يواجه لبنان أسوأ وأخطر أزمة اقتصادية ومالية في تاريخه، تهدد بانفجار اجتماعي غير مسبوق في ظل مؤشرات سلبية للاقتصاد الحقيقي، فالنمو سلبي بواقع (-10 في المئة)، والعملة الوطنية فقدت أكثر من 160 في المئة من قيمتها، وتراجع حجم الناتج المحلي الإجمالي بنتيجة تدهور العملة من 49 مليار دولار بنهاية 2019 إلى 26 ملياراً عام 2020، وأدى الانهيار الاقتصادي والمالي إلى أزمة معيشية مقلقة، بعدما سجلت معدلات الفقر مستويات جديدة تجاوزت 50 في المئة، ويرجح البنك الدولي أن ترتفع نسبة من هم تحت خط الفقر إلى 52 في المئة، بينهم ما نسبته 22 في المئة تحت خط الفقر، وارتفعت نسبة البطالة إلى 44 في المئة.
ولا تدلل هذه المؤشرات، لا سيما منها معدلات النمو السلبي، إلا إلى أن البلاد دخلت في حال من الركود تحت وطأة اقتصاد انكماشي، وغياب أي آفاق مستقبلية واضحة حيال القدرة على الخروج من نفق الركود إلى التعافي الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تشكل هذه المؤشرات الخطيرة مصدر قلق كبير للحكومة اللبنانية التي أولت اهتمامها منذ توليها مقاليد الحكم، لوقف الانزلاق في الاستدانة، فأعلنت تعليق دفع ديون الدولة السيادية، وتكليف شركات استشارية بدء التفاوض مع الدائنين، وهو مسار لم يبدأ بعد عملياً على الرغم من مرور شهرين على إعلان التخلف، وتزامن ذلك مع إعداد خطة مالية إصلاحية، تلاقي شروط صندوق النقد الدولي، وصولاً إلى توقيع الطلب الرسمي لبرنامج مع الصندوق.
البعد المالي في الخطة
والتركيز على البعد المالي في الخطة، لم يحل دون تخصيص بعض الفقرات في البرنامج للشأن الاقتصادي والاجتماعي، وهي إشارت في مقدمها إلى أن "الاقتصاد اللبناني في حال من السقوط الحر، وتبرز حاجة ماسة إلى حزمة إنقاذ مالي للجم الركود وتهيئة الظروف المناسبة للانتعاش، ويعد التنفيذ السريع لإجراءات الإصلاح بالغ الأهمية للمساعدة في استعادة الثقة، ويهدف البرنامج إلى حماية أكثر الشرائح السكانية فقراً من العواقب الوخيمة للأزمة، وسيتم لهذه الغاية إنشاء شبكات أمان اجتماعي واسعة النطاق بمساعدة شركاء لدعم الدخل حتى يعود لبنان إلى نمو قوي ويخرج معظم سكانه من تحت خط الفقر، وستشمل الاصلاحات الهيكلية جميع قطاعات الاقتصاد لإطلاق إمكانات النمو وضمان استدامتها وتأمين فرص عمل، وستؤدي مكافحة الفساد إلى خفض تكلفة ممارسة الأعمال وتحقيق تحسن حاسم في مناخ الأعمال".
خيارات الخروج من الركود
يقوم برنامج الحكومة على تسع ركائز مركزية ومترابطة، إلغاء ربط الليرة بالدولار، وإعادة هيكلة الديون، وإعادة هيكلة النظام المالي وكشف الخسائر، وإجراء تعديل مالي كبير يركز على تحسين الامتثال الضريبي وترشيد الإنفاق، وإصلاح القطاع العام، بما فيه شركة كهرباء لبنان، واعتماد إصلاحات ترمي إلى تعزيز النمو، وتشمل تدابير وقوانين للنهوض بالاقتصاد وتعديل النموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي يتضمن تصحيحات جذرية في توزيع الناتج الإجمالي المحلي، وهيكلية ميزان الحساب الجاري، وترمي الإصلاحات إلى تعزيز القطاع المنتج وتوفر بيئة مؤاتية للأعمال والاستثمار، وزيادة الانتاجية وخفض التكاليف لتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد.
