Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديفاكاروني الهندو ـ أميركية بين صراع الأجيال واصطدام الحضارات

حكايات ثلاث في رواية تكشف ملامح عالم شبه مجهول

الروائية الهند - اميركية ديفاكاروني (موقع الكاتبة)

رواية "قبل أن نزور الآلهة"، الصادرة في سلسلة "إبداعات عالمية" الكويتية، هي الإصدار الثامن عشر للشاعرة والروائية الهندو ـ أميركية شيترا بانرجي ديفاكاروني، بعد أربع مجموعات شعرية، واثنتي عشرة رواية، ومجموعة قَصَصية واحدة. وهي رواية تتناول صراع الأجيال، والاصطدام بين نمطين مختلفين للعيش، هندي وأميركي، على أرضٍ أميركية، خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، والعقدين الأوّلين من القرن الحادي والعشرين. وتفعل ذلك من خلال رصد جوانب من حياة ثلاثة أجيال متعاقبة، تمثّل الأوّل منها الجدّة سابتري في مدينة كولكاتا الهندية، وتمثّل الثاني والثالث الأم بيلّلا والحفيدة تارا في مدينتي هيوستن وأوستن الأميركيتين. ومن خلال هذا الرّصد، تتم إضاءة جوانب من نمطي العيش، الهندي والأميركي، وطبيعة العلاقات بين الأجيال المتعاقبة، وضمن الجيل الواحد، لا سيّما في النمط الهندي.

ثمّة نوع من المفارقة بين مسار الأحداث في العالم المرجعي الذي يحيل إليه النص، في فضاءيه الهندي والأميركي، وبين مسارها في النص. وهذا النوع مبرّر روائياًّ وفنّياًّ، وهو ما يحقّق روائيّة الرواية. ففي حين تجري الأحداث في الواقع وفق مسار زمني خطّيّ، نراها تخضع في النص لمسار متكسّر، يكسر النمط الخطّي، وهو ما يتمظهر في تواريخ الفصول التسعة، المتعاقبة نصياًّ، وغير المتعاقبة زمنياًّ، التي تشكّل الرواية. ويكون على القارئ أن يعيد تركيب الحكايات الثلاث فيها، بإحالة الأجزاء الموزّعة منها على الفصول، وفق اعتبارات فنّية روائية، إلى أصحابها. وهو ما سنقوم به في هذه المقاربة، من خلال اقتفاء حكايات الجدّة والابنة والحفيدة، ورصد نقاط التقاطع والافتراق فيما بينها.

الجيل الأوّل

الجيل الأوّل في الرواية تمثّله الجدّة سابتري المولودة في أسرة فقيرة، لأبٍ كاهن وأمٍّ تتقن صناعة الحلويات، وهي ذات أحلام جريئة يحول الفقر دون تحقيقها، غير أنّ زيارتها لأسرة غنية في القرية برفقة أمّها دورغا، لتوصيل الحلويات، تشكّل انعطافة في حياتها، تتعهّد سيدة القصر المتكبّرة بمساعدتها لمتابعة دراستها الجامعية، تؤمّن لها السّكن والتكاليف، حتى إذا ما ضبطتها في علاقة حبٍّ بريئة مع ابنها راجيف، تقوم بطردها شرّ طردة، فتلجأ إلى غرفة النساء العمومية في كلية الرجال، حيث يعثر عليها بيجان أستاذ الرياضيات المعجب بها، ويسكنها في بيت شقيقته، ويتزوّج منها لاحقاً، وينجبان بيلّلا وطفلاً آخر يخطفه الموت.

