إلى أين يمضي "فيسبوك" ومؤسسه في قادم الأيام، وهل سيبقى مجرد وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثه حول الكرة الأرضية، أم أنه يوماً تلو الآخر يتحول إلى أداة من ضمن أدوات الرقابة العالمية، فيما مشروعاته تقودنا بالقطع إلى القول إنه يتحول إلى ما يشبه المشروع الأممي الموازي في العالم الرقمي، لكل ما هو حقيقي في العالم المادي الواقعي.
أسئلة عدة دفعتنا إليها تطورات المشهد الخاص بالشركة وبمؤسسها مارك زوكربرغ في الأشهر القليلة الماضية، لا سيما تلك التي انتشر فيها فيروس كورونا، وبعدما أثبت "فيسبوك" أنه تجاوز فكرة التسلية والترفيه، إلى اعتباره جزءاً أساسياً من حياة البشر ومستقبلهم.
ما الذي يريده السيد زوكربرغ الذي بات عاملاً فاعلاً في حياة بضعة مليارات من البشر؟
هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذه القراءة، التي تشاغب الماورائيات، ولا تكتفي بالنظر إلى ظاهر الصورة، ومن غير تهوين أو تهويل، وفي زمن تصنع فيه وسائط الاتصال الحدث، وتكوّن الرأي العام وتقود حياة البشر.
"فيسبوك" وزمن الجماهير الغفيرة
يمكن وعن حق أن نطلق على زمن "فيسبوك"، زمن الجماهير الغفيرة، ففي أوئل ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وقبل انفلاش أزمة كورونا، كان عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم قد زاد بأكثر من ربع مليار شخص.
أما شبكة "فيسبوك"، تلك الأداة غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية، فقد أعلنت في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي أن عدد مستخدمي أدواتها ينمو بسرعة هائلة، وقد بلغ المشتركون بها نحو 2.5 مليار مستخدم، منهم نحو 1.66 مليار يقومون باستخدام الشبكة بشكل يومي خلال الربع الأخير من العام الماضي.
عطفاً على ذلك، فإن إجمالي عدد الذين يستخدمون تطبيقات "فيسبوك"، والتي تشمل أدوات تواصل مثل "واتساب" وموقع تبادل الصور "إنستغرام" يرتفع إلى حدود الثلاثة مليارات نسمة... هل يحقق "فيسبوك" أرباحاً مالية لافتة للانتباه؟
من الواضح أن ذلك كذلك، فعلى سبيل المثال زادت إيرادات "فيسبوك" خلال الربع الأخير من عام 2019 لتصل إلى 21.1 مليار دولار، في حين زادت الأرباح بنسبة 7 في المئة لتصل إلى 7.35 مليار دولار.
هل كان لأرقام مستخدمي "فيسبوك" أن تغري بتجاوز مسألة التواصل، إلى التفكير في ما هو أبعد، وربما أخطر في الوقت ذاته، لا سيما أن "فيسبوك" اليوم أضحى بمثابة "رواق الأمم" الحديثة، حيث كل الأمم والشعوب والقبائل تلتقي عند أطرافه بضغطة أو بلمسة، لتضحى الأرض ملعباً صغيراً، واللاعبون جماعة ضئيلة العدد على كثرتها؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عالم زوكربرغ الخماسي الجديد
لا يمكن تقديم جواب على السؤال المتقدم من غير مراجعة دقيقة وعميقة لرؤية زوكربرغ التي ضمنها مشروعه لمجتمع معولم قبل نحو عامين، الأمر الذي فتح الأبواب واسعة للتساؤل: هل هذا الشاب الأميركي، يقف وراء تصور للمدينة اليوتيوبية الفاضلة، أم أنه يسعى لإنشاء الحكومة العالمية التي كانت يوماً خفية في نظر البعض، وها هو الآن وقت ظهورها للعالم عبر تلك الشبكة التي اعتبرها البعض، لا سيما أصحاب الرؤى اليمينية في أميركا والعالم بمثابة "الوحش"، ذاك الذي تحدثت عنه الرؤى "الأبوكاليبسية"، حيث نهاية الأزمنة على الأرض، بما يصاحب ذلك من مرويات تاريخية، يختلط فيها الواقع بالوهم، الحقيقة بالضلال؟
في مقدمة عالم زوكربرغ الخماسي الجديد، والذي في ضوئه سوف نفهم كل خطط الشبكة، نجده يشير إلى أن هناك الآن "فرص عالمية لنشر الخير والحرية، والتبشير بالسلام والتفاهم، وانتشال الناس من الفقر، وتسريع وتيرة التقدم، ويرى كذلك أن هناك تحديات كبرى تتطلب استجابات عالمية مثل إنهاء الإرهاب، ومكافحة تغير المناخ، ومنع الأوبئة، وعليه فإن الإنسانية أمام لحظة تجمعها كلها، لا في مدن أو أمم شتى بل في مجتمع عالمي واحد".
