أجّلت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان النطق بالحكم من قبل غرفة الدرجة الأولى فيها بجريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري من مايو (أيار) 2020 الماضي حتى 7 أغسطس (آب) المقبل، بسبب جائحة كورونا، بعدما استغرقت المذاكرة النهائية التي أجرتها لنتائج المحاكمة التي بدأت في عام 2011 نحو 8 أشهر.
ويترقب المجتمع السياسي اللبناني صدور هذا الحكم المحاط بسرية كاملة من قبل المحكمة التي مقرها ليدسندام ضاحية مدينة لاهاي الهولندية، انعكاساته على المسرح السياسي اللبناني المضطرب بسبب الأزمة الاقتصادية المالية الخانقة التي يعيشها مع آثارها السياسية. فمحامو المتضررين من الجريمة يتوقعون إدانة المتهمين الأربعة غيابياً، (أو ثلاثة منهم على الأقل)، والذين ينتمون إلى "حزب الله"، بحسب القرار الاتهامي للادعاء، بأنهم خططوا للجريمة ونفذوها، كما تعتقد مصادر قريبة منهم في حديثها لـ"اندبندنت عربية". فعلى المحامين واجب التحفظ في الإدلاء بتصريحات للإعلام بانتظار الحكم.
الشرخ السياسي من الجريمة إلى إنشاء المحكمة
وكان إنشاء المحكمة زاد الشرخ السياسي الداخلي في لبنان، منذ 2005 بعدما وجه تحالف قوى 14 آذار الذي نشأ بعد الجريمة، إلى "المنظومة الأمنية اللبنانية- السورية" بأنها تقف وراء الجريمة، فيما وقف حلفاء دمشق بقيادة "حزب الله" آنذاك ضد هذا الاتهام وحاولوا تعطيل إنشاء المحكمة، ثم اعتبروها مسيّسة وصنيعة الولايات المتحدة الأميركية. وسعى الحزب إلى ترجيح فرضية اتهام إسرائيل بالوقوف وراء العملية، لكن تحقيقات المحكمة دققت بها ولم تقتنع. ورفض الأمين العام للحزب تسليم هؤلاء المتهمين الذين صدرت في حقهم مذكرات توقيف دولية منذ عام 2011، "ولو بعد مئة سنة". وقال إنه لا يعترف بالمحكمة ولا تعنيه قراراتها. وتسبب الصراع على المحكمة بانقسام مذهبي سني- شيعي.
المناخ الإقليمي لإصدار الحكم
اغتيال الحريري الذي كان يتمتع بحماية أمنية وسياسية إقليمية ودولية عالية المستوى، أرخى بظله على تطورات دراماتيكية في لبنان ما زالت آثارها تتوالى، إلى درجة قيل معها إن ضريح الرئيس الشهيد في وسط بيروت، ما زال ينتج وقائع سياسية حتى اليوم. ووصف الادعاء الجريمة، في مطالعته النهائية في سبتمبر (أيلول) عام 2018، بأنها "يوم حلّت الظلمة الحالكة على لبنان". ترك تاريخ 14 فبراير (شباط) 2005 ارتدادات إقليمية في علاقات دول عربية وخليجية مع سوريا وإيران، تضاعفت العدائية فيها مع تصاعد التدخلات الإيرانية الأمنية والعسكرية في عدد من دول المنطقة. وكان "حزب الله" جزءاً من هذه التدخلات. ويأتي الإعلان عن الحكم وسط تفاقم الصراع الإيراني- الأميركي وتصاعد العقوبات الأميركية على الحزب وتزايد الدول الأوروبية التي تصنفه منظمة إرهابية.
