"الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود"، هي عبارة يُردّدها عمال منجم "إشمول"، الواقع في سفح جبل في ولاية باتنة عاصمة الأوراس شرق الجزائر، توصيفاً للمخاطر المتربّصة بهم أثناء دخولهم إلى نفق مظلم، يضيئُونه بنور مصباح ينبعث من واق بلاستيكي يضعونه على رؤوسهم.
وسط غبار متناثر يخترق الأنوف ويترصّد الأعين ليحوّل بياضها إلى أحمر بارز، وهواء ملوث يعرّضهم إلى أمراض خطيرة منها السيليكوز، يمضي عمال المناجم سنوات عمرهم في جوف الأرض لانتزاع لقمة العيش.
متاعب المهنة
يقول المهندس يوسف عبد الله، وهو أحد العمال في منجم "إشمول"، إن قضاء ثماني ساعات تحت الأرض أمر صعب جداً، واستيعاب ذلك يكون مع مرور الوقت أي بالاعتياد على الأمر. وبحركة لا إرادية يصُم عبدالله أذنيه، وهو يروي المتاعب اليومية التي تواجهه وتواجه أقرانه من عمال المناجم. بالنسبة إليه "أكثر ما يزعجه الضجيج القوي الصادر عن عمليات الحفر وجرّ العربات، وكذلك عدم توفر شبكة الهاتف الجوال أو الإنترنت"، ذلك ما يجبرهم على الخروج من المنجم" لإجراء مكالمة هاتفية مع الأهل والأصدقاء"، كما يوضح.
لكن على الرغم من المتاعب، ينظر بعين التفاؤل، قائلاً "أعتقد أن مشقة العمل تهون إذا تذكرنا قيمة منجم إشمول، الذي يُعتبر مكسباً اقتصادياً ليس فقط للمنطقة وإنما للجزائر ككل"، فهو يحُوز على مواد الزنك والرصاص والباريت.
ويضيف "تستورد الجزائر ما قيمته 60 مليون دولار سنوياً من مادة الباريت، التي تُستخدم في صنع المواد البترولية، لكن مع دخول المنجم حيّز الخدمة في الثلاثي الرابع من عام 2018، فإن الخزينة ستوفر الكثير من الأموال".
وتُقَدَّر مدة حياة المنجم 30 سنة، إذ ينام على مخزون جيولوجي إجمالي يصل إلى حوالى مليون و500 ألف طن، ويبلغ معدل الإنتاج السنوي 30 ألف طن، وكان يشكّل أهم مورد اقتصادي لفرنسا خلال الحقبة الاستعمارية، قبل أن تسترجعه السلطات الجزائرية.
مشقة وهضم للحقوق
في مقابل ذلك، ينظر عادل قاسمي الذي يعمل في الحفر، إلى يديه اللتين أصبحتا منتفختين وفقدت حيويتهما، ويذكر أن "عامل المنجم يعي جيداً أن حياته قد تنتهي فيه، فقد يدخل ولا يخرج ثانية، لكن الحمد لله".
ويشتغل عمال المناجم ستة أيام في الأسبوع، ومن الساعة الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساء (10 ساعات)، ويعيشون في ظروف أقل ما يُقال عنها إنها صعبة وشاقة للغاية، يضاعفها هضم حقوق، لا سيما من قبل الشركات الخاصة التي لا تزال تقدّم أجوراً زهيدة للعمال وتحرمهم من منحة المخاطر.
ولم تتوصّل "المعارك النضالية" التي يخوضها عمال المناجم لاسترداد حقوقهم المهضومة، إلى الأهداف المتوخّاة منها، فحوادث العمل كثيرة جداً في غياب إحصاءات رسمية، منها ما تؤدي إلى الحتف النهائي، أو إلى الإعاقة الجسدية أو أمراض فتاكة من السيليكوز والسرطان وفقدان السمع بسبب الانفجارات التي يعتمدون عليها لتفتيت الصخور وتحويلها إلى أتربة.
حركات احتجاجية
ويُقدَّر عدد عمال المناجم في الجزائر بحوالى 30 ألف عامل بحسب إحصاءات حكومية، يشتكي معظمهم من الإهمال الصحي والوقائي، تترجمهما احتجاجات ينفّذونها من فترة إلى أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فعلى سبيل المثال لا الحصر، احتج عمال مؤسسة مناجم الشرق للحديد في ولاية تبسة أقصى شرق البلاد، في شهر مارس (آذار) من العام الماضي، إذ توقفوا عن العمل للمطالبة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية، والمتعلقة أساساً برفع الأجر التقاعدي ومنح الفوائد والمردودية والتعويض في حالة حصول أي حادث خلال فترة العمل.
وقد أثرت هذه الحركة الاحتجاجية في نشاط منجَمَيْ بوخضرة والونزة اللذين يزوّدان أكبر مركب للحديد في الجزائر المُسمّى بالحجار شرق البلاد، بـ 2.3 مليون طن من الحديد الخام سنوياً يتم تحويلها وتصديرها إلى الأسواق الوطنية والعالمية، كما تسبّب الإضراب في خسائر مالية قُدّرت بـنحو 620 مليون دولار.
رؤساء أهملوا المدن المنجمية
تختزن الجزائر في باطنها مناجم شاسعة من الفوسفات والزنك والحديد والألمنيوم والتنقستين والكاولين وغيرها، في حين يشتكي سكان المدن المنجمية الغنية بالثروات، من بطالة متفاقمة وفقر وغياب تنمية، ما يجعلهم في كل مرة يطالبون السلطات بالتدخل لرفع الغبن عنهم.
