Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصين بين تجاذبات "اليوتوبيا" و"الديستوبيا"

هل بإمكان بلد المليار نسمة الانتقال من حال "القوة الكونية" إلى "الفاعل الكوني" بعد كورونا؟

فيروس كورونا غيّر العديد من المفاهيم التي كانت سائدة عن الصين (غيتي)

أحد أهم الأسئلة التي طرحتها أزمة كورونا حول العالم، هو ذاك الخاص بعلاقة الصين بالقطبية الدولية، وبمعنى أكثر وضوحاً، مدى استعداد الصين الفعلي، لا الدعائي، لأن تصبح قوة عالمية حقيقية، إن لم تحل محل الولايات المتحدة الأميركية بشكل كامل، فعلى الأقل مشاركتها ومزاحمتها في خطوط وحظوظ القيادة والريادة الدولية.

في هذه القراءة نحاول عرض وجهتي النظر بموضوعية تامة، الرؤية التي تذهب إلى أن القرن الحادي والعشرين، هو قرن آسيا بزعامة الصين بامتياز، والآخر الذي يقطع بأن الطريق إلى القطبية العالمية بالنسبة للصين، طويل، بعيد، ولا يلوح في الأفق عما قريب.

لقد تركت كورونا تساؤلات جذرية حول الصين، وهل لا تزال دولة شمولية، تعج بالتناقضات الداخلية، والإشكاليات غير الظاهرة، عطفاً على التأثيرات الضارة لغياب الحريات ولاسيما حرية الإعلام، وتداول المعلومات، والتي تمنع من ارتقائها قمة العالم النيوليبرالي الديمقراطي، والعديد من النقاط الخلافية التي نتوقف معها، مخلصين التساؤل والبحث عن الجواب.

هل الصين دولة عظمى؟

في مؤلفه الذي يحمل عنوان "هل الصين دولة عظمى؟ واقع ومستقبل الصين على الساحة الدولية"، يحاجج البروفيسور الصيني "جين تسان رونغ" المفكر والأستاذ الجامعي بجامعة الشعب في بكين، بأن الصين تخطو اليوم خطوات حثيثة تجاه مركز المسرح الدولي، وتدرجت أدوارها من "ممثل الجماهير" إلى "الدور الداعم" ، ثم "الدور الأكثر دعماً"، وبعدها "الدور الرئيسي" ، وفي المستقبل من الممكن جداً أن يكون "الدور المركزي".

والشاهد أن الأزمة المالية العقارية التي ضربت الولايات المتحدة الأميركية في نهاية العقد الماضي، قد ولدت عند الصينيين انطباعاً ـ بدا خاطئاً لاحقاً ـ بأن أفول أميركا على الأبواب، لاسيما أن الاقتصاد الصيني مستمر في الحفاظ على نموه السريع، وبات المحرك الفعلي الأقوى للاقتصاد الدولي.

يربط البروفيسور "رونغ" بين ما يسميه "مسؤولية الصين"، وبين انتشار منتجاتها حول العالم، معتبراً أن النموذج الصيني، لاسيما ما يعرف بـ"الصين المنسجمة"، هو الأكثر تبنياً في وسط الدول النامية، عطفاً على أن الصين باتت "مصنع الأحلام"، ولذا فهي محط رحال المستثمرين في العالم.

يفاخر الصينيون بأنهم لا يخشون من متطلبات المسؤولية، باعتبار حس المسؤولية متوفراً بشكل كبير لديهم على مر التاريخ، وهو ما يمكن تسميته "السقوط والنهوض مسؤولية كل فرد"، وهو الاعتقاد بأن "ليس فقط الاهتمام يجب أن يكون بما يقدمه لك العالم، بل ماذا يمكن لك أنت أن تقدم للعالم".
غير أن تجربة كورونا تضع هذه الرؤية على المحك، وتجعل القارئ المحلل والمدقق يتساءلان: هل كانت الصين على قدر المسؤولية بالفعل في ما خص الأزمة منذ بداية انتشار الفيروس على أراضيها، أم أن طريقتها في التعاطي جاءت مخيبة للآمال، الأمر الذي يمكن أن تتحطم على صخرته رغباتها وطموحاتها في صياغة نظام دولي جديد تقوده عبر آلياتها المتعددة؟.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نهضة دولة متحضرة

رأي آخر يعزز فكرة الصعود الصيني الذي تسبب في زلزال للعالم، نجده عند البروفيسور "تشانغ وي وي" الباحث السياسي والمؤلف الصيني الشهير، والأستاذ بجامعة فودان في شنغهاي، وقد عمل مترجماً إلى اللغة الإنجليزية للرئيس الصيني صاحب بناء الصين الحديثه "ونغ شياو بينغ".