وكان الاستماع العلني إلى إفادات الشهود (297 شاهداً) من سياسيين ومحققين وتقنيين، بدأ عام 2014، فخضعوا لاستجواب الادعاء والدفاع، وشمل وقائع مذهلة سياسياً وأمنياً. وبين الشهود زعماء ووزراء ونواب مثل رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، ومستشارين للحريري، رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي " وليد جنبلاط، النائب مروان حمادة، الذي ستكون محاولة اغتياله وكذلك محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق الياس المر، واغتيال الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي من "القضايا المتلازمة" مع اغتيال الحريري، والتي ستخضع للمحاكمة لاحقاً. كذلك استُمع إلى اللواء جميل السيد، المدير السابق للأمن العام في حينها، الذي كان سُجن مع ثلاثة آخرين من كبار ضباط الأمن، 3 سنوات ونصف السنة بسبب القضية ثم أفرج عنهم عام 2009.
وتعرّف المحكمة في وثائقها عنوان المحاكمة بـ"قضية عياش وآخرين"، نسبة إلى اسم المتهم الرئيسي سليم عياش في مجموعة المتهمين الأربعة من الحزب. وكان عدد هؤلاء خمسة بينهم القائد العسكري في الحزب مصطفى أمين بدر الدين الذي لم تعد تشمله المحاكمة منذ اغتياله في سوريا في 13 مايو (أيار) 2016، فجرى إسقاط محاكمته. وهي المحاكمة التي طالت زهاء 9 سنوات، بعدما استغرقت التحقيقات فيها من قبل المدعي العام المعيّن للمحكمة (تغيّر 3 مرات)، منذ تأسيس المحكمة عام 2009، بالاستناد إلى ما سبق أن جمعته لجنة تحقيق دولية عملت منذ وقوع الجريمة في 14 فبراير 2005. ويساهم لبنان بتمويل المحكمة بنسبة 49 في المئة سنوياً (بين 35 ألف و 40 ألف دولار أميركي)، وتسدد الباقي دول أيدت إنشاءها.
حضور محدود في لفظ الحكم
ومثل كل شيء، فرض كورونا تأجيله، فإن قرار الإعلان عن النطق بالحكم في 7 أغسطس سيخضع إلى تدابير الوقاية من الفيروس القاتل بحيث تقتصر المناسبة التي يعتبرها المعنيون "تاريخية" نظراً إلى أنها المرة الأولى التي تتولى محكمة دولية خاصة بقضية اغتيال سياسي، تحول دون الإفلات من العقاب في بلد كثرت فيه الاغتيالات، بعد اعتبارها جريمة إرهابية وفق تعريف المحكمة ومجلس الأمن الذي أنشأ هذا الجسم القضائي الفريد من نوعه لارتكازه على خليط من القانون الأنغلو ساكسوني واللبناني، في 31 مايو 2007 وفق القرار الرقم 1757 استناداً إلى الفصل السابع. وتتميز المحكمة بأنها تضم مكتباً للدفاع عن المتهمين المتوارين، عين وكلاء عنهم دحضوا الاتهامات الموجهة إليهم.
والمتهمون الأربعة هم: سليم جميل عياش، حسن حبيب مرعي، حسين حسن عنيسي وأسد حسن صبرا. والتهم الموجهة إليهم ثلاث:
ارتكاب عمل إرهابي باستعمال أداة متفجرة.
قتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري و21 شخصاً آخرعمداً باستعمال مواد متفجرة.
محاولة قتل 226 شخصاً آخر عمداً باستعمال مواد متفجرة.
المواد الجرمية في 150 ألف صفحة
وبسبب تدابير كورونا سيتعذر تنظيم حضور لبناني سياسي وإعلامي واسع لأنه سيتم تحديد عدد الموجودين في المنصة المخصصة للحضور بسبب التباعد الاجتماعي، وكذلك عدد الإعلاميين الذين سيكونون في غرفة الصحافة، إذ ستضطر أكثرية وسائل الإعلام إلى متابعة تلاوة الحكم على شاشة التلفزيون. وستصدر تعليمات في هذا الشأن خلال الساعات المقبلة.
وكان قضاة غرفة الدرجة الأولى الخمسة وبينهم لبنانيان، قاموا بمراجعة كل الأدلة التي قبلوا اعتمادها خلال 4 سنوات، شهدت 415 جلسة علنية، على مدى 425 يوماً. وقالت الناطقة باسم المحكمة وجد رمضان لـ"اندبندنت عربية" إن المراجعة هدفت إلى تأكد قضاة غرفة الدرجة الأولى من أن الأدلة التي قدمها الادعاء أقنعتهم بأنه لا يرقى إليها الشك المعقول. لذلك، نظروا في البيّنات التي بلغ عددها 3131 بيّنة تشكل مواد جرمية تقع في أكثر من 150 ألف صفحة. فالملخص الخطي لأدلة الادعاء وحده يقع في 389 صفحة.
دليل مجموعات الهواتف الخلوية
وتستند التكهنات بإدانة المتهمين من "حزب الله" إلى القرار الاتهامي الذي صدر عام 2011، ثم إلى المرافعات النهائية للادعاء العام ومحامي الدفاع ووكلاء المتضررين، التي امتدت 9 أيام في سبتمبر من عام 2018، وتضمنت سرداً لأدلة الادعاء عن شبكات الهاتف الخلوي التي استخدمها المتهمون والتي تعتبر الدليل الرئيسي. وأدى تعقُّب أرقام هواتف كان يستخدمها هؤلاء، ومراجعة أماكن وجودها إلى توزيع الهواتف الخلوية على 5 شبكات اتصال تولت رصد تنقلات الحريري وموكبه منذ أواخر عام 2004 قرب منزله في بيروت، ثم في منزله الصيفي في بلدة فقرا وفي محيط البرلمان، وفي موقع شراء الشاحنة في مدينة طرابلس (التي استخدمت في التفجير الانتحاري)، ثم في مسرح الجريمة. واستند التحليل الإلكتروني لداتا اتصالات المتهمين الأربعة إلى رسائل نصية سمحت بتحديد هوية مستخدم كل رقم خلوي من خلال تواصل بعضهم مع عائلاتهم. ورصد الادعاء أماكن وجود مستخدمي الهواتف، بما فيها تلك التي تم شراء شرائحها من أجل استخدامها في تنفيذ الجريمة من خلال وجود الأرقام الجديدة في المنطقة الجغرافية نفسها لمنطقة وجود الهواتف الأصلية للمتهمين، سواء أكان أثناء مراقبة الحريري أم أثناء تنفيذ عملية التفجير التي استهدفت موكبه. وهي عملية معقدة استغرق شرحها لقضاة المحكمة في جلسات سابقة على جلسات سبتمبر من عام 2018 (المرافعات النهائية) من قبل خبراء في الاتصالات، وأعاد الادعاء سردها في المرافعة النهائية. ومن خلال أرقام الهواتف استنتج الادعاء أنه جرت محاولة تضليل التحقيق عبر اختراع هوية أحمد أبو عدس الذي ظهر في فيديو يتبنى العملية باسم "جبهة النصرة والجهاد".