في حياتها، تُصادف سابتري الكثير من النجاحات والإخفاقات؛ فعلى المستوى الأوّل، تحقّق حلمها في متابعة الدراسة، تنشئ محلاً للحلويات باسم أمّها دورغا، تتزوّج من أستاذها الذي يترقّى وظيفياًّ ليشغل رئيس شركة النفط في آسام، وتعيش حياةً مرفّهة، وتنجز صيغة طهوٍ جديدة دون مساعدة أحد، فيكون لها براءة إنجازها. وعلى المستوى الثاني، تُفجَع بموت طفلها، ويموت زوجها في حريق مصفاة النفط، وتسافر ابنتها إلى أميركا، في غفلة منها، لترتبط بسانجاي، حبيبها الذي سبقها إليها، وسبق لسابتري أن رفضت ارتباط ابنتها به. وفي المستويين، تبني الكاتبة شخصية طموحة، صارمة، وفيّة، مضحّية، محافظة، أمينة على العادات والتقاليد. وهذه الصفات تجري ترجمتها إلى وقائع روائية؛ فتقوم سابتري بمتابعة الدراسة، ترفض زواج ابنتها من شابٍّ متمرّد، تؤسّس محلّ حلويات تخليداً لأمّها وضماناً لمستقبل ابنتها فتجمع بين البنوّة البارّة والأمومة المضحّية، تبدي رغبتها في السفر إلى ابنتها، رغم إمكاناتها المحدودة، للوقوف إلى جانبها في ولادتها، متجاوزةً عقوقها. ويتعدّى إحساسها بالمسؤولية الابنة ليشمل الحفيدة، فحين تتصل بها ابنتها بيللا، بعد انقطاع، تطلب مساعدتها على ابنتها تارا التي ترغب في الانقطاع عن الدراسة، تتأثّر كثيراً، وتكتب رسالة طويلة للحفيدة تشكّل عامل شفاء لها لاحقاً. والمفارق أنّ ذاك الاتصال كان سبباً في موتها

الجيل الثاني

الجيل الثاني في الرواية تمثّله الابنة بيلّلا، المولودة، خلافاً للجدّة، في أسرةٍ مرفّهة، لأبٍ يشغل وظيفةً مهمّة وأمٍّ متعلّمة، ما يجعلها تعيش حياة جميلة، وتتابع دراستها الجامعية حتى إذا ما تعرّفت في الجامعة إلى سانجاي الزعيم الطلاّبي الشيوعي، وأُعجِبَ بها، وأقدم على طلب يدها من أمّها، تقوم الأخيرة برفض طلبه، ما يجعله يتّخذ موقفاً منها تجري ترجمته في غير واقعة روائية. غير أنّ بيلّلا التي تنزع بدورها إلى التمرّد، تلحق بسانجاي الذي سافر إلى أميركا هرباً من الملاحقة، في غفلةٍ من أمّها، وبذلك، تمارس عقوقاً يترك أثره في الأم، وتأتي قطيعتها لها، حرصاً على مشاعر زوجها، لتزيد في الطين بلة. ومع هذا، تغفر لها الأمّ فعلتها، وتبدي استعدادها للسفر إليها عند الولادة، غير أنّها، مرّة ثانية، تؤثر زوجها على أمّها، فتتهرّب من دعوتها إليها.

في أميركا تُقيم بيللا مع زوجها في شقّة ضيّقة، ويعيشان حياة مستقرّة نسبياًّ، ويُنجبان تارا، ويتوزّعان الأعباء لتأمين استقرار الأسرة الصغيرة، في نمط عيش جديد،  يقدّم المنفعة على المبدأ، ويكون البقاء فيه للأقوى. غير أنّ دخول بيشو، صديق زوجها منذ أيام الدراسة الذي تدبّر أمر تهريبهما إلى أميركا، على الخط، وتدخّله في شؤون الأسرة يؤدّي إلى زعزعة استقرارها، فَتَظاهُرُ بيللا بوجود علاقة ما بينها وبين بيشو، في محاولةٍ منها لإثارة غيرة الزوج ودفعه إلى التخلّي عن صديقه، يُؤتي ثماره، فَيَشي الزوج بصديقه، لدى أصحاب الموتيل الذي يديره، ما يؤدّي إلى طرده من العمل، وانتقاله إلى ولاية أخرى، حيث يموت في غضون سنتين. لكنّ بيللا لم تسلم أيضاً من تداعيات فعلتها، فما إن نجحت في إدخال الشك إلى عقل زوجها حتى يقرّر الانفصال عنها مؤجّلاً تنفيذ قراره حتى تكبر تارا ويصبح بوسعها تدبّر أمرها، وهو ما يفعله بالفعل، ما يؤدي إلى تفكّك الأسرة، وتفرّق أفرادها الثلاثة، وإذ يكتشف سانجاي لاحقاً خطّة الزوجة، يندم لات ساعة مندم.