يرى "وي وي" أن الصين أسست نظام دولة حديثة غير مسبوقة يشتمل على حكومة موحدة، وسوق واقتصاد وتعليم وقانون ودفاع ومالية ونظام ضريبي، وعنده أن الصين تعد الدولة الأكثر كفاءة في العالم، الأمر الذي يتضح من تنظيمها لدورة الألعاب الأولمبية عام 2008، وتوجهها للنمو الاقتصادي في الدولة، وعلى الرغم من حداثة مشروعها، إلا أنها لا تزال تحتفظ بالعديد من تقاليدها التي تتميز بها دولة حضارية، وتلعب هذه التقاليد دوراً حيوياً اليوم في أكثر دولة ذات كثافة سكانية في العالم.

يرى "وي وي" في الوقت ذاته، أن الصين تقدم نموذجاً فريداً للدولة العصرانية المتحضرة، تلك القادرة على أن تدمج بين الدولة القومية والدولة الحضارية، وتجمع بين قوتيهما ومزاياهما، ويعتبر هذه الحقيقة في حد ذاتها معجزة تؤكد قدرة الحضارة الصينية المعروفة، وما تتميز به من تقليد إيجاد مجالات للتعاون.

ولعل الذين يراهنون على قادم أيام ومستقبل الصين، إنما يرتكزون على ثماني خصائص تجعل الصين نموذجاً فريداً، يجمع بين الدولة التقليدية الحضارية القديمة، والدولة الحديثة النموذجية المعاصرة، وفي المقدمة من تلك الخصائص كونها ذات كثافة سكانية هائلة، وتمتلك أرضاً ذات مساحة شاسعة وتقاليد ذات تاريخ طويل، مليئة بالتجارب الإنسانية، عطفاً على ثقافة شديدة الثراء بصورة هائلة، ولغة فريدة لا يمكن أن يفك شفراتها التراثية سوى الصينيين أنفسهم، إضافة إلى سياسات فريدة تحرز نجاحات يوماً تلو الأخر، ومجتمع متجانس فريد وأخيراً اقتصاد فريد يكاد يكون المشارك بالنصيب الوافر في الإنتاج العالمي، وسيتجاوز نظيره الأميركي في 2030.

مما تقدم يتضح لنا بالفعل أن الصين ماضية قدماً في سياق "القوة الكونية"، لكن البعض يرون أن هناك فارقاً شاسعاً بين أن تكون "فاعل كوني" وأن تضحى "قوة كونية".

الصين قوة كونية غير تامة

هل من فارق بين أن تكون دولة ما فاعلة في مسار التاريخ، وأن تكون أخرى قوة كونية في مساق الأحداث العالمية؟

 أغلب الظن أن ذلك كذلك فعلاً، فالطرح الأول يعني أنك قادر على المشاركة في مسيرة العالم وتطورات أحداثه، وتوجهات دوله، والعلاقات الأممية المتشابكة.

غير أن الثاني يرسم وبجدارة مسارات الأحداث، ويشكل حياة البشر عبر دروب الزمن.

قصة الصين القوة الكونية غير المكتملة شغلت العديد من الباحثين والمفكرين الأميركيين لتبيان وضع الصين الحقيقي، وما آلت إليه، حتى قبل ظهور فيروس كورونا فماذا كانت النتيجة؟

أحد أفضل من شخّص وضع الصين، كان البروفيسور "ديفيد شامباو" أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والمدير المؤسس لبرنامج السياسات الحكومية الصينية بجامعة جورج واشنطن، والخبير في شؤون الصين منذ عام 1979 عبر الزيارات والإقامة هناك.

يقطع شامباو في مؤلفه المعنون "الصين تتجه كونياً... القوة غير المكتملة" بأن الصين لا تزال بعيدة عن مدارات القطبية الدولية، وأنها على الرغم من تقدمها الاقتصادي الظاهر للعيان الإ أنها تظل قوة متوسطة بنوع أو آخر، وبأنها تحتاج إلى متغيرات جذرية وهيكلية كي تصبح قوة عالمية.

