "مقعداً طائراً" لنقل إحدى عشيقاته إلى الطابق الثالث في قصر فرساي في عام 1743، أو الأميركي أليشا أوتيس الذي ينسب إلى الكابح الذي اخترعه في  فضل عنصر الأمان الرئيسي في المصاعد للذين كانوا يتوقعون أن يتحول مصعدهم الذي بات يصعد ويهبط عبر تقنيات لا تحتاج سوى ضغطة زر للصعود وأخرى للهبوط إلى مركبة لها قائد يفرض سطوته ويبسط هيمنته على أرض المصعد، شأنها شأن أرض الطائرة أو السيارة التي تخضع من ألفها إلى يائها لسطوة قائدها.

رئيس مجلس إدارة المصعد

قائد المصعد أو "رئيس مجلس إدارة المصعد" كما يسميه البعض من العاملين المخضرمين في مبنى "ماسبيرو" (مبنى الإذاعة والتلفزيون) هو رئيسه وصاحب السطوة في تحديد من يهبط قبل من، ومن يصعد متى، في هذا المبنى العتيق العريق ذات الطوابق المتعددة، وأحياناً من يصعد أصلاً!

الأصل في المصعد هو أن أحد الركاب الصاعدين أو الهابطين يضغط على الزر المراد، وربما يتبرع بالضغط على الأزرار المرادة لزملائه وزميلاته. لكن ما يبدو أنه أصل في الغرب، ليس بالضرورة أصلاً في الشرق، ولا سيما مصر التي كثيراً ما تتبع منهجاً خاصاً بها تمليه الظروف وتتحكم فيه الاحتياجات وتتدخل فيه عوامل بعضها علمي مفهوم والبعض الآخر بوهيمي محسوس.

 

 

نقل الأحياء والأموات

الحس الدرامي الذي يسيطر على "عم أحمد" عامل المصعد في أحد المسشتفيات الحكومية الكبرى ينبغي أن يتم توثيقه عبر فيلم سينمائي. عم أحمد الذي يوشك على التقاعد بعد أشهر قليلة بعد ما يزيد على أربعة عقود نقل فيها أعداداً من الأحياء يصعب حصرها بالإضافة إلى عدد آخر لا بأس به ممن فارقوا الحياة أو أوشكوا، يتحدث عن وظيفة عامل المصعد بخليط من الفخر والأسى. فخر بعقود أمضاها مستقبلاً آملين في شفاء متعلقين بتلابيب الأمل ومغدقين عليه بما تيسر من "بقشيش" يزيد بمقدار زيادة تمتماته للمريض بأن الله سبحانه وتعالى سيأخذ بيده إلى بر الشفاء. أما الأسى فمراده هذا التسيب الحديث والعشوائية غير المحسوبة حيث بعض المصالح المهمة تترك مصاعدها لكل من هب ودب يحركها من دون سابق علم أو معرفة.

العلم المطلوب والمعرفة المرادة يدوران في إطار التعامل مع مواقف انقطاع الكهرباء والتعامل مع هلع الركاب، أو حدوث هبوط مفاجئ مصحوب بصراخهم، أو تعلق المصعد بحمولته بين السماء والأرض.

 

 

بين السماء والأرض

"بين السماء والأرض" الفيلم المصري الأبيض والأسود الذي قلب موازين القوة في عالم المصاعد يهيمن على فكر كل من وطئت قدماه أرض مصعد. الفيلم الذي تدور أحداثه بالكامل في داخل مصعد تعطل بين السماء والأرض بكامل حمولته من النساء والرجال من كل الفئات العمرية والاجتماعية تعرض بشكل بالغ السخرية للقصة القابعة وراء كل منهم: ولادة، حب، خيانة، انتحار، مرض نفسي، مرض قلب و"الراجل بتاع الأسانسير"، كما جرى العرف المصري على تسميته يحاول فك الاشتباك بين الركاب تارة، والاتصال بـ"الأرض" تارة أخرى لطلب الغوث، وإدارة المصعد في كل الأحوال.

أحوال المصاعد في الكثير من الأماكن، لا سيما "الحيوية" في مصر، تحتم "رئيس مجلس إدارة لشؤون المصعد". يصعد بالركاب ويهبط بهم، يواجه المواقف الطارئة ويتعامل معها بخبرة العالم ببواطن المصعد وأبعاد مشكلاته، تنشأ صداقات وتتولد "تربيطات" بينه وبين الركاب ويمضي يوماً بعد يوم في إدارة شؤون المصعد كل بحسب سماته الشخصية وإيمانه بقيمة ما يفعل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التشكيك في قيمة العمل

قيمة العمل في مجال تشغيل المصعد من الأصل قيد التشكيك على اعتبار إنها ليست مهنة من الأصل، لكن من قال إن كل عمل ينبغي أن تكون له قيمة في ظل الانفجار السكاني وصراع الأرانب الدائرة رحاه لضخ المزيد من العيال إلى سوق العمل ووصول معدل البطالة إلى ثمانية في المئة (في الربع الرابع من العام الماضي 2019 بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قبل أسابيع)؟!  

