Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علاقة حب وكراهية بين "السايس" والمواطن المصري

قانون جديد لتنظيم العلاقة بين الطرفين يبقى قيد التفاؤل والترقب والتشكك في القدرة على استدامة تنفيذه

الشوارع المصرية تعاني أزمة مرورية بسبب أماكن انتظار السيارات   (أ ف ب)

كل من يملك سيارة، أو محلاً تجارياً، أو يسكن في شقة، أو يمشي في شارع تربطه علاقة حب أو كراهية بهذا الرجل وأحياناً هذه المرأة. يسمونها علاقة "الاحتياج المر" أو "الاضطرار اللذيذ". البعض الآخر يرفع راية "رحم الله امرأ عرف قدر نفسه". فريق ثالث يعافر ويقاوم، لكنه غالباً يجد نفسه خاسراً متقهقراً معلناً توبته قبل فوات الأوان.

"خلاص يا باشا. فات الأوان. جاء الونش وأخذ السيارة. حظ سعيد مع المرور". الباشا صلاح الساكت، 56 عاماً، أحد المعافرين والمقاومين لفكرة دفع رسوم غير رسمية، وفي أقوال أخرى "المعلوم"، وفي سياق ثالث "إتاوة"، "لجيش السياس" الجرار الذي يملأ كل ركن من أركان مدن المحروسة؛ غير معروف التعداد أو محدد المسؤوليات، أو معلوم أوله من آخره يجد نفسه هذه الأيام مهدداً بالتقنين مواجهاً خطر الضبط ومغبة الربط بعد عقود طويلة من الحرية الجانحة والعشوائية اللذيذة.

لذة العشوائية

لذة العشوائية لا يعرفها سوى من استمتع بها، وكوّن ثرواته في كنفها، وبات يعتبرها أسلوب حياة لا غنى عنه. صلاح الساكت هذا المواطن المصري الذي ظل يجاهد على مدار سنوات ما بعد إصدار رخصة القيادة من أجل مقاومة إيقاف السيارة في "أملاك الدولة" مقابل مبلغ يتم دفعه في جيب أحدهم يقول إنه أسعد الناس هذه الأيام. 

الكلمات التي يطالعها في الشريط الإخباري وصفحات الجرائد أقرب ما تكون إلى الموسيقى لقلبه، الذي اعتل من فرط الجدل والخناق مع جيش "السياس"، وجيبه الذي اختل جراء إصلاح ما يفسدونه بدافع الانتقام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضوابط واشتراطات للقائمين على تنظيم انتظار المركبات سواء كانوا شركات أو أفراداً. ضرورة الحصول على رخصة من الجهة الإدارية في حال ممارسة نشاط إيقاف السيارات في الأماكن المخصصة في الشارع. تحديد مقابل الانتظار تبعاً لطبيعة المكان ومساحة الانتظار، ويجري تحديد ذلك سلفاً من قِبل الوحدات المحلية وأجهزة المدن التابعة للمجتمعات العمرانية الجديدة. لا يجوز مزاولة نشاط تنظيم انتظار المركبات في الأماكن الخاضعة لأحكام هذا القانون إلا بعد الحصول على رخصة للمزاولة وفقاً لأحكامه.

استغلال الشوارع

وتمضي أحكام القانون الجديد رقم 150 لسنة 2020، الذي صدر قبل أيام في شأن تنظيم انتظار المركبات في الشوارع، ويهدف إلى استغلال الشوارع العامة بشكل منظم وحضاري ولائق ولصالح الدولة بعد عقود من استغلالها بشكل عشوائي وقبيح وغير لائق لصالح أفراد لا يمتون لأجهزة الدولة بصلة من قريب أو بعيد.

وبحسب القانون الذي أصدره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعد موافقة مجلس النواب عليه نهائياً، فإنه سيتم إنشاء لجنة في كل محافظة وفي أجهزة المدن التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لتحديد أماكن الانتظار بعدما تحول أغلب شوارع المدن إلى أماكن انتظار عشوائي على جانبي الطريق والوقوف المزدوج وأحياناً الثلاثي والرباعي ما أدى إلى تحول العديد من الشوارع والميادين إلى جراجات بلا حراك.