تأكيد انتماء المتهمين إلى "حزب الله"
الادعاء كرر تأكيد انتماء المتهمين الأربعة إلى "حزب الله"، وحصول اتصالات بين قياديين من الحزب وبين مسؤول الأمن والاستطلاع في القوات السورية التي كانت في لبنان العميد المتوفي رستم غزالة، وبين الأخير والرئيس السوري بشار الأسد أثناء التحضير للجريمة، خلال زيارة قام بها غزالة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت. مع ذلك، فإن قواعد الأصول والإجراءات في المحكمة تنص على إدانة أفراد متورطين بالجريمة وليس جمعيات (أحزاب) أو رؤساء دول إذا كان مسؤولون فيها متورطين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الوقائع التي كان ذكرها الادعاء في حينها إشارته إلى اسم نصر الله مرتين: الأولى حين يذكر أن نصر الله أعلن أن المتهمين الأربعة هم "أخوة في المقاومة" وإلى حديثه عن الصفات القيادية لمصطفى بدر الدين، كبرهان على انتمائهم الحزبي. والثانية حين يشير، في معرض عرضه لوقائع مراقبة تحركات الحريري وفي دليل الاتصالات الخلوية، إلى تزايد المراقبة عند اجتماع الحريري بنصر الله عام 2004، في منطقة حارة حريك، من قبل المتهم عياش، من باب الدلالة على أنه كان على علم بالاجتماع على الرغم من سريته. ويذكر الملخص النهائي اسم مسؤول الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا في سياق الحديث عن مقتل مصطفى بدر الدين في سوريا، بأنه كان من بين القياديين الذين شاركوا في تقبل التعازي به. وأشار الادعاء إلى اتصالات بين المعاون السياسي لنصر الله حسين الخليل وبدر الدين، بالتوازي مع زيارة الحريري إلى نصر الله. لكن الادعاء أوضح أن "ذكر بعض الأسماء والدول، لا يعني أن هناك سعياً أو حاجة للتوصل إلى استنتاجات ضد هؤلاء". أما فريق الدفاع فرفض اعتبار خريطة شبكات الاتصالات دليلاً، فيما شدد على مستندات بأن سليم عياش كان بزيارة لأداء فريضة الحج أثناء وقوع الجريمة، دحضها فريق المدعي العام.
الإدانة رمزية لكنها تعزز حجة معارضي سلاح الحزب
كيف سينعكس صدور الحكم على الوضع السياسي، إذا جاء بإدانة المتهمين من الحزب؟
يصعب فصل الانعكاسات عن مناخ المواجهة الأميركية - الإيرانية والتي تشمل دور "حزب الله" في لبنان وسوريا والمنطقة والحصار الذي يتعرض له. وبينما سيعتبر أن الحكم يأتي في هذا السياق، فإن خصومه الذين يتهمونه بالتسبب بتفاقم الأزمة الاقتصادية السياسية بسبب سياسته العدائية للدول العربية والخليجية، ما يزيد الاحتقان ويعزز حجتهم بمخاطر سلاح الحزب على البلد. في المقابل، سيتابع رئيس الحكومة السابق زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري، ولي الدم ما كان أعلنه في عام 2018 (وقبله) بعد حضوره الجلسة الأولى للمرافعة النهائية للادعاء في لاهاي والتي تضمنت وقائع اتهام المتهمين الأربعة: "اليوم هو يوم صعب... وعندما يكون الإنسان في الموقع الذي أنا فيه اليوم (رئيس الحكومة) يجب أن يضع مشاعره جانباً". وأضاف أن والده و"جميع شهداء 14 آذار سقطوا من أجل حماية لبنان لا من أجل خرابه ومن هذا المنطلق طالبنا منذ البداية بالعدالة والحقيقة ولم نلجأ يوماً إلى الثأر". وحين سُئل عن مشاعره حيال "حزب الله" أجاب: "بعد أشهر يصدر الحكم وتتحقق العدالة ولو استغرقت بعض الوقت، ومع مرور الزمن يصبح الإنسان أكثر هدوءاً".
فالجميع يعرف أن سَوق المتهمين إلى العدالة لن يتحقق، وأن أي إدانة هي ذات بعد سياسي رمزي، يقف عند حدود معرفة الحقيقة من مرجعية قانونية دولية، تثبِّت المعروف، وأثره معنوي على الحزب. لكن الأهم أن الحريري سيتعاطى مع النتائج وفق الهاجس الذي يسكنه منذ عام 2014، يوم بدأ الحوار مع "حزب الله" برعاية الرئيس نبيه بري، وهو تجنب الفتنة السنية - الشيعية التي كانت أذرت بقرنها بقوة بين 2005 و2008 نتيجة الصراع حول طلب إقامة المحكمة الدولية التي لم يستطع منعها، من جهة بينما تعززت قناعة الحريري وبعض خصوم الحزب بأن معالجة سلاح الحزب مرتبطة بتسوية إقليمية، من جهة أخرى، لأن السعي إلى حل لبناني له قد يقود إلى حرب أهلية.