ما هي منطلقات زوكربرغ الخمسة التي عليها يرتكن في إقامة عالمه اليوتوبي الجديد؟
يمكن إجمالها في النقاط القليلة التالية، وفيها من الواضح أن هناك عقولاً وليس عقلاً واحداً قد قام بالتفكير والتدبير، وبلورة مثل تلك الرؤية وتتمثل في:
بداية ينحو الرجل لتعزيز فكرة وحضور المؤسسات الأممية التقليدية القائمة، ويتساءل كيف يمكننا مساعدة الناس في البناء في عالم تتناقص فيه عضوية هذه المؤسسات؟
وهنا من الواضح الإشارة إلى الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدوليين، أي الأدوات الرأسمالية الغربية التقليدية الحاكمة للعالم، والموجهة لدفة سفينته المثقوبة.
يحدثنا زوكربرغ عما يسميه مجتمع آمن يدفع الضرر، لكنه في الوقت ذاته مشروط بكيفية مساعدة الناس في مواجهة الأزمات، وإعادة البناء في عالم يستطيع فيه أي أحد أن يؤثر فينا حيثما كان.
عالم زوكربرغ الجديد، متجدد الأفكار، ويأخذ في الاعتبار كيفية بناء التفاهم المشترك في عالم لكل شخص فيه صوته الخاص.
مجتمع يعزز المشاركة المدنية، وهو أمر يشترط في ذهن صاحب الطرح بحتمية البحث في مساعدة الناس في بناء عالم يشارك في انتخابه أقل من نصف تعداد الناخبين أحياناً، وهذه جزئية تستحق التأمل كثيراً، لا سيما أن السؤال: ماذا سيكون من شأن نصف البشرية الآخر؟
عالم يعكس القيم الاجتماعية الشاملة، ويربط هذا المجتمع بإمكانية مساعدة الناس في بناء إنسانية مشتركة على المستويات المحلية والعالمية، مجتمع ممتد عبر الثقافات والأمم والمناطق، في عالم يرى أنه لا يحتوي سوى القليل من المجتمعات التي تتسم بالعالمية.
وطرح زوكربرغ هذا، والذي أشرنا إلى جوهره من غير التوقف طويلا أمام التفصيلات المتباينة، يستدعي أيضاً تساؤلاً جوهرياً: هل هذه رؤية اجتماعية إنسانية لمجتمع ما بعد الأزمات التي أخفقت أيديولوجيات القرن العشرين في التعاطي معها، أم أنها قراءة ومقدمة لتطورات سياسية قائمة وقادمة بالفعل، تقطع بأن "فيسبوك" وزوكربرغ لديهما من الآمال والأحلام ما ينبغي التوقف أمامه بالتحليل والتفكيك، ومن غير شيطنة للأفكار، أو تهوين من قدر أبعادها المستقبلية، المتخفية وراء التضاريس؟
"فيسبوك" من الإرهاب إلى كورونا
يمكن القطع بأن متابعة دقيقة للأدوار التي قام بها "فيسبوك" عبر شبكته المليارية حول العالم، تؤكد ما بات له من حضور ونفوذ، وقد أثبتت عدة تطبيقات له مقدرته الفعلية على جعل العالم "حارة كونية"، بعد أن مضى عالم الاجتماع والاتصال الكندي الأصل "مارشال ماكلوهان" في ستينيات القرن الماضي، للإشارة إلى فكرة "القرية الكونية".
فعلى سبيل المثال نجح "فيسبوك" عبر خدمة الـ safety chock في طمأنة الملايين حول العالم، حال حدوث كارثة طبيعية أو إنسانية لا سيما في أوقات الحروب، ومن ثم تفعيل النداءات الإنسانية الخلاقة لمواجهة المخاطر.
مثال آخر يدلل على أن "فيسبوك" قادر على المشاركة بعمق على مستوى الأزمات الكبرى، فقد سخّر كثيراً من جهوده وعبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، لمحاربة الإرهاب، ذاك الذي بات يطير حول العالم عبر أجنحة الأفكار، وبدا أن فريق العاملين في "فيسبوك" قد تتبعوا تحركات وتطورات إرهابيين كثر عبر حساباتهم الفعالة، والتعاطي مع الأجهزة الأمنية لتقليل المخاطر.
على أن "فيسبوك" قد خدمته ظروف وباء كورونا المستجد بشكل كبير للغاية، لا سيما في ضوء حركة الإغلاق والعزل التي عرفتها البشرية في الأشهر الثلاثة الماضية، فقد ساعد الوباء وظروفه الإنسانية في زيادة تصفح "فيسبوك"، حيث كشف تقرير منشور في موقع "تايمز نيوز ناو" أن خدمة "فيسبوك للألعاب" قد شهدت نمواً بنسبة 238 في المئة خلال أبريل (نيسان) فقط.
هنا ظهر وجه آخر من أوجه الخطر الفيسبوكي، والذي يتقاطع ما بين سلامة البشر، وخصوصية معلوماتهم وبياناتهم، ومستقبل عالمهم المعلوماتي المشوب بالغموض ماذا وكيف؟
إنها المعلومات الشخصية، والبيانات الفردية التي تقدم مجاناً وعلى طبق من ذهب للعاملين في المجتمعات الماورائية، لا سيما الأمنية والاستخبارية بنوع خاص... هل هذا استنتاج شخصي، أم أن الأمر اعتراف من زوكربرغ نفسه؟
في مقال له قبل شهر في صحيفة "واشنطن بوست" قال مؤسس "فيسبوك" ورئيس مجلس إدارته: "إن الحصول على بيانات دقيقة من كل مقاطعة في الولايات المتحدة يعد أمراً صعباً، كما أن الحصول على مثل هذه البيانات من جميع أنحاء العالم أصعب بكثير"، ويكمل: "مع وجود مجتمع من مليارات الأفراد على مستوى العالم، يمكن لـ"فيسبوك" مساعدة الباحثين والسلطات الصحية بشكل فريد في الحصول على المعلومات التي يحتاجونها للاستجابة للوباء وبدء التخطيط للتعافي".
لم يتوقف "فيسبوك" عند حدود مشاركات الأفراد التلقائية، إذ يبدو أنه أخذ المبادرة في طريق التحول من عرض المعلومات إلى صناعتها، إذ بدأ في زمن كورونا القيام بدور جديد ـ استطلاعات الرأي ـ الأمر الذي قام به باحثون ينتمون للشبكة، جمعوا من ملايين الأشخاص مليارات المعلومات، الأمر الذي يجعل "فيسبوك" مصدراً لكافة مراكز الأبحاث العلمية، وهي تتحسس الطريق في مكافحة كورونا.
أبعد من ذلك، إذ يبدو "فيسبوك" اليوم أقرب ما يكون للعب دور "السامري الصالح"، من خلال إصداره عدة خرائط جديدة للوقاية من الأمراض عبر برنامج يطلق عليه "البيانات من أجل الخير"، والتي تظهر بشكل إجمالي أين يسافر الناس، وأين يتفاعلون، وفسر زوكربرغ أنه من خلال توزيع الاستطلاعات على عدد كبير من الأشخاص الذين يعرف "فيسبوك" هوياتهم، يمكن للشركة توليد إشارة كافية لضمان إجراء أخذ العينات بشكل صحيح، وقد دخل "فيسبوك" في شراكة مع أعضاء هيئة التدريس في جامعة ميريلاند لتوسيع هذا الاستطلاع على مستوى العالم.