 

 

حراك مجتمعي حذر

الحراك المجتمعي الذي أججه صدور هذا القانون يقف على طرفي نقيض. فمن جهة، تنفس ملايين المواطنين الصعداء الحذر ممنين أنفسهم بشوارع بلا اختناق، وأرصفة بلا تعديات، وإيقاف سيارات دون جدل مميت قوامه "الدفع أو إلحاق الضرر بالسيارة".

 هذه الملايين تمضي جانباً من وقتها هذه الأيام في سرد نوادرها وطرائفها مع جيش السياس. فمن قصة متداولة عن سايس مشهور لقي حتفه في تفجير إرهابي قبل سنوات ووجدوا أن ثروته تقدر بمليون جنيه مصري (62598 دولاراً أميركياً)، وأخرى عن سايس يعمل موظفاً في مصلحة حكومية بالنهار ليتقاضى ملاليم وسايس في منطقة حيوية بعد الظهر ليتقاضى ملايين، وثالث بات ضالعاً في تغيير العملة وبيع المخدرات وتيسير الليالي الحمراء، مستفيداً بستار العمل في إيقاف السيارات، ورابع لا يسمح إلا بإيقاف السيارات المرسيدس والـ"بي إم دبليو" والشيروكي وما فوق وذلك، لطبيعة المكان الراقي الذي يعمل فيه، ومن ثمّ ضمان تحصيل مبالغ محترمة، ناهيك عن ظاهرة "عمل قرشين في ساعتين"، حيث يقرر أحدهم أثناء مروره في شارع ما يخلو من السياس أن يتظاهر بأنه سايس وكل ما عليه أن يكرر عباراتين لا ثالث لهما؛ "تعالى وحضّن" أو "اكسر قوي وطريق السلامة"، مع فرض تسعيرة تحددها طبيعة المكان، بالإضافة إلى الحالة المزاجية للقائم بالعمل.

قصص السرد

ولا يعكر قصص السرد المغلّفة في إطار يجعلها تبدو وكأنها ستصبح قصصاً من الماضي الأليم سوى حائط الصد وروح المقاومة العنيفة وحس السخرية اللاذع لدى جموع السياس. لطفي الذي يعمل سايساً ضمن حفنة من السياس في أحد الشوارع الحيوية في حي مصر الجديدة، شرق القاهرة، امتنع عن الكلام لدى سؤاله عن رأيه في القانون الجديد مكتفياً بـ"لا تعليق". لكن بعضاً من الضغط وقليلاً من الجنيهات كانت كفيلة بإطلاق العنان لمشاعره الغاضبة، التي لا تخلو من قدر من قلق. "قانون إيه بس؟ العملية لا تحتاج قانوناً أو يحزنون. نحتاج نظرة حانية من الحكومة فقط لا غير. تتركنا نعمل بما يرضي الله، ونتركها تقوم بعملها". لكن تنظيم الشوارع والقضاء على العشوائية عمل الحكومة. يقول وعلامات القرف على وجهه: "عشوائية؟ السياس أكثر الفئات تنظيماً في البلد. نحن نحمل سيارات المواطنين على أكتافنا. ثم ما العيب في العشوائية؟ أليست هذه الفطرة التي خلقنا الله عليها، أم تريدون التدخل في خلق الله أيضاً؟".

 

أعلم الناس بقواعد العمل

التدخل المرتقب يرفضه لطفي وغيره الآلاف من السياس ولهم في ذلك وجهة نظر. يقول زميله سيد، "نحن أعلم الناس بقواعد عملنا. فمثلاً تسعيرة إيقاف السيارات تخضع لعوامل ومتغيرات لا يمكن للحكومة أن تضبطها. تسعيرة اليوم الحار غير اليوم الممطر غير اليوم البارد. كما أنه من الظلم أن أتقاضى المبلغ نفسه من صاحب سيارة كهنة؛ قديمة، مثله مثل صاحب سيارة بملايين".

 يسارع لطفي بإضافة متغير آخر ألا وهو "قدرة الزبون على الدفع. فإذا كان ربنا موسعها عليه وقادر على دفع 20 جنيهاً (1.25 دولار)، لماذا أعرقل الرزق وأجعله يدفع عشرة جنيهات (0.63 دولار) فقط؟"

ويلمح كل من لطفي وسيد إلى ملمح يعرفه الجميع، ألا وهو أن أغلب السياس، لا سيما في الأماكن المزدحمة والحيوية يقتصون مبالغ من ريعهم اليومي لأفراد رسميين، أي البعض من أمناء الشرطة، ويفرض البعض منهم إتاوة إما على هيئة نسبة محددة من الريع أو مبلغ متفق عليه سلفاً في مقابل ترك السايس يعمل دون مضايقات شرطية.