 في مقابل هذه الإخفاقات، وما ترتّب عليها من إحساس بالذنب، والفشل، والعقوق،  تُحقق بيللا إنجازات أيضاً، فظهور كينيث، جارها الأميركي المثلي، في حياتها، يحدث فيها تحوّلاً كبيراً، فهو يعثر لها على عملٍ يدرّ عليها دخلاً إضافياًّ يُقوّم أوَدَها، ثمّ  يشير عليها بإنشاء مدوّنة باسمها تعرّف بالمأكولات الهندية، وبتأليف كتب في الطهو، وهو ما تفعله ويلقى رواجاً كبيراً. وإذا كان نمط العيش الأميركي أدّى إلى تفرّق شمل الأسرة، بالطلاق (الزوج) أو الزواج (الابنة)، فإنّ نمط العيش الهندي يؤدي إلى جمع من تبقّى من أفرادها، فيشكّل سقوط الأم وكسر ساقها وعجزها عن تدبير شؤونها، سبباً لعودة ابنتها تارا إليها لتأمين انتقالها إلى مركز رعاية المسنّين، ما يشكّل مناسبة للكلام واستعادة الذكريات وقراءة الألبومات القديمة حتى إذا ما عثرت على رسالة جدّتها التي أرسلها صديقها بعد وفاتها، تشكّل الرسالة نوعاً من مصالحة متأخرة مع الماضي، وعاملاً من عوامل شفائها ممّا تعاني منه.

الجيل الثالث

الجيل الثالث في الرواية تمثّله تارا الحفيدة، المولودة في أميركا ولم يسبق لها أن زارت الهند، وهي كجدّتها وأمّها تعرف الإخفاقات والنجاحات، وتسقي أمّها من الكأس نفسها التي سقت منه أمّها، لا سيّما أن علاقتها بها كانت ملتبسة، فتنقطع عنها عقداً كاملاً بعد طلاقها من أبيها، وهو ما تفعله مع الأب أيضاً بعد أن كانت علاقتها به إيجابية. وهنا، يطفو نمط العيش الأميركي على سطح العلاقات بين أفراد الأسرة. والمفارق في حياة تارا أنّ عدم حصولها على الاكتفاء العاطفي في كنف الأسرة ولّد فيها ميلاً مَرَضياًّ إلى السرقة، فأصبحت تجد لذةً في سرقة أشياء لم تكن بحاجة إليها، وسرعان ما تتخلّى عنها، الأمر الذي يؤدّى إلى طردها مراراً من مواقع عملها، ويدفع بها إلى زيارة معالجة نفسية للشفاء من هذه الآفة.

 في مقابل هذه الإخفاقات، نجحت تارا في تأسيس شركة خاصّة بها، تعمل هي في قسم الموارد البشرية منها، ونجحت في تأسيس أسرة صغيرة مستقرّة، قوامُها زوجٌ محبٌّ متفهّم، وابنٌ بارٌّ بأمّه. وبات جلّ همّها أن تكون زوجة ناجحة، وأُماًّ رؤوم. وعلى الرّغم من القطيعة التي ميّزت علاقتها بأمّها، وفيها يعيد التاريخ نفسه، من خلال قطيعة الأم للجدّة، يأتي اللقاء الأخير بين تارا وأمّها، في بيت الأخيرة، ليحاول إصلاح ما أفسد الدهر، وتأتي قراءة رسالة الجدّة لترمّم تصدّعات تارا النفسية، وتقرّبها من الشفاء. لعلّ الكاتبة أرادت القول من خلال ذلك أنّ الحل يكمن في المصالحة مع الحاضر ممثّلاً بالأم، وبالعودة إلى الجذور ممثّلةً بالجدة. ولعلّها، بذلك، تخفّف من التداعيات التي نجمت عن صراع الأجيال الثلاثة،  وتعيد الاعتبار إلى النمط الهندي للعيش على حساب النمط الأميركي. 

تصطنع ديفاكاروني لحكاياتها خطاباً روائياًّ مركّباً، فتوزّع الحكايات على تسعة فصول متعاقبة نصّياًّ، متداخلة زمنياًّ. ويقترن عنوان الفصل الواحد بذكر السنة التي تحصل فيها الأحداث، ما يجعل النص مجموعة "سنويّات" (قياساً على يوميات). وهذه السنوات تتراوح بين 1963 و 2020، أي أنّها تغطي الماضي، والحاضر، والمستقبل باعتبار أن الرواية صدرت بالعربية في الـ 2019، وكُتبت بالانكليزية قبل هذا التاريخ بالتأكيد. وتسند الكاتبة روي هذه الفصول إلى راوٍ عليم واحد وآخر مشارك متعدّد بتعدّد شخوص الرواية، وقد يتناوب الراويان الروي في الفصل الواحد، ما يشكّل دليلاً آخر على الخطاب المركّب.

 

المزيد من ثقافة