لكن بين المنطق والقيمة من جهة واللامنطق والواقع هوة مصرية سحيقة. وما تعتبره شعوب وثقافات لا ممكناً أو لامعقولاً هو في مصر عين الممكن وأصل المعقول. غير المصريين حين يتصادف وجودهم في مصعد في مصر له عامل متخصص يتعجبون بعض الشيء. فكل المطلوب دقة زر، وهو ما يعتبره "الراجل بتاع الأسانسير" اختزالاً للرؤية وانتقاصاً من المهنة.

شيوخ المهنة

القصص والحكايات التي يسردها المصريون عن "الراجل بتاع الأسانسير" لا أول لها أو آخر. يقول استشاري الجهاز الهضمي في المستشفى التي يعمل فيها "عم أحمد" أحد شيوخ مهنة "الراجل بتاع الأسانسير" وهو الدكتور خالد مصطفى أن مصعد المستشفى و"عم أحمد" وجهان لعملة واحدة. "لا المصعد سيكون هو المصعد من دون عم أحمد، ولا عم أحمد يمكن أن يعمل شيئاً آخر في حياته سوى تشغيل المصعد صعوداً وهبوطاً. والحقيقة أن سنوات خبرته في تشغيل المصعد جعلته الأكثر احتكاكاً بالأطباء والعاملين والمرضى. الغالبية تعرفه معرفة شخصية، وتعرف أبناءه وأحفاده. نعرف ما مر به في حياته من مصاعب ومشكلات، وهو يعرف الكثير عنا. لكن المثير حقاً هو علاقة "عم أحمد" بالمرضى فقد اكتسب قدرة على طمأنتهم وأقاربهم. والطريف أنه لكثرة تعرضه لأحاديث الأطباء عن مرض كذا وعلاجاته وأعراضه، بدأ في إبداء النصائح الطبية للمرضى وهو ما اضطر إدارة المستشفى لتنبيهه إلى ضرورة التوقف عن علاج المرضى.

ألفة الطرفين

علاج من نوع آخر يقوم به "الراجل بتاع الأسانسير" من دون أن يدري. لقاء متكرر، فاعتياد، فألفة أحياناً تنتج منها كلمات موجزة تعبر عن ضيق أو ترقب أو فرحة أو تردد أو ما شابه. تكرار ركوب البعض مع عامل المصعد على مدار سنوات يؤدي إلى ألفة بين الطرفين. هذه الألفة تصبح أكثر عمقاً لسكان ورواد الطوابق العليا بحكم توافر قدر أكبر من الوقت. وحبذا لو جمعت بين الطرفين لحظات انقطاع التيار الكهربائي أو حدوث عطل مفاجئ، إذ تقرب الأوقات الصعبة بين البشر.

وليس هناك أصعب من لحظة إخبار المسؤول الكبير بأنه لم يعد مسؤولاً أو الوزير بأنه خرج في التشكيل الوزاري الجديد. وقبل سنوات نشرت صحيفة مصرية حواراً مع عامل مصعد في ديوان عام وزارة الزراعة ظل "الراجل بتاع أسانسير الوزير" لـ12 وزيراً. حكى الرجل عن ذكريات الوزراء الـ12 معطياً تقييماً لكل منهم بناء على الحوارات التي كان يسمعها بحكم وجوده مع كل منهم وحاشيته، وأيضاً بناء على درجة "الكرم".

كرم ركاب المصعد عامل بالغ الحيوية في حياة كل "راجل بتاع أسانسير". وكم من راجل بتاع أسانسير وجد حلاً لجانب من مشكلاته المعيشية المعتادة بسبب كرم الركاب. إلا أنه يجب الإشارة إلى أن معدلات الكرم وقيمته تختلف باختلاف موقع المصعد الجغرافي وموقع الركاب في الهرم الاقتصادي. بمعنى آخر، فإن مصاعد الوزارات والهيئات والمصالح الحكومية لا تشهد حركات سخاء عاتية من قبل الركاب على "الراجل بتاع الأسانسير"، بل أحياناً يجد "الراجل بتاع الأسانسير" نفسه مضطراً إلى مد يده في جيبه والإغداق على راكب هنا "داخ السبع دوخات" في رحلة إنجاز أوراق لعلاج ابنه على نفقة الدولة، أو راكبة أعيتها مشاوير إنهاء أوراق معاش زوجها المتوفى حديثاً.

