Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أبطال جنى نصرالله يواجهون أزمات المجتمع المدني

"ترف الهواجس" قصص تتطرق إلى قضايا الإنسان والجماعة

من تظاهرات المجتمع المدني في لبنان (يوتيوب)

تقدم الكاتبة والصحافية اللبنانية جنى نصرالله لقارئها مجموعتها القصصية الأولى من بعد عملين روائيين اثنين هما "النوم الأبيض" و"رحيل المدن". وتأتي مجموعتها القصصية الأولى هذه بعنوان "ترف الهواجس" (نوفل، 2020) لتنقل مشاهد مختلفة من الحياة اليومية الواقعية المحيطة بنا. ففي إحدى عشرة قصة تتنقل نصرالله بين نساء ورجال من مختلف الفئات العمرية ومن مختلف المستويات الاجتماعية وتسرد هموماً وهواجس موجودة في الطبيعة البشرية إنما لا يتحدث بها المرء لصغرها أو لاعتباره أنه الوحيد الذي تطرأ بباله، من هنا عنوان المجموعة "ترف الهواجس"، أي الأفكار والخواطر والهواجس التي يفكر فيها المرء وتؤرق عليه حياته من دون أن تكون عظيمة الشأن بشكل واضح.

تابوهات إجتماعية

ومنذ بداية مجموعتها، تبدأ نصرالله بتناول موضوع مثير للجدل في العالم العربي وهو موضوع العلمانية. فما زال هذا الأمر يشكل قضية اجتماعية مثيرة للجدل وللنقاش في العالم العربي ، وكم من كاتب أو مفكر تم عزله أو نفيه أو هدر دمه لتطرقه لهذا الموضوع بطريقة متسرعة. فالمجتمع العربي لا يزال يمشي بخطوات بطيئة في هذا الشأن وما زال على الإنسان العلماني أن يكون يقظاً لكيفية معالجته لهذا الواقع. وهذا بالتحديد ما يحصل لبطلي نصرالله اللذين يتعرضان للتهديد بالقتل بسبب علمانيتهما هذه. ومن دون أن تعالج الموضوع بطريقة مباشرة أو فذة، تتحايل نصرالله على قارئها وتنقل له حقيقة مشاعر بطليها اللذين يريدان أن يُدفنا بعيداً في ما أسمياه مقبرة علمانية. وطريقة نصرالله المواربة في تناول الموضوع والدفاع عن حرية كل فرد في اختيار انتمائه وإيمانه وطريقة تفكيره هي طريقة سلسة فيها الكثير من المهارة والحنكة.

موضوع آخر يحضر في القصة الثانية من المجموعة وهو الآخر يشكل تابواً في العالم العربي وهو المثلية الجنسية. فتتسلل نصرالله إلى هذا الموضوع أيضاً بهدوء وتؤدة لتتحدث عن فراس وصديقه آدم بطريقة مواربة هادئة، فتكشف للقارئ أن الشخص المثلي هو نفسه أحياناً ينطوي لضغوط المجتمع ويخفي حقيقة ميوله الجنسية خوفاً من الأحكام المسبقة والقاسية. فالإنسان المثلي شخص يختار أحياناً أن يهادن مجتمعه وأن يتفادى الضغوط والتنكيلات فيخفي حقيقته طلباً لحياة هادئة. فيشعر القارئ بحزن فراس وتوجسه من اكتشاف صديقة طفولته حقيقة ميوله الجنسية. يتعاطف القارئ مع فراس ويتفهم موقفه وينسى في صفحات قليلة قسوة المجتمع واضطهاده للمثليين.