سطور كتاب البروفيسور "شامباو" تطرح مقاربة جذرية بين واشنطن وبكين، وتبين كيف أن الفارق شاسع بين الأولى التي تتسم بملامح ومعالم قيادة كونية، والأخرى التي تتراجع عن خوض غمار الملفات المعقدة على الصعيد الدولي، وكأن ما يعينها هو فقط شأنها الداخلي فهي عادة تنتظر مواقف الدول الأخرى قبل أن تبادر بإعلان موقفها من أي قضية مطروحة على مائدة النقاش الأممي.

على سبيل المثال هناك فارق كبير بين مفهوم القوة الناعمة الأميركي والذي استطاعت من خلاله واشنطن أن تحقق نجاحات في العالم، كما فعل على سبيل المثال إيزنهاور عام 1956 في أزمة العدوان الثلاثي، وبين الصين المهمومة بل المحمومة بالنمو الاقتصادي الداخلي وبصورة الحزب الشيوعي الحاكم ما يجعل منها مثالاً لما يطلق عليه "دولة المقاعد الخلفية".

لا يتوقف الأمر عند حدود القوة الناعمة، بل يمتد "الجزء الناقص" أو "غير المكتمل" في النموذج الصيني، إلى قوتها الخشنة، أي قواتها المسلحة، فعلى الرغم من أن إنفاق بكين على التسلح يأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، إلا أنه ما من دور ملموس أو محسوس لبكين على صعيد القضايا الأمنية العالمية، كمحاربة الإرهاب، ولا تتحرك الصين إلا حين تتهدد مصالحها كما حدث مع قراصنة البحر الأحمر.

هل من شبه ما بين الصين اليوم والولايات المتحدة عند نقطة تاريخية معينة؟

يمكن بالفعل أن يكون كذلك، فالصين اليوم تشبه الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، عندما كانت قوة اقتصادية هائلة، لكنها اتسمت بأنها قوة ناعمة هشة، وقوة دبلوماسية مترددة بين الداخل والخارج، إلى أن حسمت أمرها بالدخول في الحرب العالمية الثانية، والقضاء على النازية، وساعتها اعلنت "قوة كونية" حقيقية وليدة، استطاعت إزاحة بريطانيا العظمى، وشاركت الاتحاد السوفياتي قيادة العالم.

إشكالية القوة الأقتصادية الصينية

هل يمكن للصين أن تحكم العالم عبر الوفرة المالية، تلك التي تحصلت عليها خلال العقدين السابقين بنوع خاص، ومن خلال منتجاتها التي لا تتسم غالباً بمهارة أو دقة الصناعات الأوروبية كألمانيا، أو الآسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية، ناهيك عن الصناعات العسكرية الأميركية أو الروسية بنوع خاص؟ الطرح المتقدم يحاول الجواب عنه البروفيسور الأميركي "جوزيف. إس. ناي" في كتابه العمدة "هل أنتهى القرن الأميركي"، وعنده أنه على الرغم من النمو السنوي المرتفع للصين، إلا أن طريقاً طويلاً عليها أن تقطعه لكي تتعادل مع مصادر القوة الأميركية، وأنها لا تزال تواجه العديد من العقبات أمام نموها.

هناك جزئية مهمة وحيوية، ينبغي أن يتوقف عندها أولئك الذين يتعاطون مع الأرقام المجردة، من غير رؤية تحليلة معمقة، وهي أن الناتج القومي الصيني حتى لو تعادل في الحجم مع نظيره الأميركي، إلا أنه لن يكون مساوياً له من حيث التكوين والتقدم، فلا يزال لدى الصين ريف واسع متخلف، ويواجه عدداً من التحديات بما فيها التوسع السريع للمدن.

عطفاً على ذلك يقدم دخل الفرد مقياساً أفضل لتقدم اقتصادها، وحتى لو قيس وفقاً لتعادل القوة الشرائية، فإن متوسط دخل الفرد الصيني هو فقط 20 في المئة من المستوى الأميركي، وسوف يحتاج إلى حقب للحاق به إذا ما حدث.

يواجه اقتصاد الصين عقبات خطيرة عديدة للتحول من المشروعات غير الكفؤة التي تملكها الدولة، وعدم المساواة المتزايدة، والبيئة المتداعية، والهجرة الداخلية الضخمة، وشبكة أمان اجتماعية غير ملائمة، وفساد، وحكم قانون ملتبس.

