Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فريد أبو سعده يوظف المسرح في لعبة السرد المتعدد

رواية "قِبلة الريح" تستعيد الجو الصوفي في تقنيات حديثة

الشاعر المصري فريد أبو سعدة (دار النشر)

الصفة البارزة فى مسيرة الشاعر المصري فريد أبو سعدة هي أنه متعدد الشواغل والاهتمامات. فهو – بداية – يعد من أبرز شعراء السبعينيات فى مصر وله فى ذلك خمسة عشر ديواناً، ولا يقل منجزه فى الكتابة المسرحية أهمية عن ذلك فقد أصدر ست مسرحيات، أشهرها وأكثرها أهمية مسرحية "ليلة السهروردى الأخيرة" التى سوف تكون أحد محاور هذه الرواية "قِبلة الريح"، الصادرة حديثاً عن دار "النابغة". ومارسَ النقد الأدبى في "صخب الظل"، والسيرة الذاتية في "الصبى الذي كنتُ". ويبقى السؤال: لماذا لجأ فريد أبوسعدة – أخيراً – إلى كتابة الرواية؟ وكيف أثَّر شعره ومسرحه على بنية نصه الروائي الوحيد؟ لا أظن أن شاعرنا وقع في غواية تلك المقولة الشائعة أننا نعيش زمن الرواية بعد أن حقق منجزه الشعري والمسرحى الكبير الذي جعله من أكثر أبناء جيله مقروئية بسبب هذه الروح الصوفية السارية في أعماله، وابتعاده – في الوقت نفسه – عن التعقيد والغموض اللذين وسما منجز غالبية شعر السبعينيات. وفي هذا السياق تبدو لي "قِبلة الريح: ذكرُ ما جرى في بيت حُب الرُمان"، امتداداً لعالمه الشعري والمسرحي. إنها أقرب إلى أن تكون "سيرة إبداعية"، توازي سيرته الذاتية المشار إليها، وتقوم على ما يسمى مسرحة الحدث، معتمدة على تقنية "المسرح داخل المسرح" بالمفهوم البريختي الذي يسعى إلى "التغريب" في مقابل "الاندماج" الأرسطي. فالرواية – في جانبها الأساسي – تستدعي مسرحية "ليلة السهروردي الأخيرة" ورغبة أحد المخرجين؛ "مراد الكاشف" في تقديمها على خشبة المسرح.

وعندما لا يتمكن من ذلك عبر أحد مسارح الدولة، يقرر الاعتماد على مجموعة من الهواة: "شهدي كمال" (فنان تشكيلي) و"عز الدين حنفي" (صحافي) و"غانم محفوظ" (روائي) و"محمود غلَّاب" (شاعر) و"أحمد سلامة" (مطرب وملحن) و"إنعام سالم" (ممثلة) ويوزع عليهم شخصيلت المسرحية على التوالي: السهروردي، مجد الدين بن صلاح الدين الأيوبي، أمير حلب، صلاح الدين، نوران، شاهندة. وهكذا تتوزع مشاهد الرواية بين الحاضر والماضي الذي يتم استحضاره من خلال "البروفات" التي تقوم بها الفرقة، ولا ندعي أن ذلك جاء بتأثير من مسرحية صلاح عبد الصبور "ليلى والمجنون"؛ لأنه "تكنيك" معروف واستخدم كثيراً في المسرح والرواية على السواء. وهكذا ظلَّ السرد مراوحاً بين الماضي والحاضر من خلال بنية "التماثل". فكثيرٌ مِن الأحداث الراهنة تجد ما يناظرها في الماضي، ومن ذلك - مثلاً- حكاية "إنعام سالم" التي تزوَّجت مِن ثري لم يقترب منها لعجزه إلى أن اختفى تماما دون أن تعرف عنه شيئاً. وهي حكاية تناظر قصة "شاهندة" زوجة أحد الصوفية الذي لم يعاشرها ليس لعجز فيه بل لأنه يؤمن بمذهب "التجريد" الذي يقوم على قتل "الشهوة". وليس أدلّ على هذا التناظر والتداخل مِن أن تقوم "إنعام" بدور "شاهندة".