ما الذي يعنيه هذا، وهل تتوقف طموحات ومشروعات "فيسبوك" عند هذا السياق، أم في جعبة السيد زوكربرغ المزيد من الإثارة الممزوجة بالقلق؟
عملة رقمية عالمية جديدة
يعلم القاصي والداني أن البيانات هي المادة العصرية الجديدة التي تقوم مقام المواد الأولية في القرون الغابرة، تلك التي كفلت الفوز الصناعي العظيم لأوروبا وأميركا تاليا. فيما الوجه الآخر للبيانات والمعلومات يتمثل في العملة، وقد كان الدولار الأخضر هو سيد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، والركيزة الرئيسية في النظام المالي المعروف باسم "بريتوون وودز"... فهل في خطط زوكربرغ تغيير ملامح ومعالم النظام المالي العالمي الحالي، عبر العملة الرقمية الجديدة التي كثر الحديث عنها في العام الماضي؟
فقد كشف زوكربرغ عن تفاصيل خطته لإطلاق تلك العملة التي أطلق عليها "ليبرا"، مشيراً إلى أنه سيتسنى لعملاء "فيسبوك" الدفع بهذه العملة عبر تطبيقاته الخاصة، وعبر تطبيق "واتساب"، وأضاف أن شركة سيارات "أوبر" وشركة بطاقات الدفع الألكتروني "فيزا"، يحتمل أن تقبل الدفع بالعملة الرقمية الجديدة في المستقبل... لمن ستخضع عملية إصدار هذه العملة؟
يخبرنا زوكربرغ أنها ستخضع لإدارة مستقلة، وستكون مدعومة بأصول حقيقية، وسيكون الدفع باستخدامها بسهولة إرسال رسالة نصية.
ومن بين خطط زوكربرغ أن يقدم "فيسبوك" خدمات إضافية لمستخدميه مثل دفع الفواتير، وشراء القهوة، أو استخدام وسائل المواصلات المحلية من دون الحاجة لحمل نقود أو بطاقة بنكية.
الأكثر إثارة في خطة زوكربرغ لعملته الجديدة "ليبرا" هو أنها ستكون خاضعة لجهة مستقلة عنه مكونة من عدة شركات ومؤسسات خيرية تحت أسم "رابطة يبرا".
هنا يظهر سؤال لاحق مع ما لتبعاته ودلالاته التي لا تخفى عن أحد: من المستهدف من استخدام هذه العملة؟
الجواب بسهولة ويسر فائقين هم مستخدمي "فيسبوك" عبر العالم أول الأمر، الذين يقتربون من الثلاثة مليارات نسمة، وهو رقم مرشح للزيادة بقدر ازدياد أعداد الذين سيكون لهم حساب على منصات "فيسبوك".
هل من حماية ما لهذه العملة الأحدث في عالم العملات الرقمية؟
بحسب بيانات "فيسبوك" سوف تمتلك "ليبرا" مزايا عدة تؤكد جديتها وضمانها، في مقدمها أنها مربوطة بعدة عملات عالمية ومحمية من المضاربات المالية، ومدعومة بأصول حكومية، إضافة إلى استطاعة "فيسبوك" إصدار المزيد منها عند الحاجة، وهو ما يحميها بشكل أكبر من التقلبات، الأمر الذي من شأنه التشجيع على ممارسة المزيد من التجارة الإلكترونية اعتماداً على خدماتها، وتعزيز الإعلانات على منصاتها.
لكن على الجانب الآخر، يبدي فريق من المراقبين مخاوف جدية من أن تكون هناك آثار سلبية أمنية اقتصادية من جرائها، من نوعية استغلال الإرهابيين للعملة الجديدة، ونسبة خطورة التداول بها، لا سيما في ظل عدم وجود سيطرة حقيقية عليها، أو رقابة من البنوك المركزية للدول وأجهزتها المعنية، ما يجعلها مبهمة غير معروف المسؤول عنها، أو القادر على التحكم بها.
والثابت أنه مهما يكن من شأن مصير عملة "ليبرا" المقترحة من قبل زوكربرغ و"فيسبوك"، وسواء ظهرت للنور بالشكل الذي تناولته وسائل الإعلام، أو بغيره من الأشكال، فإن هناك حقيقة مؤكدة، وهي اقتراب وتماس أداة التواصل الاجتماعي الأميركية هذه من مناطق استقرار النظام المالي العالمي، وهنا فإن البعض يتساءل هل سيلعب "فيسبوك" على الصعيد العالمي دورا مشابها للذي لعبه في زمن ما عرف بالربيع العربي، وأدى إلى إسقاط وتغيير أنظمة، مع ما صاحب ذلك من قلاقل واضطرابات؟
القصة في بداياتها والسيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات.
زمن الرقابة الفيسبوكية العالمي
أحدث فصول الشغب الفكري التي صدرت عن "فيسبوك"، جرت وقائعها خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي مرت فيها ذكرى 75 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية من جهة، وإنشاء زوكربرغ محكمته العالمية لـ"فيسبوك" من ناحية أخرى، وفي ما بينهما أضحت علامة الاستفهام: هل "فيسبوك" اليوم بات سلطة رقابية على الأفراد وكذا الهيئات والمؤسسات الأميركية والدولية؟
ما جرى هو أن "فيسبوك" قام بحظر حسابات العديد من المستخدمين الروس، وذلك لنشرهم صوراً تاريخية مع علم الاتحاد السوفياتي الذي وضعه الجنود السوفيات فوق مبنى الرايشتاغ الألماني النازي، بعد انتصارهم في معركة برلين عام 1945.
هذا التصرف من قبل "فيسبوك" أزعج الروس الذين وصلوا إلى تلك اللحظة التاريخية عبر أرواح أكثر من 29 مليون إنسان، وعلى الرغم من أن القائمين على "فيسبوك" اعتذروا لاحقاً واعتبروا أن ما جرى خطأ، إلا أن الأمر كشف عن حقيقة امتلاك الشبكة حق المنح أو المنع متى تشاء.
مشهد "فيسبوك" الرقابي يتطور يوماً تلو الآخر، في اتجاه مغاير لما وعد به أو أشار إليه زوكربرغ من قبل، فقد أعلن صاحب "فيسبوك" عام 2018 أنه يريد أن يجعل منه منصة "أكثر ديمقراطية" بحيث يسمح للمستخدمين برفض قرارات "فيسبوك" نفسها ومراجعتها في ما يتعلق بالمحتوى الذي يسمح بنشره أو يحظر نشره، مضيفاً أنه يريد جهة مثل "المحكمة العليا" أو جهة ليس بها أي من العاملين لدى "فيسبوك" تتخذ القرار النهائي في ما يتعلق بما يسمح بنشره وما لا يسمح به كمحتوى على موقع التواصل الخاص.
كان الوعد بفيسبوك أكثر ديمقراطية، واليوم يبدو أكثر رقابة بعد أن أعلن زوكربرغ عن أسماء أعضاء مجلس الأشراف الذين يشكلون محكمته العليا الجديدة، والمكونة من 20 عضواً مهمتهم الحكم على المحتوى الذي يقوم الأفراد بنشره.
ولعل الناظر إلى محكمة "فيسبوك" العليا بشيء من التدقيق، يمكنه القطع بأنها تعكس ظاهرياً المضمون المستتر، فعلى السطح سيكون المجلس قادراً على إلغاء القرارات التي يتخذها "فيسبوك" وكذا الرئيس التنفيذي للشركة بشأن مراقبة الشبكات الاجتماعية، غير أن الواقع يخبرنا أن من يدفع للجوقة هو من يحدد اللحن، فهل سيكون أعضاء محكمة "فيسبوك"، الذي يتحول اليوم إلى واحدة من الشركات الأميركية الأسطورية في بورصة وول ستريت، صناع خير ومتبرعين لخدمة الإنسانية في عالم يقيس مردود الخدمات بالدولار فقط لا غير؟
ثم خذ إليك ما هو أكثر خطورة وإثارة في مشهد محكمة "فيسبوك" العليا ذلك المرتبط ببعض الأسماء التي تم اختيارها لتكون ضمن العشرين، ومنهم على سبيل المثال توكل كرمان، اليمنية التي تمثل جماعات الإسلام السياسي عامة، والإخوان المسلمين بشكل خاص، والتي وجها من وجوه قوتهم الناعمة لاختراق المجتمع الغربي الأوروبي والأميركي على حد سواء.
لم يكن الانتقاد موجها لـ"فيسبوك" من العرب أو الشرق أوسطيين فحسب، فقد كان الاختيار مقلقاً ولا يزال، بل انضمت أصوات مثل عضو مجلس الشيوخ الفرنسي "ناتالي غوليه" التي طالبت بمقاطعة "فيسبوك" بعد تعيينه الناشطة اليمنية الإخوانية، وقالت غوليه بهذا الشأن "تعيين كرمان هو خطأ، ونحن نلاحظ أن هذه مشكلة كبيرة، فنحن في فرنسا من بين العديد من الدول لدينا تساؤلات، فنحن نكافح لمحاربة مجموعة الإخوان في فرنسا، لذلك اختيار شخص يدعمهم يثير التساؤلات".
يفتح اختيار زوكربرغ لكرمان، ضمن مجلس حكمائه أو محكمته العليا من جديد التساؤل عن علاقة الولايات المتحدة بجماعات الإخوان المسلمين بشكل عام، وعن دور "فيسبوك" الذي مكنهم من الوصول إلى الجماهير الغفيرة قبل عقد من الزمان، وأثار القلاقل وأجج الاضطرابات، بل ذهب البعض في طريق ما هو أبعد وأعمق بالتساؤل: ما القادم في جعبة زوكربرغ على هذا الصعيد، وهل سيحصى عما قريب أنفاس الذين يستخدمون منصته ليتحول إلى أداة قمع سيبرانية في الفضاء الرقمي؟
زوكربرغ وحلم رئاسة أميركا
أحد الأسئلة المثيرة للتفكر هل يمكن للفتى زوكربرغ أن يضحى رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وهل هذا الحلم يداعب مخيلته؟
شيء ما في هذا السياق يؤكد أن طموحات الرجل غير محدودة ففي يناير (كانون الثاني) 2018 عين "ديفيد بلوف" مدير حملة انتخابات الرئيس السابق باراك أوباما ليرأس جهود السياسات والمناصرة في مؤسسته الخيرية التي تحمل اسمه.
هذا التعيين جاء بعد أيام قليلة من كشفه عن قراره بلقاء الناس في كل ولاية أميركية، فقد كتب في تدوينة بأسلوب يشبه بدرجة مريبة لهجة سياسي محنك يقول: "بعد العام العاصف الماضي (2016) أملي لهذا التحدي هو الخروج والتحدث إلى عدد أكبر من الناس حول معيشتهم وعملهم وتفكيرهم في المستقبل"... فهل يفكر هذا الشاب الذي بدأ مشروعه في غرفته الجامعية في هارفرد قبل أن يترك الدراسة في الترشح للرئاسة؟
قد تكون هذه مسألة مؤجلة الآن بالنسبة له، لكن بلا شك بات الوصول إلى البيت الأبيض يمر عبر "فيسبوك" مصدر معلومات العالم والمكون شبه الرئيس في بلورة الرأي العام والتوجهات بالنسبة للشارع الأميركي... فهل لهذا التقى زوكربرغ الرئيس ترمب على العشاء مرتين الصيف والخريف الماضيين؟
المؤكد أن اللقاءات جاءت في أوج أزمة محاولات عزل الرئيس ترمب من قبل الدمقراطيين، ما فتح المجال واسعاً للتكهن عما إذا كان هناك دور ما لزوكربرغ في تخفيف الضغط عن ترمب، أو القول بأن اللقاءات كانت لترتيب صولات وجولات ترمب المقبلة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل أي الانتخابات الرئاسية 2020.
