Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

5 سنوات على رحيل عمر الشريف: فنّان عاش حياته بما فيها من قوة وضعف

مصري في الغرب وعالمي في مصر وملامحه ساعدته في أداء أي شخصية

عمر الشريف:مصري في الغرب وعالمي في مصر (يوتيوب)

في مثل هذه الأيام، قبل خمس سنوات، غاب الممثّل المصري عمر الشريف عن 83 سنة. كلّ سنة، في العاشر من يوليو( تموز)، ونحن نتصفّح قسم الذكريات في "فيسبوك"، تطفو إلى السطح مقالات ومنشورات عن الراحل الكبير الذي شغل الناس بحياته ومماته. في ظلّ غياب شبه كليّ لثقافة الاستعادة والاستذكار في الإعلام العربي، بات الموقع الأزرق المكان الذي يُحتفى بالراحلين من الفنّانين بشكل ممنهج. اليوم، بعد مرور نصف عقد على وفاته، لا يزال عمر الشريف حاضراً في ذاكرة الناس، لا فقط في ذاكرة وسائط التواصل، بل في وجدانهم وتصوراتهم عنه، هذا الذي كان النجم العربي الذي ذهب إلى العالمية. 

ولعل الصورة التي بقيت صامدة أكثر من غيرها في ذاكرة الجمهور العالمي هي تلك التي رأينا فيها الشريف يقوم بأول خطوة له داخل الكادر السينمائي الغربي، ونعني بها طلته الأولى في "لورنس العرب" (1960)، بعد سلسلة أعمال في بلاده مصر. هذا المشهد الذي صوّره المخرج البريطاني ديفيد لين في رائعته التي أصبحت مع الزمن من كلاسيكيات السينما، مهّد للكثير من المَشاهد من بطولة الشريف، إلا أن هذا المشهد تحديداً كان تأسيسياً: رجل عربي يُدعى الشريف علي متشح بالسواد على ظهر جمل يقترب من الكاميرا، بعدما قطع الصحراء تحت شمس حارقة. نراه يأتي من عمق البادية، وعندما يصبح وجهه وكلّ شيء فيه واضحاً للمُشاهد، ينظر في جثّة الشخص الملقاة أرضاً ويقول: "لقد مات". اللافت أن العبارة التي شهدت ولادة الشريف هي عبارة فيها كلمة موت. 

في العام 2015، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه اللحظة، وتراكم عدد كبير من الأفلام في سائر أنحاء العالم صنعت منه النجم السينمائي الأول في العالم العربي، عاد شريف إلى تلك النقطة التي خرج منها، إلى تلك الأفق المغبّشة، مع إصابته بمرض الألزهايمر، فتلاشى كلّ شيء إلى حد الغياب الكلي.

مسيرة الشريف استثنائية، وإن لم يكن هو نفسه ممثّلاً إستثنائياً على مستوى الموهبة. فالناس الذين عمل معهم، والتجارب التي مر بها، واللقاءات التي حملته من ضفّة إلى أخرى، كلها أشياء صنعت مجده، أكثر ممّا كان قادراً أن يعطي لهذا الدور أو ذاك المخرج. ينطوي الشريف على كلّ مقومات الكائن التراجيدي الذي يدع المصير يتحكّم به وبغرائزه حتى النفس الأخير. مسيرة فيها صعود وهبوط مستمران، انكسارات ولحظات سعادة عابرة أيضاً.

الفنان اللامنتمي

بلور الشريف هذا الجانب فيه حدّ أنه بات رمزاً للفنّان اللامنتمي الذي تنقّل غريباً مغترباً بين عواصم العالم، مسلّماً كلّ وجوده إلى ما وصل اليه من نجومية، ومحافظاً بشغف الرهان المتأصل فيه. كان كسولاً في تكوينه، ينفق بلا حساب، حتى في عقوده الأخيرة، عاش كمَن سيموت غداً، وأحبّ كمَن يحب لآخر مرة، وراهن كمَن على سفينة تغرق. لم يرعبه الموت بقدر ما أخافه انهيار حالته الصحية والشعور بالألم. خاف من فكرة عوزه إلى أحد يعتني به في حال بلوغه الانحطاطين الجسدي والذهني.