ثغرات إنفاذ القوانين

ويبدو أن مثل هذه الثغرات هي ما تجعل ملايين المواطنين المتضررين من السياس يتنفسون الصعداء بحذر. تقول نرمين محمد، 40 عاماً، مهندسة، إن "المشكلة ليست في القوانين، لكن في تنفيذها. لدينا ترسانة قوانين مثلاً تنظم المرور والسرعات المقررة وتعاقب السير العكس وإيقاف السيارات في غير الأماكن المخصصة، لكن أغلبها غير مفعّل، وإن تم تفعيله فليوم أو اثنين ثم يعود إلى حال سبيله. العبرة بإنفاذ القانون دائماً".

التشكك في القدرة أو الإرادة المتوفرة لتنفيذ القانون الجديد ليست وحدها ما يقلق البعض من أصحاب وقائدي السيارات. يقول أحمد، سائق أجرة، إنه يتخوف من "أن يتم تنفيذ القانون فعلياً هذه المرة، وتصبح عملية إيقاف السيارة في منتصف النهار لأخذ قسط من الراحة وشرب كوب من الشاي مع زملائه في أحد أماكن تجمعات سائقي الأجرة أسفل جسر هنا أو على ناصية شارع هناك، فيجدوا أنفسهم مضطرين لدفع ما كسبوه في ساعتين عمل". ويشير أحمد إلى أن "السايس" "يتفهم الفرق بين زبون صاحب سيارة ملاكي قادر على الدفع، وسائق أجرة على باب الله يحتاج من يدفع له".

خليها على الله

أحمد وغيره لا يسمون هذا التفكير "عشوائية" لكن يطلقون عليه "تسهيل على المواطنين" أو "خليها على الله". منظومة الشعار الأخير هذه توسعت وتوغلت وتغولت في مصر على مدار نحو أربعة عقود أدت إلى تحول مهن عشوائية إلى مهن واقعية. هذا الواقع أدى إلى خلق ثقافة قائمة بذاتها أصبحت بمثابة تقنين شعبي للمنظومة. فتعرض العديد من الأفلام والمسلسلات مهنة السايس. واعتبر البعض من رجال الدين فئة السياس مستحقة للأضاحي وأموال الزكاة والصدقات. وتعامل صحافيون وإعلاميون مع دخول بعض النساء مجال العمل كـ"سايس" نقلة حضارية وغزوة نسائية. والأهم أو بالأحرى الأخطر من ذلك هو ظهور أجيال بأكلمها تعتقد أن "السايس" العشوائي، الذي لا ينتمي لجهة عمل ويحصّل أموالاً دون قيود أو ضوابط هو ظاهرة من ظواهر الحياة العادية.

السايس علينا حق

الطريف أن بين هذه الأجيال من يتعامل مع منظومة السايس باعتبارها سمة من سمات الحياة، لكن يمكن تجنبها والإفلات منها. مئات الفيديوهات والتدوينات التي تخلط الجد بالهزل يصورها ويكتبها شباب تحت عنوان "كيف تفلت من السايس؟" أي كيف توقف سيارتك في الشارع وتهرب دون دفع المعلوم. اللافت أن التعليقات التي ترد على مثل هذه النصائح تتراوح بين الشكر على النصيحة الغالية أو التنديد بالقلوب القاسية التي تستخسر دفع بضعة جنيهات للسايس المسكين أو تعتبر عدم دفع المعلوم حرام شرعاً أو تكتفي بتعليق مفاده "السايس علينا حق".

وسواء كان السايس علينا حق، أو السايس عليه حق، نحن والسايس سندفع الحق والمستحق للدولة، يبقى القانون الجديد قيد التفاؤل حيناً والترقب حيناً والتشكك في القدرة على استدامة التنفيذ أحياناً حتى "تكذب المياه الغطاس" أو "يثبت القانون أنه قادر وراغب وقابل للتطبيق".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات