Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الوحش" حدث مسرحي لبناني نجمته الممثلة كارول عبود

نص اميركي من إخراج جاك مارون

صورة من مسرحية "الوحش" للمخرج جاك مارون (موقع المحترف)

 

تمثل مسرحية "الوحش" أكثر من حدث: إنها أولاً ترسخ "محترف الممثلين" (مسرح بلاك بوكس- بيروت) الذي أسسه حديثاً المخرج اللبناني جاك مارون، وتجسد أول أعماله ضمن هذا المحترف ورؤيته الإخراجية ومفهومه للتمثيل، وثانياً تكرس هذه المسرحية حضور الممثلة الكبيرة كارول عبود التي تعد احدى رائدات فن التمثيل في الجيل الجديد، وثالثا تقدم للجمهور اللبناني (والعربي) كاتباً مسرحياً أميركياً كبيراً هو جون باتريك شانلي، الذي يترجم إلى العربية للمرة الاولى، مع أنه واحد من رواد المسرح الجديد في أميركا، وحاز جوائز عدة، ككاتب ومخرج وسيناريست (أوسكار، بوليتزر)، وترجمت نصوصه إلى لغات عدة (قرأت مسرحيته "الشك" بالفرنسية في سلسلة "افان سين" الفرنسية الشهيرة، وفيها كان سباقا في فضح تهمة التحرش لدى الكهنة الكاثوليك ). كاتب كبير حقاً، اتاح المخرج أمام الجمهور اللبناني فرصة التعرف إليه من خلال نص بديع له، وفي ترجمة رائعة أنجزتها الكاتبة الشابة أرزة خضر. وهذا النص لا يخفي تأثر صاحبه بما يسمى مسرح "الغرفة" كما تجلى خصوصاً لدى هارولد بينتر، وبمسرح ادوارد ألبي، لا سيما الثنائي أو القائم على شخصيتين. وليس غريباً على هذا الكاتب الذي ولد ونشأ في حي برونكس النيويوركي أن يغوص في قضية العنف الخارجي والداخلي أوالنفسي، فهذا الحي الشهير أوحى الكثير من القصص والوقائع لبعض الكتاب والمخرجين ومنهم الروائي توم ولف والمخرج بريان دي بالما والممثل روبرت دو نيرو الذي قدم فيلمه "كان ذات مرة حي برونكس" بصفته مخرجا.

قد ينتمي نص شانلي الى "مسرح الجيب" بصفته نصاً طليعياً، ثنائياً في شخصيتيه (بيرتا وداني)، ولا يخلو من العنف النفسي ذي النزعة الحميمية، لكنّ المخرج أثبت انتماءه هذا في مسرح محترفه الأصغر ربما من مسارح الجيب الاوروبية والاميركية، مجسداً مفهوم هذا النوع المكاني الذي رافق نشوء الحركة المسرحية الطليعية العالمية. لكنّ اللعبة الإخراجية واللعبة التمثيلية الفريدتين، كانتا تستحقان مسرحاً اشد رحابة، يتسع لجمهور اكبر. بل ان العرض الجميل والمتين لم يكن يحتاج الى ان يكون على تماس مع الجمهور وكأن هذا الجمهور جزء منه. ولعل الجهد الكبير الذي يبذله عند كل عرض، المخرج وكذلك الممثلة كارول عبود والممثل دوري السمراني يستحق ان يصل الى جمهور اكبر. فالعرض يبدو ليلة تلو ليلة، بمثابة حدث يحصل على الخشبة وليس مجرد تقديم لعمل مشهدي. ثم ان اللعبة قد تتجلى أكثر فأكثر، إذا ما اتسعت القاعة التي يجلس فيها الجمهور. فالعرض مشبع بجماليات مشهدية تستحق أن يراها الجمهور في كليتها، هذا علاوة على رقي الاداء الذي احكم المخرج القبضة في إدارته. حتى تبديل الديكور أمام أعين الجمهور، وهو بدا أشبه بمشهد قائم بذاته، كان يحتاج الى مسافة ابعد. غير ان مسرحية "الوحش" هي مسرحية محترف جاك مارون، هذا المخرج الذي دخل المسرح اللبناني الجديد بقوة، حاملا معه، من سنوات تخصصه في اميركا تجربة متفردة، سواء في اختيار النصوص ام في الاخراج وادارة الممثلين. وفي هذه المسرحية يرسخ هويته، كمخرج مبدع، صاحب قضية يمضي في بلورتها عملا تلو اخر.