عاش سنواته الأخيرة في فرنسا التي أحبّها وكانت تعبّر دوماً عن مزاجه. عشق باريس ووجدها أجمل المدن. كان يقول إنه أياً تكن أذواق الإنسان، فإن باريس ترضيه بطريقة أو أخرى. كما أن سكّانها الأصليين شديدو الأنانية، و"لهذا السبب يتركونك حراً على الأقل، وهذا أمر رائع". يعرّف عن نفسه بكلمة "بدوي"، موضّحاً أنه الممثّل الوحيد في العالم الذي لا يملك جنسية محددة لمهنته. فهو معروف في العالم كمصري، ومعروف في مصر كـ"العالمي". لطالما اضطلع بشخصية الغريب في أفلامه. ملامحه جعلته أهلاً ليدخل في جسد أي شخصية؛ حيناً كان الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا، حيناً آخر عاشقاً روسياً، وحيناً الأمبرطور المنغولي جنكيز خان، إلخ. كان يأتي على ذكر الممثّلين الفرنسيين كونهم يصوّرون أفلامهم في فرنسا ويعيشون فيها معظم الأحيان، في حين هو مجبر على الانتقال من بلد إلى بلد لممارسة مهنته. كان فناناً بلا جذور، ولعل أجمل ما صرّح به في هذا المجال هو أنه لم يحظَ بمرفأ يشدّ إليه مرساته عند حديثه عن مسألة عدم انتمائه إلى وطن أو بقعة جغرافية. في العام 2003، أي 12 سنة قبل رحيله، كان منح مجلة "باري ماتش" مقابلة جميلة قال فيها: "لا أملك في الحقيقة جذوراً. إني غربيّ الثقافة جداً وشرقيّ المزاج جداً. ميلودرامي جداً. حين أتألم أبكي. كلما ذهبتُ إلى السينما أبكي. إني شغوف. لم أتزوّج إلا مرة واحدة، انفصلتُ عنها قبل خمسة وثلاثين عاماً. مذّاك لم أعش مع امرأة، حتى لأسبوع واحد. لم أحبّ سوى مرة واحدة في حياتي. ليس لأني لم أكن مهيّأ للوقوع في الحبّ ثانية، بل لأن ذلك لم يحصل. تزوجتُ في عمر الحادية والعشرين، وبقيتُ مع زوجتي أربعة عشر عاماً. كنت في عمر شاب جداً. طلّقت لأني غدوت مشهوراً وكنت أعيش في الخارج وألتقي نساء رائعات. علمتُ أني سأتألم إن لم أستسلم للإغواء. فكرت أنه من الأفضل أن أترك زوجتي في ذاك الحين طالما أنها كانت لا تزال شابة ويسعها إعادة بناء حياتها".

عُرف عمر الشريف بكونه كائناً متعدداً، عاش كوزموبوليتيه إلى أقصاها. تفاخر بأنه لا يملك عنواناً ثابتاً لمنزل، ولا رقم هاتف محمولاً يمكن الاتصال به عليه، وأن كلّ شيء في حياته قابل للتبدّد في أي لحظة. لم يربطه أي شيء إلى أي مكان. لم يعشْ في بيت واحد فترة طويلة، عواصم العالم أضحت وطنه. أما الفنادق وكازينوهات الساحل الفرنسي فمكان مارس فيه هواية المقامرة التي خسر بها الكثير من المال، ولكن لم يهتم كثيراً بالخسارة مقابل المتعة التي كان يجدها وهو يجلس خلف طاولة الروليت، ثم إنها كانت تمنحه الأمل، على الرغم من كلّ شيء، على طريقة دوستويفسكي. هذا فنّان، قارب الوجود على أوسع نطاق، عاش بكلّ ما أوتي من قوة وضعف. 

يعترف أنه كره معظم الأفلام التي مثّل فيها، وهذا أمر نادر أن تسمعه من ممثّل عربي. لكنه شدد أيضاً على أنه غير نادم على شيء، لا في حياته ولا في مهنته، بل إنه عبّر عن امتعاضه من كلمة "ندم" التي لا يفهم معناها. نبذ مسألة النظر إلى الخلف، ذلك انه "يبقى لنا مع كلّ يوم يمضي القليل لنعيشه، وبقدر ما يقصر الزمن تتضاءل رغبتنا في تذكّر الأمور السلبية". هذه القفزة فوق أسوار الماضي الذي غالباً ما يصبح سجناً للإنسان، لم تكن بهدف محو الذاكرة، بل خوفاً من أن يبقى أسيراً لها، لأن "المستقبل قصير والماضي طويل جداً"، على حدّ قوله. ثم كان قرر أن يعيش اللحظة، واللحظة فقط، من دون غيرها. هذه هي الفلسفة الحياتية، البسيطة جداً، التي انتهجها.

المزيد من سينما