Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إشراقات اللون الأسوَد معرض فريد في متحف اللوفر

أعمال تبيّن كيف ألهب هذا اللون مخيّلة الفنانين من مصر الفرعونية حتى العصر الحديث

مشهد من معرض "شموس سوداء" (موقع المرعض) 

لا بد للمارّ في مدينة لانس الفرنسية من زيارة المعرض المثير الذي ينظّمه فرع متحف اللوفر فيها تحت عنوان "شموس سوداء". فمن خلال عشرات التحف الفنية التي تعود إلى مختلف حقبات تاريخ الفن، يمنحنا منظّموه فرصة فريدة لتأمّل اللون الأسوَد في جميع تجلّياته واستخداماته ورموزه داخل الفنون الغربية.

عنوان المعرض يستحضر فوراً إلى أذهاننا دار النشر العريقة التي حملت هذا الاسم في الخمسينيات ونشرت أهم النصوص السورّيالية. يستحضر أيضاً المعرض الشهير الذي نظّمته غاليري "ماغ" في باريس عام 1946 بعنوان "الأسوَد هو لون". ومَن قرأ جيداً الشاعر الفرنسي جيرار دو نرفال، سيتذكّر حتماً قصيدته "كئيب" التي يقول في مطلعها: "أنا المعتِم، الأرمل، غير المتّعزي/ نجمي الوحيد مات، وعودي المرصَّع/ يحمل شمس الكآبة السوداء".

في حضوره الكلي في مختلف ظواهر الطبيعة، لطالما ألهب اللون الأسوَد مخيّلة الفنانين في جميع الأزمنة. هذا ما يتجلّى بقوة في المعرض الحالي حيث يتبيّن لنا أن هذا اللون هو الأول الذي استخدمه الفنانون منذ فجر التاريخ. ومن بلاد ما بين النهرين إلى مصر الفرعونية، مروراً بروما، تحلّى بمعانٍ عديدة ورمزية معقّدة. وبخلاف ما يظنّه معظمنا، لم يكن دائماً مرتبطاً بالموت والسديم. ففي مصر مثلاً، كان لونَ الأرض والخصوبة والتجدُّد، وتماثيل أوزيريس، إله الموت، وزوجته إيزيس، نُحِتت بمواد البازلت والغرانيت والأوبسيديين البركانية السوداء. تماثيل كانت توضع داخل النعوش لمرافقة الأموات في سفرهم إلى العالم الآخر حيث الحياة الأبدية.

لكن في التوراة، ومنذ الأسطر الأولى من سفر التكوين، يظهر هذا اللون بصفة مأتمية وكنقيض للنور. من هنا إثارته الافتتان والخوف معاً في الغرب خلال القرون الوسطى، واستخدامه الحصري لتمثيل الشيطان وجميع المخلوقات المعتمة والمخيفة المرتبطة به: الخفافيش، التنانين ومختلف العفاريت، كما في لوحات جيروم بوش، ثم في محفورات ألبرت ديورر. ومع ابتكار المطابع الذي ساهم في نشر هذه التمثّلات، انبثقت صورية الساحرة التي تمتطي مكنستها في ليل السبت الأسوَد ومعها تلك المرصودة للاجتماعات الليلية التي كان المشاركون فيها يمارسون طقوساً قاتمة تقوم على انتهاكات رهيبة، كما في أعمال السويسري مانويل دويتش والألماني هانز هولباين.

مناخات ماسوية

ومع حلول القرن الخامس عشر، أصبح الليل موضوعاً فنياً مستقلاً بذاته، فشكّلت المشاهد الداخلية أو الخارجية المظللة والقاتمة أرضية خصبة لاختبارات هدفها إثارة الانفعالات والعواطف. وفي هذا السياق كان استخدام اللون الأسوَد لتمثيل آلام المسيح أو "الأباطيل" وتدرّجاته اللونية لإحلال مناخات مأساوية تنبثق من عتمتها أجساد معذّبة، كما في لوحة الفرنسي إيبوليت فلاندران "الشفقة" التي تمثل فيها أمٌّ من دون وجه تنحني على جسد ابنها وبالكاد تنفصل عن خلفية اللوحة المعتمة.

