في "امرأة مثلها" ( دار نوفل، بيروت)، روايته الجديدة، يحتفي الروائي الفرنسي مارك ليفي بالحب والصداقة والحياة، ففي الصفحة الأولى من الرواية، تأخذ الحياة من كلويه، إحدى الشخصيات المحورية فيها، ساقَيْها، فتقلب حياتها رأساً على عَقِب، للمرّة الأولى. وفي الصفحة الأخيرة، تعطيها ابنها، فتقلب حياتها رأساً على عَقِب، للمرّة الثانية، على اختلاف ما بين المرّتين في الرأس والعَقِب. وبين الصفحتين الأولى والأخيرة، تمتد الرواية على مسافة ثلاثمائة وستّين صفحة، هي مسافة بين القطع والوصل، أو بين "الموت" والولادة. فكيف يحتفي ليفي بالحب والصداقة في روايته؟
يتمظهر الحب في "امرأة مثلها" في ثلاث علاقات، تربط كلٌّ منها بين ثنائي يختلف طرفاه، طبقيّاً أو قومياًّ أو دينياًّ، فيأتي الحب ليردم فجوة الاختلاف، ويكون عابراً الطبقات والقوميات والأديان، ويشكّل شعوراً إنسانياًّ يتخطّى كلّ الاختلافات. وهو ما تترجمه الوقائع الروائية المختلفة، المتعلّقة بكلّ ثنائي على حدة، في إطار شبكة علائقية تنتظم الأحداث.
في العلاقة الأولى، يُشكّل إعجاب لالي، الفتاة الهندية لأسْرة غنيّة في مومباي، بديباك، الرياضي المرموق في لعبة الكريكت، حين تشاهده في حديقة شيفاجي، بداية علاقة بينهما، تروح تنمو حتى تُؤتي ثمارها. وحين تعلم أسرتها بالأمر، ترفض العلاقة لأسباب طبقيّة، وتكلّف من يعتدي على ديباك، فيحاول أن يُضحّي بحبّه خوفاً على حبيبته. غير أنّ الأخيرة لم تكن أقلّ تضحيةً منه، فتتحدّى أُسْرتها حرصاً على حبيبها، ويفرّان معاً إلى أميركا. وبذلك، تكون التضحية أولى تمظهرات الحب في الرواية. وهي تضحيةٌ يشتركان في بعض وقائعها، وينفرد كلٌّ منهما في بعضها الآخر.
أمّا الوقائع المشترَكة فتتجلّى في: تَخَلّي كلٍّ منهما عن مزاياه الموروثة أو المكتسبة، الرحيل عن الوطن، السّفر بحراً اثنين وأربعين يوماً، العمل ستَّ عشرة ساعة يومياًّ، الإقامة في بيتٍ متواضع في حي سبانش هارلم الشعبي قرابة الأربعين عاماً، والقلق على تأمين لقمة العيش والتقاعد المريح. أمّا الوقائع التي ينفرد بها كلٌّ منهما عن الآخر في التضحية فتتمثّل، على مستوى الزوجة، في: التخلّي عن الحياة الأسَرَية المرفّهة، القيام بواجباتها البيتية على أفضل وجه، السّهر على راحة زوجها، الحرص على تحقيق حلمه في اجتياز مسافة قياسية بالمصعد اليدوي الذي يقوم بتشغيله، الرغبة في العمل ليلاً للتخفيف عنه، إقناع سانجي ابن أخيها بالعمل بدلاً من صديق الزوج المصاب، إجراء بعض الاتصالات خفيةً عنه للاحتفاظ بعمله، الإصرار على ملازمة الزوج الموقوف في المخفر في الليلة الوحيدة التي ينام فيها خارج البيت خلال تسعةٍ وثلاثين عاماً، الاستعداد لدفع كل مدّخراتها للإفراج عنه، ورغبتها في التخلّي عن كلّ شيء والعودة إلى الهند كرمى له. وتتمثّل، على مستوى الزوج، في: التخلّي عن مجده الرياضي، عشقه إياها، تلبية رغباتها، القيام بكل ما يرضيها. ولعلّ هذه الوقائع التي يشتركان فيها أو ينفرد بها كلٌّ منهما هي التي جعلت رياح المستقبل تجري بما يشتهيان، فيعودان إلى مومباي بعد أن قام سانجاي باستعادة حق عمّته في الإرث الذي حرمها منه أخواها، فتشغل لالي منصباً مهماًّ في مجلس إدارة "مومباي بالاس أوتيل" الذي تشارك في ملكيّته، ويقود ديباك فيلقاً من مشغّلي المصاعد اليدوية. وهكذا، يصلان، بعد أربعين عاماً من الحب، إلى برّ الأمان، رغم ما هبّ عليهما من أنواء وأعاصير.