 

 

مميزات وظيفية

لكن المميزات الوظيفية لـ"الراجل بتاع الأسانسير" لا تقف عند حدود كرم الركاب من عدمه، لكن أولئك العاملين في مصاعد جهات خدمية يرفعون شعار "ناسبنا الحكومة وأصبحنا أقارب". تخيل نفسك عامل مصعد في وزارة التضامن الاجتماعي حيث معاشات الفئات الأكثر احتياجاً ومساعدات الأسر المستحقة للمساعدة، أو في وزارة التموين وحملها الهائل من البطاقات التموينية ومن يستحق السلع المدعمة ومن لا يستحق، أو في مصلحة الضرائب وأهوال الممولين وأثقال المتهربين. معرفة عامل المصعد بغالبية الموظفين ومن يمكنه إنهاء معاملة ومن هو قادر على تمرير مجاملة تجعله "راجل مهم بتاع أسانسير".

ولأن الأهمية نسبية، فقد شهد مبنى "ماسبيرو" ذات مرة معركة مدوية حين طلب أحد الركاب المستجدّين وكان ضيفاً مدعواً إلى المشاركة في برنامج تلفزيوني من عامل المصعد أن يحمل له حقيبته حتى باب الستوديو. هاج العم وماج ولقن الراكب الضيف درساً في قواعد الخلاف والاختلاف بين "الراجل بتاع الأسانسير" هذا المتخصص في توصيل الركاب وإنقاذهم في الطوارئ ونجدتهم في الأزمان، وبين "الراجل بتاع الدكة" أي "البواب" الملتصق بدكة لا يبرحها على باب العمارة.

 

 

خلط مرفوض

هذا الخلط المرفوض بين المهن وبعضها لا يعني أن كليهما "الراجل بتاع الأسانسير" و"الراجل بتاع الدكة" صاحبا مهن تمثل الحفاظ على سرية العميل عصباً حيوياً ومقوماً رئيسياً فيها. العشق الممنوع والسر المفضوح والفعل الممجوج أسرار المهنة التي تُدفن مع "الراجل بتاع الأسانسير" الأمين المحنك والتي تذاع على أثير المقهى التي يتردد عليها زميله الضارب عرض الحائط بقواعد أسرار العمل. كثيرون من متسخدمي المصاعد التي تخضع لتشغيل العامل يجهلون أن كل حركة يأتونها أثناء الرحلة ومن موقع وقوفهم خلف العامل مرصودة عبر انعكاسها الضبابي في باب المصعد المواجه للعامل. قبلة مخطوفة هنا بين راكب وراكبة، تضبيط ملابس داخلية، تسليك أنف مسدود وغيرها من الأفعال غير المقبولة في العلن جميعها مرصود في أعين الصقر الداق على أزرار المصعد.

لكن أزرار المصعد لا تحقق ترقية وظيفية لصاحبها أو تضمن تطوراً مهنياً له. "الراجل بتاع الأسانسير" يظل على حاله من لحظة تعيينه حتى انصرافه من العمل سواء تحت ضغط ملايين الرحلات التي يقطعها صعوداً وهبوطاً في علبة مغلقة، أو بحكم بلوغ سن التقاعد. هي مهنة منزوعة الطموح لا تنضوي على أية إثارة أو مفاجآت باستثناء انقطاع تيار أو حدوث عطل أو نشوب حريق أو الاستماع إلى مقطع من قصة يسردها أحدهم لزميله أو يحكيها في هاتف محمول تدوم دقيقة أو اثنتين هي مدة الرحلة.

 

 

مكانة استراتيجية

رحلة عامل المصعد من أسفل المبنى إلى أعلاه ومن أعلاه إلى أسفله تضعه أحياناً في مكانة استراتيجية لا يعرف قيمتها إلا الركاب، لا سيما في المباني الشاهقة الارتفاع والتي تشهد ساعات ذورة تكون في الأغلب وصول موظفين وانصرافهم. هنا يكون مد أواصر الصلة وتعميق جذور الثقة بين الموظف و"الراجل بتاع الأسانسير" حيويين وضروريين لمراعاة الأول لا سيما في وقت الانصراف. مصالح حكومية عدة تشهد في وقت الانصراف هتافات المنصرفين "عشرة" "إثنانشر" "خمسة عشر" وهي هتافات تتردد عبر فضاء "مسقط" المصعد حيث يتحرك صعوداً وهبوطاً على أمل أن يسمعهم "الرجل بتاع الأسانسير" ويتوجه مباشرة صوب الطابق المراد لتحقيق حلم الانصراف.

أما أماكن العمل غير الحكومية، فإن هيكل العمل فيها ونموذج الربح والخسارة لا يسمحان بإهدار راتب لـ"الراجل بتاع الأسانسير". الدق على الأزرار لا يحتاج خبيراً، والاستغاثة وقت الطوارئ تكون عبر دق جرس الإنذار. لكن يشار إلى أن البعض من هذه الأماكن التي تعتبر وظيفة عامل المصعد بطالة مقنعة لديها "راجب بتاع ماكينة قهوة" مهمته استلام الجنيهات من العميل ووضعها في ماكينة القهوة والضغط على نوع القهوة المطلوب وانتظار تجهيزها أوتوماتيكياً وتسلميها لها، وذلك في مهمة يمكن لراغب شرب القهوة القيام بها من دون وسيط.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات