تعمل السلطات الفرنسية على تحديد الإجراءات المتعلقة بالخروج التدريجي من الحجر الذي فرضته لمواجهة وباء كورونا، محكومة بهاجس تدارك موجة ثانية من العدوى التي أودت حتى الآن بحياة أكثر من 25 ألفاً في البلاد.
ويتضح يوماً بعد يوم، مدى صعوبة تحديد قواعد النشاط التجاري وملامحه في المرحلة المقبلة التي تبدأ يوم الاثنين المقبل (11-5-2020) بما يضمن الحفاظ على سلامة العاملين، وإعادة تحريك العجلة الانتاجية المتوقفة بشكل شبه تام منذ بدء سريان الحجر في 17 مارس (آذار) الماضي.
وفيما يجري العمل تباعاً على تذليل العقبات المتعلقة بمزاولة النشاط في المجالات المختلفة، لا يخفي مسؤولون فرنسيون توجسهم حيال صعوبة النهوض مجدداً باقتصاد أصيب بالإنهاك نتيجة العبء الهائل المترتب على مواجهة الوباء.
انتقادات
وتعرضت الحكومة الفرنسية إلى انتقادات من خصومها السياسيين وشرائح من الرأي العام الفرنسي، نتيجة التشوش وأحياناً التضارب الذي اتسم به تعاملها مع أزمة كورونا، علماً أنها اتخذت الحد الأقصى الممكن من إجراءات الحماية الاجتماعية لطمأنة المواطنين وأصحاب المؤسسات الانتاجية، وتجنيبهم تحمل وزر مالي يضاف إلى الوزر والخطر الصحي الناجم عن كورونا
لكن لهذه الإجراءات كلفة طائلة ستفوق 100 مليار يورو (108 مليار دولار) وتترافق مع خسائر اقتصادية قدّرها المرصد الاقتصادي الفرنسي بشكل أولي بحوالى 120 مليار يورو (130 مليار دولار) للفترة الواقعة بين 17 مارس (آذار) الماضي و10 مايو (أيار) الحالي، ما يعني إنخفاضاً للناتج الداخلي الخام بمعدل 5 نقاط.
وشدد المرصد على ضرورة اعتماد خطة إنعاش اقتصادي محددة الأهداف لتفادي تعرض الاقتصاد للركود مع ما يعنيه ذلك من عمليات إفلاس تؤدي إلى تفاقم جديد للبطالة، التي ارتفعت بنسبة 8 في المئة خلال فترة الحجر، وإلى إبطاء عام للنشاط الاقتصادي.
وتبدو الأرقام الصادرة عن المرصد عرضة للارتفاع، في حين أن إنخفاض الناتج الداخلي الخام قد يصل إلى معدل 8 نقاط، ويقترن مع مديونية عامة بنسبة 9 في المئة للعام الحالي.
هذا الواقع حاضر تماماً في أذهان المسؤولين الفرنسيين وعلى رأسهم وزير المالية برونو لومير الذي يقر في إطلالاته الإعلامية المتكررة بأن "الأصعب لا يزال أمامنا على الصعيد الاقتصادي ويتطلب تعبئة كاملة وجديدة نعد لها".
ما بعد الحجر
ويشير لومير إلى أن مرحلة ما بعد الحجر ستشهد إفلاسات متعددة، خصوصاً للمؤسسات الانتاجية الهشة، لكنه يصر في الوقت ذاته على أن الدولة مستمرة في مواكبة العاملين والمؤسسات بموازاة الدفع لتنشيط المجالات الاقتصادية المختلفة.
لكن السؤال الكبير المطروح في فرنسا اليوم، يتناول تحديد الطرف أو الأطراف التي ستتحمل تبعات هذه الخسائر الضخمة التي يتوجب تسديدها لتمكين الاقتصاد من استعادة عافيته، وكيفية توزيع الفاتورة العملاقة التي خلفها الوباء على الطبقات الاجتماعية.
وهنا تتجه الأنظار نحو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي لم يتوان عن العدول عن توجهاته الاقتصادية الليبرالية، واستبدالها بحماية اجتماعية مكلفة ومناقضة للقناعات والتوجهات التي اعتمدها منذ توليه الرئاسة.
وهو بسلوكه هذا، فاجأ الفرنسيين، وخصوصاً خصومه في اليسار، الذين لم يتوقعوا ذلك من قبله، كونه واجه الأزمات المختلفة التي أصابت البلاد وأقساها احتجاجات السترات الصفراء، متمسكاً بأن تحسن الأوضاع المعيشية رهن برد الاعتبار للعمل، بالتالي خفض البطالة وتقليص العوائق أمام الاستثمار.
ومن غير الواضح اليوم ما إذا كان هذا التحول لدى ماكرون ظرفياً بسبب متطلبات مواجهة كورونا، أم أنه بصدد عملية مراجعة وتغيير على صعيد قناعاته وتوجهاته، خصوصاً أنه أكد أن مرحلة ما بعد كورونا لن تكون كما كما قبله، وأن الجميع بما فيه هو مطالب بجهد "إعادة الابتكار."
تكهنات
هذه العبارة التي استخدمها ماكرون في أحد خطاباته التلفزيونية أثارت الكثير من التفسيرات والتكهنات المتضاربة حول مقصده، واقترنت مع كلام عن احتمال إقدامه على تعديل فريقه الحكومي في مرحلة ما بعد كورونا.
وبانتظار أن تتضح رؤية الرئيس الفرنسي وتحديده لما استنتجه من أزمة كورونا ومتطلبات التعامل معها، بدأت تنتشر في فرنسا دعوات عدة منها دعوة الأمين العام لاتحاد نقابات "سي أف دي تي" (المعتدلة) لوران بيرجيه، الذي أكد ضرورة مشاركة أكبر من قبل الأثرياء في تحمل أعباء الأزمة.
ويأتي كلام بيرجيه عقب تقرير صادر عن الاستخبارات الفرنسية نشرت مضمونه صحيفة "لوباريزيان"، وأشار إلى حالة غليان اجتماعي قد تتحول إلى انفجار ما بعد الحجر بسبب الضائقة الاجتماعية والمالية.
وتبدو السلطات الفرنسية بالتالي أمام معضلة معقدة ومتعددة الأوجه بعيد انتهاء الحجر، إذ يتوجب عليها ترميم وضع اقتصادي منكوب واعتماد أسلوب يجعلها قادرة على تدارك أي أزمة إجتماعية قد تؤدي بالبلاد إلى الجمود.