اللقاء الصدفة
في العلاقة الثانية، يُشكّل اللقاء الصدفة، في منتزه "واشنطن سكوير بارك"، بين سانجاي، الشاب الهندي الطموح العامل في مجال التكنولوجيا الحديثة، وكلويه، الرياضية الأميركية التي فقدت ساقيها في تفجير إرهابي خلال مشاركتها في ماراثون إيطالي كانت على وشك الفوز فيه، بداية علاقة بينهما. تروح تنمو من خلال اللقاءات والنزهات والاهتمامات المتبادلة وتبادل القصاصات المكتوبة حتى تبلغ مرحلةً، يتبادلان فيها القُبَل، ويعترفان بِحُبّ أحدهما الآخر، ويقومان بممارسة الحب فتشعر كلويه المبتورة الساقين بحريّتها. وتتخلّل العلاقة بينهما مشاحنات وسجالات كانت تزيدها قوّة. وتبلغ تلك العلاقة الذروة حين يتعادل طرفاها في التضحية؛ فسانجاي الشاب الغني، صاحب المشاريع الناجحة في التكنولوجيا، يبدي رغبته في الارتباط بكلويه، رغم وضعها الجسدي. وهي ترفض الارتباط به كي لا يخسر ما بنى، وتكتب له رسالة تعبّر فيها عن حبّها له، وتعتذرعن رفضها إيّاه، وتُعْلمُه بسفرها إلى فلورنسا. غير أنّ حبّه لها، وتشجيع عمّته لالي، وبوح عمّه ديباك بوجهة سفرها الحقيقية، تجعله يلحق بها، على جناح السرعة، إلى مدينة كونيتيكت حيث تقيم أمّها، ويُحقّقان حلمهما المشترك. وهكذا، ينتصر الحب على المعوقات القومية والدينية والجسدية.
وإذا كانت الحياة قد أخذت من الرياضية السابقة أعزّ ما تملكه بطلة الماراثون، أي الساقين، في تمام الساعة الثالثة إلاّ عشر دقائق من ذات يوم في إيطاليا، فإنّها لم تبخل عليها بالحنان الذي غمرها به سانجاي متخطّياً كلّ الاعتبارات، ما جعلها تستنتج أنّ الحنان أهمّ من الساقين. ثمّ تُغدق عليها الحياة ثروة مفاجئة بولادة ابنها الأوّل في مومباي، ما تعبّر عنه في خاتمة مذكّراتها بالقول: "عندما نلامس القعر ونصل إلى ما نظنّه الأسوأ، تخبّىء لنا الحياة ثروة غير منتظرة..." (ص 359). ولعلّ تذييلها المذكّرات بملاحظة: "الاثنين 13 أبريل،عند الثالثة إلاّ عشر دقائق..." وهو التوقيت نفسه الذي وقع فيه الانفجار الذي أطاح بساقيها، يُشكّل دعوةً إلى عدم اليأس والتحرّر من الماضي، وينطوي على رسالة روائية تدعو إلى عدم فقدان الأمل وتجديد الثقة بالمستقبل. في الصفحة الأولى من الرواية، تستيقظ كلويه في المستشفى على واقعة بتر ساقيها، وفي الصفحة الأخيرة منها، تستيقظ على صورة وليدها. وشتّان ما بين السريرين! ومن الجدير بالذكر أنّ هذه العلاقة الثانية هي المحورية في الرواية التي تحفّ بها العلاقات الأخرى سواءٌ أكانت علاقات حب أو صداقة.
