إنه عصر الذكاء الاصطناعي، وقد أوكل إلى العقل الآلي القيام بالمهمات كلها في عالم رقمي وفّر كل أساليب الراحة مع أقل قدر ممكن من التفكير، فكل ما علينا "القيام" به هو الإعجاب والمشاركة. والبرمجيات ستتكفل بقياس مدى تأثرنا وتأثيرنا وشهرتنا "الافتراضية"، معتمدة الأرقام مقياساً في التصنيف.
والسؤال، هل كل مؤثر مشهور، وهل كل مشهور بإمكانه أن يكون مؤثراً حقيقياً؟
وهل الشهرة شرط للتأثير أم أن قوة التأثير تخلق شهرة متنامية؟
والأهم، هل "المؤثرون" الحقيقيون فاعلون على مواقع التواصل الاجتماعي؟
لقد تحوّل وصف المؤثر الحقيقي صاحب التأثير الإيجابي في حياة التواقين إلى عالم أكثر وعياً ومعرفة، إلى نمط حياة "افتراضي" تحكمه خوارزمات متبدلة تتكيف مع متطلبات السوق وسلوكيات المستهلكين.
"المؤثرون" لفظة ارتبطت في وعينا بأسماء قلبت التاريخ وغيّرت المفاهيم والمعتقدات الفكرية السائدة، وأحدثت تحولاً في الوعي تجاه قضايا ثقافية ومعرفية ووجودية جدلية، وقد أصبحت اليوم لقباً "رقمياً" يُطلق على كل من يملك عدداً معيناً من المتابعين في حسابه الاجتماعي "الافتراضي".
وبذلك، حُجم المفهوم ذو الارتباط الوثيق بأصحاب الفكر والتغيير المجتمعي، ليُربط بمشاهير الحياة الافتراضية، شاملاً فئة كبيرة من المراهقين والكوميديين والفاشينيستات، الذين يمتلكون حضوراً قوياً وتأثيراً يمتد على حياة فئة كبيرة من المتابعين. فما يقوم به هؤلاء المشاهير عبارة عن عملية إقناع تستخدم فيها الكاريزما والتأثير العاطفي لصورتهم وتتجلى في ميل المتابعين إلى محاولة تقليد سلوكهم ونمط حياتهم في مجال التغذية والتجميل والموضة والتكنولوجيا، أي في التسويق للخيارات الاستهلاكية.
إذن، كيف نُضخم عملية ترويج تجارية ممنهجة تستخدم فيها منصات التواصل الاجتماعي كَقنوات اتصال بهدف "البيع"، لنُلصق بصاحبها لقباً يحمل دلالة تاريخية ذات خصوصية في عقول الملايين من البشر، بعد تفريغه وحصره في التأثير التسويقي؟
التسويق المؤثر
انتشر مفهوم "التسويق من خلال المشاهير" عبر منصات التواصل الاجتماعي تدريجاً إلى أن برز بشكل واضح مع صعود تطبيق إنستغرام الذي شكل نواة الترويج الرقمي بسبب بُنيته البرمجية المعتمدة على الصورة وفلاترها وتأثيراتها في نفوس المشاهدين.
فالقدرة على الإقناع والتأثير في قرارات الشراء شغلت بال الشركات ومديري التسويق، بخاصة في الطبيعة الرقمية المتقلبة للسوشال ميديا، إلى أن جاء الحل السحري على أيدي المشاهير الذين استغلوا الكاريزما الخاصة بهم لدمج رسائل تسويقية مع محتواهم ومشاركتها مع المتابعين والمستهلكين المفترضين لحثهم بشكل مباشر أو غير مباشر على اتخاذ قرار شراء منتج أو خدمة.
وهنا، لا يمكن إغفال أهمية مساهمة المشاهير في تقوية نزعة الحياة الاستهلاكية، وجذب عملاء جدد وزيادة ولائهم، في عصر فَقد فيه التسويق الرقمي التقليدي جزءاً كبيراً من فاعليته، وأصبحت أرقام المتابعين وتفاعلاتهم تقابل نقدياً. فكلما ازدادت أرقامك ازداد تأثيرك التسويقي. ولكن، إذا كانوا يؤثرون في قرار الشراء والتوجه الاستهلاكي للمتابعين، فهذا لا يبيح لنا وصفهم بالمؤثرين احتراماً لآلاف المؤثرين عبر التاريخ.
الجموع والمؤثرون
يَفرض "المجتمع الافتراضي" دوراً نمطياً تستسلم له وتنجر إلى قواعده مهما أبديت اعتراضاً في البداية. إنها شروط عالم قائم على الكم والعدد بغض النظر عن النوع والهدف، شرط يفرضه عليك تطبيق رقمي لا قِيَمي، لا يفهم إلا بلغة الأرقام، يقيّم لمحتوى على أساس عدد المعجبين "الافتراضيين"، حيث تقديم الإعجاب والاعتقاد بالأفكار أصبح قراراً سريعاً ومجانياً يتحقق بمجرد أن تضغط زر المتابعة والإعجاب، لتحسب من المنضمين إلى قائمة المؤمنين بالفكر، بغض النظر عن تلقيك له.
الانتماء الفكري هذا كان يقاس سابقاً في العالم الواقعي بمؤشرات فعلية وسلوكيات تتطلب جهداً فكرياً ومادياً للاطلاع والمتابعة وتعزيز الاقتناع بالأفكار، من حضور محاضرات وشراء كتب ومؤلفات وقضاء وقت طويل في القراءة لفهم وتحليل الأفكار والنظريات والطروحات قبل التأثر والاعتقاد بها.
لكن إنسان الحياة الافتراضية نُمّط بشكل لا يُميز معه قيمة الأفكار المختلفة والطروح الجديدة، وغالبية الناس تفضل قراءة الجمل والآراء المكرورة لأنها أسهل وأسرع في الاستجابة من الأفكار الجديدة، في عصر تبادل "الإعجاب" والأفعال الافتراضية، والمجاملات في أي حال.
عودة إلى الأصل
أين المؤثرون اليوم؟
إذا كنت تبحث عنهم في مربع البحث على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، فأنت تبحث في المكان الخاطئ، فغالبيتهم لم تتأقلم مع هذا العالم الخوارزمي المنقاد رقمياً، ولا مع شروط تتعارض مع أصحاب الفكر الحر والشخصيات الفطرية المتحررة من الأرقام الوهمية، ومن أضطر إلى مواكبته تطبع تدريجاً بطباعه وأصيب بعدوى الجموع، وربما فقد تفرده الفكري، فالفكر هنا يُتفهه المجموع الرقمي بسلوكياته الممجوجة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأهم من ذلك، أن لا جموع وراء المؤثرين الحقيقيين. ابحثوا عن صفحاتهم في العالم الرقمي، في حال وجدتموها، انظروا إليها إنها خاوية من الأرقام المليونية. وهذا السلوك ليس جديداً بل متفق عليه مسبقاً في "العالم الواقعي". فكلما عَلا شأن فكر الشخص ومحتواه قلت فُرصه بالانتشار والتأثير وحُيّد منتجه الفكري لأسباب سياسية وتوجهات وولاءات، والأمثلة كثيرة.
ولكن، هل منعهم هذا الوضع من الإنتاج الفكري والنشاط الميداني؟ أم ساعدتهم قلة فوضى الاتباع على العمل بمنهج علمي وفكري دقيق وصرف، بعيداً من المجاملات والإعجابات الكمية التي تقود الشخص أيّاً كانت ثقافته إلى وهم العظمة وتبعاتها.
وهل ساعدهم عدم إرضاء غرورهم الاجتماعي، من قبل جموع المعجبين، على تنمية غرورهم المعرفي، فحققوا كياناً متميزاً وابتكروا هوية فكرية وشخصية متفردة بشكل حُر بعيداً من تفضيلات الآخرين؟