أمر آخر يجعل قوة الاقتصاد الصيني أمراً عرضة للكثير من الشكوك لاسيما على صعيد الإنجازات التكنولوجية، فالصين تعتمد بشكل كبير على أمرين:

الأول هو تقليد التكنولوجيات الأجنبية بأكثر من المقدرة على صياغة ابتكارات داخلية.

والأمر الثاني هو سرقتها للمخترعات الأجنبية الغربية، لاسيما الأميركية، وهنا ترتفع في السماوات الصينية مقولة ذهبية ولو تجاوزاً "الحضارة لا تقوم بالاستعارة"، ويبقى السؤال المهم: هل جاءت أزمة كورونا لتوجه لطمة كبرى وحقيقية للاقتصاد الصيني في قابل الأيام؟

كورونا وهروب الاستثمارات

هل ستكون كورونا ضربة موجعة للاقتصاد الصيني لاسيما في ظل الاتهامات المتصاعدة من قبل الأوروبين والأميركيين، للنظام القائم في بكين، والذي تحوم من حوله الشبهات بشأن ما سماه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو تدمير الصين عينات كان يمكن لها أن تساعد في معرفة أصل كورونا وتعجل بالقضاء عليه؟

يحتاج الجواب إلى قراءة قائمة بذاتها، غير أنه وباختصار غير مخل، يمكن الإشارة إلى أن الثقة في النظام الشمولي الصيني قد اهتزت بشكل مزعج، والصين الآن في بدايات مخاض الأزمة، وقد رأينا العديد من الشركات العالمية، ومن مختلف الجنسيات تغادر مدينة ووهان الصناعية، ربما إلى غير رجعة، وبعضها يبحث عن أماكن أكثر موثوقية وآمان سياسي وبيئي وعلمي، فقد أثبتت التجربة أن الأيدي العاملة الصينية الرخيصة، لا يمكن أن تكون الإغراء القائم إلى الأبد، لاسيما أن هناك مهددات أخرى في الطريق الداخلي للصين سنأتي عليها لاحقاً.

ولعل أزمة كورونا قد فتحت أعين الغرب على حقيقة مخيفة وهي أن الصين تسيطر الآن على سوق الدواء العالمي، ففي تسعينيات القرن العشرين، وطمعاً في المزيد من الأرباح انتقلت صناعة الدواء برمتها إلى الصين، فباتت اليوم تنتج أكثر من 80 في المئة من المواد الأساسية المستخدمة في الصناعات الدوائية.

استيقظ الأميركيون في زمن كورونا، على حقيقة أن 97 في المئة من المواد الخام والمواد الكيميائية اللازمة لإنتاج المضادات الحيوية، والتي يتم استهلاكها بشكل كبير في الولايات المتحدة، تنتج في الداخل الصيني، فهل كان هناك خطأ استراتيجي اقتصادي أميركي؟

المؤكد أن المسألة غير موصولة بالجواب الأخلاقي، بل بالبديل الذي سيكلف الصينيين فرصة ضائعة، سوف تتمثل في هروب مصانع الدواء من الصين، وبخاصة الأميركية إلى دول أخرى، ربما يكون بعضها في أوروبا الشرقية، أو الشرق الأوسط، وقد يتم اختيار بعض دول أميركا اللاتينية.

لقد أدرك الأميركيون في خضم أزمة كورونا أن رئيسهم دونالد ترمب بالفعل محق في توجهاته ناحية الصين، وبنوع متميز، ميله المستمر والمستقر لتعزيز الحماية، وتكريس مبدأ توازن القوى في العلاقات التجارية مع الصين.

لقد اكتشف الأميركيون الجرم الكبير الذي ارتكبته إدارات سابقة حين اعتمدت في تصنيع دوائها على العدو المحتمل.

الصين اليوم معرضة لمقاطعة اقتصادية هائلة وغير مسبوقة من قبل أوروبا وأميركا وحلفائهما حول العالم، ويعزز من مرحلة هروب الاستثمارات من الصين، البيان الصادر في 4 مارس (آذار) الماضي عن وكالة "شينخوا" الصينية والذي طرح سيناريو وقف الصادرات الصينية للأدوية إلى الخارج، وفيه إشارة إلى أن الصين قادرة على إغراق الولايات المتحدة الأميركية في مأساة كورونا، بوقف تصدير المضادات الحيوية إليها.

هذا التفكير الصيني دعا المستشار الاقتصادي السابق للبيت الأبيض "غاري كوهين"، لأن يشير في تقرير ضمن خبراء آخرين في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، العقل المفكر للسياسات الأميركية، إلى إعادة النظر وبسرعة في وضع الاستثمارات الأميركية في الصين مشيراً إلى أنه "إذا كنت صينياً وتريد تدميرنا، فتوقف ببساطة عن إرسال المضادات الحيوية لنا".

لن يتوقف الأمر ولاشك عند حدود الصناعات الدوائية الأميركية، بل حكماً سيمتد إلى صناعات عملاقة أخرى كالسيارات والأجهزة الإلكترونية وغيرها من الاستثمارات العملاقة.

ومن ناحية أخرى فإن الصين مهددة بشكل كبير من جراء التعويضات التي تطالب بها الدول الكبرى، بسبب فشل النظام الصيني في الكشف المبكر عن تفشي فيروس كورونا وانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها الحزب الشيوعي الحاكم، والعهدة هنا على رئيس تحرير صحيفة "بيلد" الألمانية الشهيرة، فيما تطالب ألمانيا الصين رسميا بنحو 140 مليار دولار تعويضات عن الخسائر التي لحقت بها، وهنا السؤال كم يمكن لبقية الدول الأوروبية أن تطلب كتعويضات؟ ثم إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر من الأطلسي ترى كم ستساوي خسائر الأميركيين بعد فقدانهم أكثر من خمسين ألف شخص حتى الساعة وخسائر اقتصادية بالمليارات؟ الجواب يضع جزئية التفوق الصيني في مأزق حقيقي.

أزمات ديموغرافية وصحية

من بين الذين لابد لنا من الرجوع إليهم لفهم ما يجري في الصين،  البروفيسور "روس تيريل" الأستاذ المساعد في مركز فيريابك لدراسات شرق آسيا في جامعة هارفارد، والمؤلف للعديد من الكتب حول الصين ومنها "مدام ماوتسي تونج" و"الصيني في وقتنا".

في كتابه "الإمبراطورية الصينية الجديدة" يلفت "تيريل" إلى أن هناك معضلات بنيوية قائمة في المجتمع الصيني لا ينتبه إليها إلا الاختصاصيون، منها على سبيل المثال، إشكالية النمو السكاني في البلاد، فالصين تتجه ديموغرافياً وبسرعة نحو مرحلة ستؤثر بشدة في دخل الحكومة والتماسك الاجتماعي، ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان 10 في المئة من السكان يتجاوز عمرهم 65 سنة فأكثر، والمتوقع عام 2030 أن يكون 25 في المئة من السكان في الصين عند هذا السن وأكبر، ماذا يعني ذلك؟.

يعني أن المعاشات والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات المقدمة للمسنين سوف تستقطع أموالاً طائلة من موازنة الدولة. الأزمة الديموغرفية حكماً ستؤثر في الإنتاج وعجلته، خذ على سبيل المثال مدينة شنغهاي، هناك ستجد طفلاً واحداً ووالده هما أيضاً من عائلة الطفل الواحد، كلهم نتاج دولة الحزب وسياسته المتعمدة، وغداً ستكون عند هذه الأسرة ستة أشخاص معتمدون عليه، الوالدان وأربعة جدود.

لقد ارتكبت الصين خطأ مصيرياً، فقد وجدت توقعات الحياة الأفضل والنمو في فترة حكم ما بعد "ماو" في خفض النمو السكاني كحل نموذجي، لكن لم يكن الصينيون يدركون أن ما يتضمنه هذا الخيار من نواحٍ اقتصادية واجتماعية عبر العقود الثلاثة المقبلة، حيث سيبلغ عدد كبار السن 300 مليون نسمة، سوف يمثل كارثة محدقة بالبلاد.

كذلك فإن أحوال الصحة في الصين معضلة بدورها، فكثير من ريف الصين هي مناطق صراع اجتماعي دارويني، لا سيما عندما نصل إلى العلاج الكفؤ للمرضى والجرحى، فمرض الإيدز لا تتم مواجهته على المستوى الواجب، ومع تخزين المشاكل للمستقبل، وظهور أوبئة جديدة، فإن الصين ستكون بذلك هدفاً سهلاً وميسوراً للانهيار الداخلي.