بيرتا وداني، يلتقيان بالصدفة في حانة هما زبوناها الوحيدان، هي امرأة مطلقة، آتية من حياة عائلية مدمرة، مكونة من ابيها وامها وابنها، وهو شخص مشاكس وعنيف قادم من عالم "الشارع"، يظن انه قتل للتو رجلا بعدما أشبعه ضرباً. في هذه الحانة القاتمة يشعران أنهما في حاجة إلى البوح أو الكلام، هي تحتاج اليه وهو اليها، ليفرغا ما في دواخلهما من آلام وجروح وكراهية وغضب وقرف وسأم... رجل طُرد من العمل كسائق شاحنة، يعيش مع امه التي يحبها، يعاشر امراة ارمنية، يحلم بالانتحار مثله مثل بيرتا، يتأجج عنفا ولكن مجانياً، عنفه بلا قضية، فيه شيء من رد الفعل والغريزة، حتى انه لا يتوانى عن تعنيف بيرتا لفظاً وجسداً، ينقض عليها ويحاول خنقها بيديه... لكنها ليست اقل عنفاً منه، تردعه وتوجه اليه ضربات، بل انها تقول له إن في رأسها "قحباء". يتوتران، يصرخان، يتواجهان وكأن العنف يُخرجهما عن طورهما. لكنهما يعرفان في الوقت نفسه لحظات من الضعف والحنان المكبوت ، تحاول إقناعه ان الرجل الذي ضربه بشدة لم يمت، مخففة عنه الشعور بالذنب بصفته قاتلا، بينما هي لا تخفي الهاجس الذي ينتهبها وهو هاجس قتل والدها الذي يعنفها ويضربها ويخضعها لأمرته. وعندما تضيق بهما الحانة وتشتعل رغباتهما الدفينة تقول له: اريدك، تعال. هنا ينتقلان إلى غرفتها الصغيرة على سطح منزلها، مما يستدعي تغيير المكان (وليس الديكور فقط)، او قلبه من حانة الى غرفة حب او شهوة، وقد جسد الممثلان هذا الانقلاب المكاني بدورهما جاعلين اياه انقلابا في المزاج والسجية. غرفة نوم، تخت، شموع مضاءة، قناني، وجو محموم عاطفيا... وليل لم يخل من البوح الحميم والإعتراف وسرد الاحلام. عندما تسمع صوت باخرة في البحر، آتيا من النافذة، تحكي له عن حبها للماء والزرقة والحيتان والسفر او الفرار. اما هو فيحكيها عن حلم حقيقي وغريب لديه، وهو ان يكون عروساً ويرتدي الفستان الابيض الذي تحلم به الفتيات أصلا، وهذا حلم يعبر عن الصراع الداخلي الذي يعيشه في أعماق لاوعيه. يعرض عليها الزواج مغرياً إياها بالعرس والفستان الابيض والحفلة، ترفض، يقول لها: زواج بلا أولاد، ترفض، إنها باتت تكره الزواج والأولاد، بعد زواج فاشل وامومة فاشلة... وبين ليلة ضحاها تنقلب اللعبة وينهض العنف الذي لم يكد يغفو لساعات ويرتفع التوتر وترفض عرضه الاخير للزواج ، تعنف وتحاول طرده بالقوة، مخوّفة اياه، قائلة له: انا شريرة، انا نصف مجنونة. ثم ينتهي ما حصل بينهما في تلك الليلة وكأنه لم يحصل أو كأنه كان حلماً وكابوساً في وقت واحد.

برعت كارول في تجسيد شخصية بيرتا، جسدت شخصية هذه المرأة ولم تؤدها فقط، عاشتها بتوترها وغضبها وعنفها وقوتها وضعفها وقسوتها وحنانها وطفولتها ونضجها وانسحاقها... نجحت كارول في اقناع الجمهور انها بيرتا حقاً، عاشت بحواسها وروحها ومزاجها لحظات تناقضها وتحولها النفسي وتوترها العصبي، منقلبة برهافة وقوة، من حال الى اخرى، ومن سلوك الى اخر. وكعادتها وظفت كارول في ادائها كل طاقاتها ومراسها العميق وخبرتها الفريدة، لتتوج في هذه المسرحية مسيرتها الطويلة، كممثلة كبيرة تحتل موقع الصدارة في المشهد المسرحي مع زميلات لها قليلات مثل رندة الاسمر وجوليا قصار وسواهما. اما الممثل دوري السمراني المعروف تلفزيونياً في الدراما اللبنانية، فحقق نجاحا في أدائه شخصية الرجل العنيف والمقهور،هو المتخرج لتوه من دورة في محترف جاك مارون. ويكفيه انه استطاع ان يواجه كارول عبود "الوحشة" بإبداعها و"المفترسة" ببراعتها على خشبة يديرها جاك مارون، المخرج الذي تنطبق عليه في آن واحد، مواصفات المخرج الطليعي(افان غارد) والحداثي والمابعد حداثي (بوست مودرن)... إنه المخرج الاتي من محترفات "الاكتورز ستوديو" ومدرسة "الواقعية النفسية" ومن سائر التيارات التي تحتل واجهة المسرح العالمي.

المزيد من ثقافة