قد يؤخذ على رواية "الكأس الذهب" التي تعتبر من أشهر روايات هنري جيمس وأكثرها شعبية، كونها تقدّم صورة ناصعة لا شائبة فيها للأميركي الصامد في وجه بيئة تحاصره – حين يكون في أوروبا مقيماً أو عابراً كمعظم أبطال روايات هذا الكاتب الأميركي -، وقد يؤخذ عليها شيء من التعقيد في حبكتها والميلودرامية في أسلوبها، لكن ذلك لم يمنع من اعتبارها في مقدمة الروايات التسع الكبيرة التي تتميّز بين أعمال الكاتب، بل تعتبر الذروة التي وصل إليها فن جيمس الروائي قبل أن يبدأ انحداره. بل ثمة من يعتبر أن هذه الرواية قد مارست تأثيراً كبيراً في الفرنسي مارسيل بروست تجلى في ثنايا روايته الكبرى "البحث عن الزمن الضائع".
تلك الزيجات المرتبة سلفاً
كتب جيمس "الكأس الذهب" في عام 1904. وتدور أحداثها كالعادة عنده في رواياته الكبرى "الأوروبية" في أوروبا، وتحديداً هذه المرة في إنجلترا حيث يعيش أمير إيطالي مفلس محاولاً أن يجد وسيلة تمكّنه من العيش كما اعتاد. ومن هنا يتعرّف يوماً إلى الصبية الحسناء ماغي، ابنة أميركي جامع للتحف من الواضح أنه من النوع الذي لا يكتسي أية أهمية لولا أمواله الطائلة، لكن ابنته تحبه وتحاول على الدوام حمايته. وإذ يبدي الأمير أمريغو ولهه بماغي تستجيب هذه له وتقترن به، غير عارفة أول الأمر أنه كان على علاقة بفتاة أميركية تدعى شارلوت لا تقل عنه فقراً واصطياداً للمناسبات. ويكون الصيد هذه المرة بالنسبة إلى شارلوت، آدم والد ماغي تحديداً الذي تلتقي به بفعل "مصادفة ما" وتتزوجه لتصبح "خالة" زوجة عشيقها القديم. وحتى هنا تبدو الأمور أقرب إلى العادية في حكاية سوف تطالعنا لاحقاً في العديد من قصص الأفلام. بيد أن ما يحدث هنا هو أن أمريغو وشارلوت إذ يملاّن من عيشة الثراء التي صارا عليها بالزواج، ومن اصطناع أنهما لا يعرفان بعضهما بعضاً سابقاً، سرعان ما يستأنفان علاقتهما سراً.
لكن الظروف تتجمع لتكشف لماغي حقيقة ما يدور... على شكل شبهات أول الأمر ثم لاحقاً على شكل يقين وذلك بفضل كأس من الذهب كان الأمير قد نوى أن يهديها إليها لكنه تراجع إذ وجد فيها شرخاً. وهكذا إذ تحصل ماغي على الكأس تتيقن من العلاقة بين "خالتها" و"زوجها". لكن ماغي، الأميركية الحكيمة والواعية، لا تغضب ولا تبدي أي ردّ فعل متسرع. لقد قرّرت أن تنقذ زواجها وكذلك زواج أبيها، وعلى ذلك النحو ترسم مخططاً يُكلّل بالنجاح لتنتهي الرواية نهاية سعيدة.
للوهلة الأولى تبدو الحكاية في نهايتها بسيطة بساطة بدايتها، بل حتى يحفل القسم الأخير منها بالعديد من الحكم والجمل التأملية التي تصل إلى حدود المواعظ. لكن ليس هذا هو المهم. المهم هنا هو ما بذله هنري جيمس باكراً من السنوات الأولى للقرن العشرين من جهد للتعبير عن رؤية فنية بالغة التعقيد كما للتوغل في دراسة سيكولوجية عميقة للشخصيات ناهيك بجعل دور المرأة وسيطرتها على الأحداث أكثر أهمية بكثير في مسار الرواية من دور الرجل وسيطرته. ولعل هذا كله ما أعطى "الكأس الذهب" جدّتها وأهميتها جاعلاً منها واحدة من أكثر روايات مفتتح القرن العشرين حداثة. إلى جانب كونها عملاً يتصدى بقوة للعلاقة بين العالمين القديم والجديد، من خلال ذهنيات البشر وتعاملهم مع دوافعهم.