وأيضاً وضع أجندات لإصلاح القطاع الاجتماعي لتحسين المؤشرات الاجتماعية وتعزيز وتطوير شبكات الحماية الاجتماعية، ووضع استراتيجية لمكافحة الفساد، وإصلاح بيئي واستراتيجية وطنية للتنمية، وتوفير المساعدة الدولية لسد فجوة التمويل الخارجي.
وفي ما تستفيض الخطة الحكومية في شرح إجراءاتها المتعلقة بعمليات الهيكلة المالية، تعوّل على الشركاء الدوليين لتمويل التدابير الهادفة إلى دعم الاقتصاد، كونهم جزءاً من حزمة الدعم الدولي بين العامين 2020-2024 وتتوقع تحريك 6.7 مليار دولار قروض مدعومة للصناعة والزراعة والسياحة، و1.1 مليار لدعم حاضنات القطاع الصناعي، اقتصاد المعرفة والسياحة و2.8 مليار سيولة من العملات الأجنبية لاستيراد المواد الأولية، على أن يتم الاعتماد على إجراءات ضريبية مدروسة لتحريك الموارد من الطبقة الأكثر ثراء.
برنامج شامل للإصلاحات
وفي تفصيلها لهذا الموضوع، تقول الخطة إن الحكومة ستقوم، ومن ضمن استراتيجيتها التنموية بتنفيذ برنامج شامل للإصلاحات الهيكلية من أجل إطلاق إمكانات النمو المستدام وزيادة الصادرات وتطوير قاعدة إنتاجية متنوعة واستحداث فرص عمل مناسبة، وبأجر جيد للحد من البطالة وجذب المواهب اللبنانية إلى حضن البلد.
ولهذا تتوقع الخطة أن يصادق البرلمان على القوانين والأنظمة المتراكمة التي تم إعدادها في سياق مؤتمر "سيدر" وعددها 21 قانوناً، لتعزيز الشفافية والمساءلة، على أن يتم تنفيذ إجراءات اقتصادية قصيرة الأمد لتزويد الشركات المساعدة الفورية في سياق الركود الحالي وأزمة كورونا.
وتقترح في هذا المجال تعبئة الأموال العامة والمساعدة الأجنبية للتخفيف من العبء الناجم عن ندرة العملات الأجنبية على الشركات المحلية، ودعم المصدرين، والقروض الصغيرة، وتبسيط شروط التسليم، ودعم وضعية السيولة لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة ويشمل ذلك، تخصيص 200 مليون دولار من الحكومة كضمان نقدي من خلال المصارف المحلية لاستيراد المواد الأولية، وتطبيق آلية لترويج الصادرات، وإنشاء برنامج خاص لمساعدة الفئات الأكثر فقراً، والتفاوض على تسهيلات ائتمانية أو ضمانات خارجية طارئة بين 200 و300 مليون دولار مع مؤسسة التمويل الدولية وبنك الاستثمار الأوروبي وغيرها للحصول على تسهيلات ائتمانية، وبدء فتح الاقتصاد تدريجاً بعد كورونا، وكذلك دفع جزء من المستحقات للقطاع الخاص لضخ السيولة في السوق، ودعم التدفق النقدي عبر تأجيل مدفوعات صندوق الضمان الاجتماعي لستة أشهر وتوفير فترة سماح لسداد أصل القروض خفض معدلات الفائدة، ووقف الديون وفترات السماح للضرائب، وتشجيع الاستثمار والتوظيف والنمو عبر الإعفاء الضريبي لـ 10 سنوات للاستثمارات الجديدة وتأجير عقارات للدولة واستعمال عقارات للبلديات وخفض رسوم الضمان لمن هم دون الـ 30 سنة وتبسيط الإجراءات الإدارية للاستيراد والتصدير.
التفاوض مع صندوق النقد
وفي انتظار بدء التفاوض مع صندوق النقد على برنامج الحكومة، لا تستبعد مصادر حكومية أن يركز الصندوق على الجانب الاقتصادي من أجل استعادة النمو والخروج من الركود، لكن المصادر تؤكد أن الشروط التفاوضية ستكون أسهل على الحكومة إذا ما باشرت باتخاذ الإجراءات المقترحة، لا سيما أن في مقدرة الحكومة والمجلس النيابي السير بتلك الإجراءات التي تتطلب قرارات تنفيذية، ما يعطي إشارات جدية للمؤسسة الدولية، وإلا فإن المسار التفاوضي سيكون شاقاً وصعباً وطويلاً، بما يغرق لبنان في مزيد من الركود والانكماش.