طرفان غير متكافئين
في العلاقة الثالثة، وهي الأقصر في الرواية، يندلع الحب، منذ النظرة الأولى، بين: ريفيرا مُشغّل المصعد اليدوي في المبنى 112 في الجادة الخامسة، والسيدة كولينز التي تقيم مع زوجها في الطابق الخامس، أي أنّها علاقة بين طرفين غير متكافئين اجتماعياًّ، تتّخذ شكلاً مباشراً بعد رحيل الزوج؛ فهو الذي تعاني زوجته من مرضٍ خطير لا تعود معه تعرف أحداً، وتحتاج إلى نفقات علاجٍ باهظة لا قِبَل له بتحمّلها، يجد بين أحضان كولينز الحنان. وهي بدورها تجد فيه ملئاً لفراغ عاطفي، لم يستطع الزوج ملأه في حياته، فكيف بعد رحيله؟ لذلك، ما أن ينتهي من عمله الليلي في تشغيل المصعد اليدوي، حتى يُهرع إلى أحضانها بحثاً عن الدفء والحنان. غير أنّه يسقط ذات فجرٍ، وهو يغادر، في بيت الدرج. ويكسر ساقه، فيفكّر معظم سكّان المبنى في تحويل المصعد اليدوي إلى آلي، ما يؤدّي حكماً إلى الاستغناء عنه ليلاً، وعن صديقه الهندي ديباك نهاراً، بعد حوالى أربعين سنة من التفاني في خدمة السكّان. وهنا، تستيقظ مشاعر الصداقة والحب لدى بعضهم؛ فتتواطأ كلويه وكولينز على إتلاف القطع المزمع استخدامها في التحويل، وتدّعي الأخيرة أنّ عقدها الثمين قد سُرق، في محاولة منهما لثني لجنة المبنى عن قرارها. ويتبيّن لاحقاً أن ادّعاء كولينز جاء بهدف الحصول على المال من شركة التأمين للتكفير عن تسبّبها في سقوط حبيبها، ولتسديد نفقات زوجته العلاجية. وهنا، يتمظهر الحب بطريقة ملتوية، فالغاية في هذا التمظهر تبرّر الوسيلة. أمّا الحبيب المصاب، فيقرّر إخراج علاقته بها من السرّ إلى العلن، وإضفاء طابعاً رسمياًّ على العلاقة.
تقنيات روائية
تتألّف الرواية من نصّين اثنين، يتوزّعان السرد والأحداث، ويتعاقبان وفق وتيرة معيّنة، ويتكاملان في رسم الفضاء الروائي العام؛ النصّ الأساسي يعهد الكاتب برويه إلى الراوي العليم، ويتّسم بالتماسك والرشاقة والسلاسة، ويتبع مساراً خطّياًّ، ويتوزّع على سبعٍ وعشرين وحدة سردية مرقّمة، يتراوح طول الواحدة منها بين صفحة واحدة وإحدى وعشرين صفحة. والنصّ الرديف يعهد بروايته إلى كلويه، وهو أقرب إلى المذكّرات الشخصية والسيرة الذاتية الروائية منه إلى الرواية، وهو يتوزّع على ثلاث عشرة وحدة سردية مُعَنْوَنَة، يتراوح طول الواحدة منها بين فقرة واحدة وثلاث صفحات ونصف الصفحة. ويجري تمييزه عن النص الآخر بالحرف الأسود القاتم. وتتخلّل النصّين الأساسي والرديف رسوم شفّافة، تمثّل بعض الوقائع، وتضفي على الرواية رهافة معيّنة. والنصّان كلاهما جرى تعريبه بلغة رشيقة، صحيحة، من المعرّبة ناتالي الخوري، فبدا عربياًّ بقدر ما هو معرّب. هذا التوصيف يدفعنا إلى الاستنتاج أنّنا إزاء روايتين اثنتين في رواية واحدة. الأولى خاصّة تتمحور حول شخصية واحدة، والثانية عامّة تتناول سائر الشخوص. وهذا الاستنتاج يدفعنا إلى الحكم بأنّ الخاصّة هي لزوم ما لا يلزم، وكان الأفضل استيعابها في العامّة.