مهما يكن من أمر الجواب فإن مارك و"فيسبوك" سيكون لهما دور في انتخابات 2020 على الرغم من كل ما يقال من عدم تكرار إشكاليات 2016 حيث اعتبر البعض، أن "فيسبوك" ساهم في إنجاح ترامب وإخفاق هيلاري كلينتون، وفي حديث لزوكربرغ لشبكة الإذاعة البريطانيةBBC قبل بضعة أيام أشار إلى أن منع التدخل في الانتخابات الرئاسية تحول إلى ما يشبه "سباق تسلح" في مواجهة دول مثل روسيا وإيران والصين، وفي مقابل ما رآه قصور عام 2016، عاد وأكد أن الشركة أضحت الآن أكثر استعداداً وجاهزية من أي شركة أخرى، وحتى أكثر من الحكومات ـ على حد تعبيره ـ لتفادي أي محاولة مستقبلية للتأثير في النتائج ويبدو أن لديه قراءات استشرافية عن محاولات سوف تجري من جديد لاختراق الحياة السياسية الأميركية.
هل أدرك الأميركيون أن "فيسبوك" وصاحبه قد تجاوزا حدود المسموح به ليضحيا إمبراطورية داخل الدولة، إمبراطورية الوحش الفيسبوكي؟
إرهاصات نهاية "فيسبوك"
ربما لا يمكن بحال من الأحوال تصور نهاية "فيسبوك"، بعد هذه الانطلاقة التي غيرت وجه التاريخ المعاصر، لكن هناك من بين أنصار اليمين الأميركي، سواء أقصى اليمين، أو يمين الوسط، من يرى أن زوكربرغ ليس إلا الوحش الرؤيوي، لا سيما أنه شريك للملياردير بيل غيتس، الذي تدور من حوله قصص مثيرة تربط بينه وبين أبحاثه البيولوجية، وفيروس كورونا.
في مقال مطول أخير له في "نيويورك تايمز" يكتب "كريس هيوز" الذي زامل "مارك زوكربرغ" في جامعة هارفارد وأسس معه الموقع محذراً من خطورة وضع "فيسبوك" على الشكل الحالي، ويطالب بضرورة تقسيمه إلى شركات أصغر.
زميل مارك يكتب يقول: "لا يمكن أن يترك مارك إلى حال سبيله على هذا النحو، وذاك التأثير غير المسبوق في التاريخ، ولا بد أن يكون هناك رادع لقوته"... فهل هي إذن أزمنة نهاية "الوحش الفيسبوكي"؟
قليلون الذين يعلمون أن مارك يطلق على كلبه الخاص لفظة beast أي الوحش، فهل هذه مصادفة موضوعية أم قدرية بحسب ما تعلمنا الفلسفة؟
هناك تساؤلات عميقة في مجتمع الاستخبارات الأميركية عن "فيسبوك" وحدود نفوذه، وتأثيره في مجريات الحياة السياسية بشكل عام في الولايات المتحدة، وليس ما يخص الانتخابات الرئاسية فحسب، وعند هولاء أن "فيسبوك" يبدو اليوم موجه لتكوين الرأي العام، بأكثر من كونه منصة لعرض الآراء المختلفة للجماهير، وهناك بين مشروعاته المتعددة المطروحة، القائمة والمقبلة، ما يشبه الحبل السري مع الدولة الأميركية العميقة.
هل من خلاصة؟
يقول بعض المؤمنين بفكر المؤامرة التي تحكم العالم، إن طرائق حياة وتفكير "مارك زوكربرغ"، تدلل على أنه يسعى لحكم العالم، فهو منفتح على جماعات ضغط إثنية في الولايات المتحدة وخارجها، خصوصاً تلك الجماعات المؤثرة في حكم العالم من موسكو إلى واشنطن، ثم هو أميركي الجنسية أي أنه مواطن للإمبراطورية الرومانية المعاصرة، بما يمكنه من التمتع بالقوة والمنعة، وها هو يختار زوجة صينية، وكأنه بذلك يمد أطرافه ونسبه ونسله إلى القطب العالمي المقبل.
لا يمكن أن تعني السطور السابقة الحقيقة، كما أن إنكارها لا يعني أنه ليس وراء الأكمة ما وراءها، وفي كل الأحوال يبقى السؤال: ما الذي يريده زوكربرغ الذي أعلن قبل أيام عن حاجة شركته لعشرة آلاف موظف للعمل عن بعد؟
الليالي حبلى بالمفاجآت، لا سيما إذا كانت ليالي أميركية، تلد كل غريب وعجيب.