التماثل والهروب

ويستمر هذا التماثل بين "شهدي كمال" والسهروردي حيث مثَّل الأولُ ملاذاً لـ"إنعام" مِن ماضيها المؤلم، مثلما كان السهروردي طاقة الأمل التي انفتحت أمام شاهندة للهروب من واقعها البائس. هذه الانتقالات الزمنية توظف إحدى التقنيات السينمائية، وهي تقنية المونتاج حيث ينتقل السرد، على سبيل المثال، مِن لقاء السهروردي، وكان لايزال في مقتبل شبابه، وشاهندة إلى مشهد آخر معاصر هو لقاء إنعام وشهدي في شقتة الأخير. وإذا كان المونتاج يقوم على تتابع المشاهد، فإن المسرحة تقوم على دمج الماضي في الحاضر، فنجد أنه حين يقرأ شهدي على إنعام هذا المشهد من النص المسرحي:"الأمير: وماذا بعد ذلك؟ الشهاب: لا شىء؛ تعلَّقت بي- يقصد شاهندة -  ثم وجدتُها في يوم قد صرَّت حاجاتها وقالت: لا قعود لنا هنا سنمضى الليلة إلى مراغة. الأمير: هربتما إلى مراغة؟ الشهاب: نعم كنا غريبين ووحيدين. رحنا نتجول في السوق ونفكر ماذا نفعل فرأينا والي شرطة من بعيد فتوجسنا منه لكنه عندما اقترب وجدناه تحوَّل إلى رجل تركي مع غلمانه، فلما أصبح أمامنا تحوَّل فجأة ووجدناه الدرويش. الأمير: وماذا حدث؟ الشهاب: هربنا في زحام السوق" صـ 19.

هذا الخيال الإبداعي الذي يوظفه أبو سعدة يتجاوب مع ما يعرف عن "كرامات" الصوفية، ولهذا لم يكن غريباً أن نشاهد تحولات هذا الدرويش مِن والٍ للشرطة إلى رجل تركي، قبل أن يعود إلى شخصيته الحقيقية. وهو الخيال الذي نطالعه أيضاً من خلال حدث اعتيادي يقوم به "شهدي"، لكنه يتحول فجأة إلى حدث يتجاوز الواقع حين وضع قطرات من الزيت في الماء الذي كان يغلي أمامه؛ "فبدت مثل عدسات شفافة تطفو على الماء وبدا قاع الإناء من خلالها أكبر، مما مكَّنه من رؤية الخدوش في القاع وكأنها فوالق مِن رخام أبيض مائل للفضة". هذه الفوالق التي "تباعدت ببطء ليكتشف البوابة المموَّهة ويتابع مندهشاً خروج الخيول الجامحة وسط الغبار". وهكذا يتحول ما هو يومي معتاد إلى حالة فوق واقعية، وكأنها صورة أخرى من تداخل الماضي والحاضر، وهي السمة البارزة على مدار الرواية. وتظل ثنائية الحقيقة والخيال إحدى الثنائيات المهيمنة في الرواية والتي يطرحها "مراد" بصورة تجعل كل ما نظنه واقعاً أو ماضياً مجرد خيال، حين يقول: "ما الفرق حقاً بين الحقيقة والخيال؟ حتى الفوتوغرافية أصبحت مجرد احتمال لا دليل عليه، وإلا فهل نصدق ما نراه في الأفلام؟ هل يكون الوصف بكل ما فيه من حقيقة مجرد بلاتوه، ديكورات يمضي فيها الناس قليلاً ثم يُفكَّك ليعاد بناؤه من جديد لأناس آخرين؟ الماضي إذن خيال". إن "مراد" يستفيد من خبرته الإخراجية التي توظف الخيال لتوهم بالواقع وترى – وهو ما يمثل رؤية الكاتب أيضاً – أن الحاضر هو إعادة تفكيك وتركيب للماضي.