صراع العالمين
ومع هذا ربما يمكننا أن نقول في المقابل إن الأدب الغربي لم يعرف كاتباً ثأر للعالم القديم (أوروبا) من العالم الجديد (أميركا) بقدر ما فعل هنري جيمس، الذي كرّس العديد من رواياته وكتاباته النقدية الأخرى للمقارنة بين حضارة أوروبا ووعود أميركا. وبالنسبة إليه كانت المقارنة تنتهي، في نهاية الأمر، لصالح العالم القديم. ومع هذا كان هنري جيمس أميركي المنبت ولد، تحديداً، في نيويورك خلال الزمن الصاخب الذي عاشته تلك المدينة في أواسط القرن التاسع عشر، في 1843، لأب كان هو الآخر كاتباً وباحثاً في الشؤون اللاهوتية، عاش حياته يحنّ إلى أوروبا التي كان والده، أي جدّ جيمس هنري، قد نزح منها ذات يوم إلى العالم الجديد، الذي حقق فيه ثروة كبرى من دون أن يحبه على الإطلاق. والحال أن ثروة الجد، هي التي مكّنت الأب، ثم ابنيه الشقيقين هنري وويليام جيمس (الفيلسوف الاشتراكي المعروف) من أن يعيشوا على سجيتهم، من دون أن يشعر أي منهما بأي امتنان للقارة الأميركية. والحال أن هنري جيمس، أوصل الأمور إلى منطقها الطبيعي، ليس في كتاباته وحدها، بل في حياته أيضاً، إذ رأيناه ينزح في 1875 ليعيش في إنجلترا، بعدما كان تلقى دروسه الجامعية في نيويورك ولكن أيضاً في لندن وباريس وجنيف.
دين أوروبيّ
بكل صراحة وعلى الرغم ممّا يعبّر عنه في "الكأس الذهب"، لم يحب هنري جيمس، ومنذ مراهقته، لا أميركا ولا الأميركيين، واعتبر نفسه دائماً مديناً للآداب الأوروبية: جورج إليوت التي كان يحب كتاباتها كثيراً، وتشارلز ديكنز، الذي أحبه ناقداً، ثم بخاصة أونوريه دي بلزاك الذي اعتبره سيد الأدب الروائي من دون منازع.
بدأ هنري جيمس ينشر رواياته وقصصه القصيرة منذ العام 1865، وكان لا يزال في الثانية والعشرين من عمره، فنشر أولاً قصصاً قصيرة، ثم فصول رواية مسلسلة في مجلة شهرية، وهو ما أتاح له بعض شهرة مكنته من أن ينشر كتباً بانتظام بعد ذلك.
خلال السنوات العشرين التي قضاها هنري جيمس في لندن، اهتم في كتاباته بخاصة بدراسة تأثير الحضارة الأوروبية في الحياة الأميركية. وهذا الاهتمام يتجلى في روايته "رودريك هادسون" (1875) وفي رواية "الأميركي" (1877) ثم في "ديزي ميلر" (1879) و"صورة سيدة" (1881). غير أنه بعد ذلك أي بعد أن شعر بأنه صفى حسابه، أو كاد، مع الحياة الأميركية وخوائها، دقّ ناقوس الخطر ضد السطحية التي تهدد بها المزاجية الأميركية أوروبا إن هي غزتها سياحياً أو ثقافياً، بعد ذلك انصرف جيمس إلى ىالاهتمام بالحياة الإنجليزية نفسها فكرس لها روايات مثل "الملهمة المأسوية" (1890) وغيرها من القصص التي حلّل فيها الشخصية الإنجليزية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصولاً إلى التنظير الروائيّ
عندما أطلّ عليه القرن العشرون، كان هنري جيمس قد أضحى واحداً من كبار الكتّاب المعروفين على نطاق عالمي، وكان هو لا يكفّ عن الكتابة ونشر كتاباته، حتى لو إن بعض تجاربه المسرحية الفاشلة كان من شأنها أن تورده موارد اليأس، هو الذي كان يعوّل كثيراً على نجاح مسرحي يريحه من عناء الكتابة الروائية. صحيح أن بعض النقاد، ومنهم جورج برنارد شو، أعجبوا ببعض مسرحياته، غير أن هذا الإعجاب لم يكفل لها ما يكفي من نجاح. ومع هذا لم ييأس هنري جيمس أبداً. فالظاهر أن الثراء الذي كان يتمتع به كان يشكل له خير حصن يقيه مغبة اليأس. هكذا راح يواصل ويواصل الكتابة وينشر كتابات نقدية، روايات، قصصاً قصيرة، رسائل، مقدمات جمعت في ما بعد لتشكل كتابه الأشهر "فن الرواية".
هنري جيمس كان، بهذا، واحداً من الكتّاب القلائل الذين عرفوا كيف يوقفون حياتهم على الأدب وعلى الكتابة، ومع هذا، ومنذ السنوات الأولى لقرننا العشرين هذا نجده وقد راح يوسّع مجال اهتمامه لينعى على العالم ركضه نحو الحروب، ولينذر بقيام حرب عالمية، وهذه الحرب حين وقعت بالفعل، أشعرته بيأس شديد وغمّ انعكسا في انصرافه عن إنجاز روايتين أخيرتين كان يستعد لنشرهما ولم يفعل. ولم يسعده في ذلك الحين نيله الجنسية البريطانية التي حرّرته نهائياً، في العام 1915، من أميركية كانت لا تزال تشكل هاجساً لديه. بيد أن جيمس، الذي باغتته الحرب الأولى وهو في قمة مجده، توفي في عامها الثالث أي في الثامن والعشرين من شباط (فبراير) 1916 يائساً قانطاً ليس لديه سوى عزاء واحد: عودته أوروبياً، هو الذي أصرّ طوال حياته على أن يكون أوروبياً في عودة إلى الجذور ذات دلالة.