وظلّت الثروة المنجمية غائبة عن أولويات الرؤساء المتعاقبين على الجزائر منذ الاستقلال عام 1962، مع وجود آبار النفط والغاز في الصحراء جنوب البلاد، وهي الثروة التي استغلتها كل الحكومات لتمويل الخزينة العمومية.
وزارة جديدة
هذا الواقع تغيّر بحكم الظروف، إذ تجد الجزائر نفسها اليوم مجبرة على الاستثمار في قطاع المناجم الاستراتيجي، فمخزون البترول يكفي لمدة 27 سنة، في حال الاستمرار في استهلاكه بالوتيرة الحالية ذاتها، بحسب وزارة الطاقة.
وقرر الرئيس عبد المجيد تبون في الفترة الأخيرة، في تعديل حكومي جزئي هو الأول بعد ستة أشهر على تقلّده الحكم، إنشاء وزارة للمناجم، لضمان استغلال اقتصادي أمثل للثروات المنجمية الكبيرة، التي تزخر بها الجزائر.
وصرح وزير المناجم محمد عرقاب، قائلاً "نهدف إلى النهوض بهذا القطاع في أقرب الآجال والتأسيس لقطاع قوي قائم على أهداف اقتصادية بحتة تخدم الصناعة الوطنية بخاصة الصناعة التحويلية، وتسمح بخلق فرص عمل للشباب".
برج إيفيل وحديد الجزائر
ويقول الخبير الجزائري في شؤون الطاقة بوزيان مهماه، إن الحديث عن الكمون المنجمي الجزائري، يقودنا إلى بعض الحقائق ذات الدلالات الرمزية البليغة. نذكر على سبيل المثال برج إيفل الذي بُني بالحديد الجزائري، ومعالم أميركية كثيرة جرى ترصيعها بالرخام الجزائري.
يعطي هذا صورة دالة على جودة عددٍ كبيرٍ من الموارد المنجمية الوطنية الكامنة في المجال الإقليمي الجزائري، بحسب مهماه. "لذلك نعتقد بأن المجال غير مستكشف إلى حدّ الآن، وهو واعد ومذهل، وسيكشف مستقبلاً عن مكنونات وذخائر نفيسة من الموارد المعدنية لدولة بحجم قارة، لأن ما يتوفّر حالياً من إحصاءات عن المكامن المنجمية هي ضئيلة وقديمة، وما ينشر من تقديرات يمكن وضعها ضمن دائرة التخمينات. ومن هنا، تبرز طبيعة التحديات الماثلة أمام مسعى تثوير الكمون المنجمي الجزائري".
7 تحديات
ووفقاً لقراءة الخبير بوزيان، فإن أوّل هذه التحديات، يكمن في ضرورة بعث نشاط الاستكشاف بكثافة بهدف إعادة تحديث خرائط المكامن المنجمية على طول الإقليم الجغرافي الجزائري، وهذا بحاجة إلى استثمارات ضخمة، باعتبار نشاط الاستكشاف المنجمي "عالي المخاطرة"، وهنا لا مفرّ من اللجوء إلى شراكات أجنبية كبيرة، تجلب الاستثمارات والتكنولوجيات والخبرات.
ثاني التحديات، الذهاب سريعاً إلى تعديل قانون المناجم الحالي والساري، وتضمينه رؤية واضحة وشفافة واستراتيجية ومستقرة لخلق جاذبية للاستثمارات الأجنبية مكافئة لجاذبية المجال الجيولوجي المنجمي الجزائري.
ثالثها، هو إشكالية استرجاع الكفاءات الوطنية والخبرات والإطارات التي تسرّبت في سنوات سابقة، والتي سُرّحت كنتيجة محتومة لتغييرات إلحاق هذا القطاع بوزارات عدّة (الطاقة والصناعة)، بما تسبّب في مرات كثيرة بانضغاط الهياكل الإدارية وانمحاء المناصب، أو بسبب الاختيار الطوعي عند البعض للذهاب إلى التقاعد أو فتح مكاتب خبرة مستقلة.
فيما يكمن التحدي الرابع، في أهمية إقامة شبكة نقل تصل العمق المنجمي الوطني بالمناطق الصناعية وموانئ التصدير، خصوصاً شبكة النقل بالسكك الحديد المكهربة بالطاقة الشمسية، كما ينبغي حشد كميات معتبرة من المياه في عمليات الاستخراج والصقل، تحديداً في المناطق التي تعاني شحّاً في المورد المائي.
سادس التحديات، هو تحدي تحيين القوانين والتشريعات والتنظيمات، لتعزيز إجراءات السلامة للعنصر البشري والحماية للعاملين، وكذلك لوضع سبل جديدة ومبتكرة تُسهّل إعادة إدماج الكفاءات المُتسربة (مصنع الحجار في مدينة عنابة للحديد والصلب خير دليل في ذلك)، ولتثمين شعب الهندسة وتحسين الوضع المالي والمهني للمهندسين.
سابع التحديات، يتمثل في وضع ميكانيزمات إجرائية بإمكانها تحقيق التوازن بين العوائد الاقتصادية والمتطلبات الاجتماعية (خلق مناصب الشغل خصوصاً) والحفاظ على البيئة، على الرغم من الأفضلية التي تتميّز بها مناجم جزائرية عدّة، على غرار مناجم الحديد في مشري عبد العزيز وغار جبيلات، التي هي مناجم مفتوحة على الهواء الطلق، والتي تمثل ثلاثة في المئة من الاحتياطي العالمي المؤكد من مادة الحديد، أو مناجم الفحم في مناطق الجنوب الغربي التي توجد على عمق ضحل.