ثنائية الظاهر والباطن

وتفضي هذه الثنائية إلى الثنائية الأهم التي مثَّلت مأساة السهروردي، وهي المأساة الممتدة إلى الآن، وأعني بها ثنائية الظاهر والباطن أو الشريعة والحقيقة. الشريعة التي يزعم الفقهاء حراستها ويطاردون مَن يخالفهم بدعوى الحفاظ عليها. يقول "نوران": "لم أعد أميز بين الفقهاء والجنود. متى ترتاح يا نوران؟ متى يتوقف مطاردوك حتى تشعر بالأمان؟". و"نوران" هو أحد طلاب الحقيقة الذي يرثي لما حدث للسهروردي، فيعاتبه عتاب المحب: "لماذا جئت إلى حلب يا شيخ؟ حلب، في مُلك صلاح الدين وهو كما تعرف". لكن الشٍهاب يقاطعه: "أعرف يا بنيَّ، ولكن ما قيمة اللؤلؤة إن حبسَت نفسها في الصدفة وكتمت نورها عن السالكين؟". لابد إذن من انكشاف اللؤلؤة، التي تتوازى مع الحقيقة، ليتملاها الآخرون ويسيرون على هدي نورها حتى وإن كان الثمن هو فناء هذه الصدفة التي تشير إلى الجسد. ولعل هذا ما يقترب من قول الحلاج أيضاً: "اقتلونى يا ثقاتي/ إنَّ في قتلي حياتي". وفي بروفة "المحاكمة" يؤكد السهروردي أن بلوغ الحقيقة يكون بالعقل والدراية والتأويل؛ في مقابل النقل والرواية وتفسير ظاهر النص. وهذا – كما يشير – ما فعله "الجعد"، حين "فتح بدمه الطريق إلى الحقيقة". ولا يرى السهروردي تناقضاً بين الشريعة والحقيقة؛ "فكل منهما يكمل الآخر، كالإسلام والإيمان". ويمتلك شهاب الدين شجاعة أن يقول لوالي حلب إن زمنه "زمن الظلام وشر القرون حيث ينطوي فيه بساط الاجتهاد وينحسم باب المكاشفات". وسوف نلاحظ أن هذا الطرح لا يضع فارقاً بين تجليات الروح واجتهاد العقل. وتنتهي هذه المحاكمة/ المواجهة باتهام السهروردي بالكفر والزندقة تمهيداً لقتله.

إن كل ما سبق يوضح تأثير أبي سعدة بوصفه كاتباً مسرحياً على هذه الرواية. ويبقى أن نشير إلى تأثيره شاعراً وقد تمثَّل ذلك في سمات فنية عدة؛ منها ذلك المجاز الذي ظهر في بعض عناوين الفصول من قبيل: "الجمال مؤلم / يحملون رؤوسهم المقطوعة / عطر الوردة، وهج الحجر، أتخبط فى دمه كالطائر". والسمة الثانية هي تضمين قول السهروردي "أرى قدمي أراق دمي/ وهان دمي فها ندمي". ويبدو كلام "مراد" الذى يستحضره "شهدي" شعراً حقيقياً تتوزع كلماته على فضاء الصفحة، ومنه: "أخشى الاقتراب من القِلاع/ لأنني/ ما من مرة فعلتُ/ إلا وحدث شىء غريب/ مرة سقطت أمامي جثةُ أمير/ ومرة رأيتُ النار/ سمعتُ صرخات المحروقين/ أما الذين يمضون سراعاً/ وهم يحملون رؤوسهم المقطوعة/ فهم دائماً ما يطوفون بذاكرتي". هذا الأسلوب السامي – إن صحَّ التعبير- يتجاور مع الأسلوب التداولي العامي؛ ليس فقط على مستوى الحوار بل داخل السرد أيضاً. ولا شك أن بنية التجاور هذه هي ما تصنع أسلوبية الرواية بصورة عامة وتمنحها حيويتها وتعدد مستوياتها.

المزيد من ثقافة