ويجب انتظار القرن الثامن عشر كي تتجدد المخيّلة الغربية تحت تأثير فلسفة الأنوارالتي، في كفاح وجوهها من أجل انتصار العقل على الظلامية، عزّزت بشكلٍ مفارق الاهتمام بالغرابة والجنون وساهمت في ظهور التيار الرومنطيقي الأسوَد في القرن اللاحق. تيار افتُتن فنانوه بالمناخات الغامّة أو الغسقية واستكشفوا مشاعر الكآبة والغرابة المقلِقة والرغبات المكبوتة في أعمال تظهر فيها مشاهد أبوكاليبتية ورؤى كابوسية مرسومة باللون الأسوَد، كما في لوحات البريطاني جوهان فوسلي والسويسري أرنولد بوكلين التي تحوّل فن الرسم فيها إلى مرآة لعذابات النفس، أو في لوحة "سوناتة في ضوء القمر" التي جسّد الفرنسي بنجامين كونستان فيها الجانب الملغَّز لشخصية الموسيقي العبقري بيتهوفن من خلال إسقاطه عتمة شبه كلّية على فضائها، من دون أن ننسى الأعاصير والمياه القاتمة التي تحضر في بعض لوحات مواطنه غوستاف كوربيه بأسوَد شديد الإيحاء.

وفي القرن التاسع عشر، ومع اختناق المدن بدخان الثورة الصناعية الأسوَد، فرّ الفنانون الرمزيون من دوّار الحداثة في اتجاه الحلم، فظهرت داخل أعمالهم عفاريت وعوالم شبحية، كما في لوحات الفرنسي أوديلون رودون أو في الرسوم التي زيّن مواطنه غوستاف دوريه بها "جحيم" دانتيه. ولعب الأدب آنذاك، والرواية الغوطيّة تحديداً، دوراً بارزاً في ظهور هذه الصورية المعذّبة التي شكّلت لاحقاً مصدر وحي للمخرجين السينمائيين، بدءاً بالألماني مورنو وفيلمه نوسفيراتو عام 1922. وفي الفترة نفسها، استخدم فنانون آخرون اللون الأسوَد لفضح مختلف وجوه البؤس، الذي كان يوصف غالباً بالأسوَد، وتمثيل ضحايا الثورة الصناعية، كما تشهد على ذلك لوحة "بائع زهور البنفسج" (1885) التي رسم الفرنسي فرنان بيليز فيها طفلاً يلتهمه الجوع وينام على الأرض بفمٍ مفتوح.

مادية اللون

وفي القرن العشرين، قاد فنانون كثر أبحاثاً تشكيلية لا غاية لها سوى استكشاف صفات اللون الأسوَد ومادّيته ومختلف مفاعيله، بمعزل عن رمزيته المتعدّدة، في لوحات تتشكّل حصرياً من هذا اللون، كما في أعمال الأميركي آد راينهارت التي تحمل عنوان "اللوحات الأخيرة"، ويقترح فيها تجربة تلامس التأمّل الروحي، أو في أعمال أخرى يحضر اللون الأسوَد فيها كمادّة أولى تنبثق من حيويتها أشكال وصور مختلفة. وبينما استعان فنانو الواقعية الجديدة، مثل الفرنسي سيزار، بمواد سوداء بهدف تمثيل شعرية العالم الحديث والشهادة على واقع جديد تصبغه النزعة الاستهلاكية، لجأ فنانون ينتمون إلى تيار "الفن الفقير" إلى مواد عضوية بسيطة غايتها تذكير الإنسان بماضيه، كما في تجهيز اليوناني جانيس كونيلّيس الذي يتألف من أكياس خَيْش تحمل أسماء أماكن بعيدة وتتكدّس أمام جدار مطلي كلياً بلونٍ أسوَد يستحضر سخام الثورة الصناعية ومادّتها الأولى، الفحم.

لكن المسعى الأكثر راديكالية يبقى ذلك الذي قاده العملاق الروسي كازيمير ماليفيتش مطلع القرن الماضي ويقوم على التخلّي عن السرد والتصوير لصالح التجريد الصرف في لوحات تسائل بشكلٍ ثابث اللون الأسوَد الذي يطغى عليها من خلال استثمار مميزاته الرمزية والروحية والتشكيلية على حدّ سواء، كما في لوحة "مربّع أسوَد" (1913). مسعى تبنّاه الفرنسي بيار سولاج، فنان اللون الأسوَد بامتياز، وذهب به إلى أبعد حدّ في عمله حول "ما وراء الأسوَد" عبر تحويله هذا اللون إلى فضاء لامتناهٍ، سحيق ومنير، وبالتالي إلى ركيزة مثالية لاستخراج النور من قلب العتمة الكالحة.

المزيد من ثقافة