أما القصة الثامنة بعنوان "شك" فهي تجسد في كل كلمة منها هواجس أية امرأة تجد نفسها في مكان ناءٍ مع رجل أو رجلين، فتروح الأفكار السوداء تتوافد على رأسها: هل يسيآن إليها؟ هل يستغلان قوتهما ويجبرانها على أي تصرف لا ترغب فيه؟ بماذا تراهما يفكران؟ هل يؤذيانها؟ هل يوقفان السيارة في مكان ما ويُنزلانها بالقوة؟ أفكار كثيرة وأسئلة تصيب القارئ والبطلة بالصداع والقلق. فماذا تراه يحصل؟

هواجس حقيقية

ما يلفت في مجموعة جنى نصرالله القصصية هو أنها تختار أن تمنح شخصياتها أسماءً واضحة. وكأنها بذلك تختار أن تجذرهم في الواقع وأن تمنحهم سماكة نفسية ووجوداً متماسكاً، فينسى القارئ أنه يقرأ قصة قصيرة في كتاب ما ليتحول البطل إلى صديق أو زميل أو مرآة على الحائط المواجه. كل قصة يحمل أبطالها وأبناؤهم وجيرانهم أسماء، وكأن نصرالله تؤكد بذلك أن الذين تخبر قصصهم يملكون وجوهاً ووجوداً ويمكن أن يكونوا جيراننا وأشخاصاً نلتقي بهم في الطرقات.

والقصص فعلاً قصص أناس حقيقيين بهموم واقعية وأزمات نفسية يمر بها كل قارئ. فسامر مثلاً في القصة الثالثة يكره الشتاء وتؤرقه العواصف وتوقظه الأصوات العالية من نومه، على عكس زوجته التي لا تستيقظ بسهولة، فيقول عنها بطرافة: "كيف تستطيع النوم وسط كل هذا الضجيج في الخارج؟ ألا يُفترض بالجنس اللطيف الذي يخاف من الفأر والصرصور أن يرعبه صوت الريح؟ ألا يُفترض بالجنس اللطيف أن يكون نومه خفيفاً؟" (ص: 50).

وفي القصة التاسعة تدور القصة حول مأساة التقاعد والفراغ الذي يشعر به أحمد، حاله في ذلك كحال أي شخص عامل بلغ سن التقاعد ووجد نفسه "في الجهة الأخرى من الحياة". فيرافق القارئ أحمد في يوم ميلاده ويقرأ حزنه وإحباطه والفراغ الذي بات يكتنف أيامه، ثم تأتي زوجته بطلباتها وتذمرها لتزيد الطين بلة.

ومن الجدير بالذكر أن الكاتبة لا تنسى التطرق إلى وسائل التواصل الاجتماعي في إحدى قصصها، فتعكس عبر بطلتها ديالى النفور من المعايدات عبر "واتساب" و"فيسبوك" وتتحسر على زمن التواصل البشري والزيارات وباقات الورد الحقيقية وقوالب الحلوى التي يأتي بها الأهل والأصدقاء للمعايدة. تتحسر ديالى على زمن كان الحضور الفعلي للشخص أساسياً للمعايدة بدلاً من إرسال رسالة اعتباطية لا تكلف مليماً حتى.

"ترف الهواجس" مجموعة قصصية هادئة محايدة تطرق موضوعات يومية واقعية بطريقة مهادنة فيها شيء من الظرف في بعض المواضع. وتقوم هذه المجموعة على قصص متماسكة لكل منها إطارها الواضح والمحدد، حتى الموضوعات الشائكة اختارت نصرالله أن تمر قربها بهدوء وخفة وببساطة. كما يظهر أسلوب نصرالله سهل القراءة وذلك يعود ربما لخلفية كتاباتها في عالم الصحافة. وعلى الرغم من أن النصوص فيها تنوع وتعدد في الموضوعات إلا أنها تفتقر أحياناً إلى التوهج أو إلى عنصر المفاجأة الجميل المتوقع في القصص القصيرة، من دون أن يعني ذلك خلوها تماماً من جمالية فنية. فعلى الرغم من غياب البلاغة اللافتة أو الصور الجذابة عمدت الكاتبة إلى تقنية تعدد الأصوات التي تظهر في عدد من القصص، فيتغيرُ الراوي وينتقل التحكم بالسرد من شخصيةٍ راويةٍ إلى أخرى غيرها، ما شكل ظاهرة في هذه المجموعة ومنحها حركة جميلة رشيقة.

المزيد من ثقافة