ولعله من المثير أن منظمة الصحة العالمية، والتي توجه إليها اليوم الكثير من سهام الاتهامات تعتبر النظام الصحي الصيني واحداً من أسوأ الأنظمة في العالم، وتتدنى مرتبة الصين إلى رقم 144 بين أعضاء منظمة الصحة العالمية، ومعظم مرضى الصين من الفلاحين الذين يحتاجون لمستشفى، وعادة لا يتم قبولهم، لأنهم بساطة لا يدفعون ومرض السارس في عام 2003 كان مقدمة لكوارث صحية مقبلة على الطريق، وهو ما حدث بالفعل في مشهد كورونا الوبائي الأخير.

احتمال اندلاع ثورة داخلية

هل الصين مهددة في نسيجها الاجتماعي البشري الداخلي، وقبل أي مهددات خارجية أخرى؟

 في بدايات الفترة الثانية من ولايته قُدمت للرئيس الأميركي "باراك أوباما"، مذكرة عالية السرية، ضمن سلسلة مذكرات تحت مسمى "البجعات السوداء"، صادرة عن مركز "جون. إل. تومسون"، ومن برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز، حول احتمالات حدوث حرب أهلية في الصين.

تشير المذكرة إلى أن قضية اندلاع الثورة في الصين من أسفل إلى أعلى  أصبحت مطروحة للنقاش داخل البلاد، ومن أبرز الكتب التي يتم تداولها  الآن بين طبقة الصفوة في الصين، الترجمة الصينية لكتاب المفكر الفرنسي الشهير "أليكسيس دي توكفيل"، والمعنون "النظام القديم والثورة"، الذي نشر عام 1856، والذي تعاد قراءته الآن من قبل أعضاء الحزب الشيوعي، لماذا؟

لأنه يحمل تحذيرات تنذر بانفراط عقد الحزب الشيوعي، إذا لم يتحقق الإصلاح في الصين، لماذا  كان على الصينيين أن يأخذوا هذا التحذير بالكثير من الجدية؟

هناك في واقع الحال أربعة أسباب جميعها يفتّ في عضد الصين، وتمثل كوابح في طريق بلوغها مرحلة القطبية وهي كالتالي:

التناقص المستمر في معدل النمو في الصين، حيث بلغ  7.5 في المئة عام 2012، الأكثر انخفاضاً منذ العام 1990، وذلك ليس فقط بسبب الأزمة الاقتصادية في أوروبا، وإنما أيضاً البيروقراطية السياسية. هذا الانخفاض من شأنه أن يظهر شقوقاً في النظام الثيوقراطي الصيني، ويمكن أن يشكل البداية للاضطرابات السياسية.

الافتقار إلى العدالة الاقتصادية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار اجتماعي.

 هنالك آلاف الاحتجاجات الشعبية سنوياً، مع زيادة ملحوظة في العنف، بخاصة في مناطق الأقليات الإثنية.

استشراء الفساد، فأحدث التقارير الصادرة عن منظمة النزاهة المالية الدولية التي يوجد مقرها في واشنطن، يؤكد أن تحويل الأموال خارج الصين بطرق غير قانونية بلغ 3.8 تريليون دولار في الفترة ما بين عامي 2000 و2011، معظمها من قبل مسؤولي الحكومة الفاسدين.

بالإضافة إلى هذه المشكلات، هنالك موجة غضب عامة حول العائلات  الكبيرة المعروفة التي تستأثر بالسلطة، فهناك 4 من أصل سبعة  الأعلى رتبة في سلم المسؤولين في الدولة، بما في ذلك الرئيس "بنج"، ينتمون إلى تلك العائلات المرموقة.

هذه الطبقة المميزة وعائلاتهم من كبار مسؤولي الحزب استغلوا نفوذهم السياسي للحصول على امتيازات حكومية وتكوين ثروات هائلة، لذا فإن ادعاءات الحكومة الصينية بأنها تحارب الفساد تثير السخرية من قبل الشعب، وتطرح علامة استفهام جذرية عن جدلية العلاقة بين النشوء والارتقاء القطبي من جهة، وبين الفساد الحكومي والمجتمعي من جهة ثانية.

مؤكد أن القارئ الحصيف للمشهد الصيني، سوف يتساءل: وأين الحديث عن مسألة القوة العسكرية الصينية، وعن مكانتها حول العالم، ومنافستها للولايات المتحدة بنوع خاص، والإنجازات وكذا الإخفاقات التي تدور من حولها؟

وللقارئ الحق في التساؤل، ونظراً لأهمية هذه الركيزة فقد أرتاينا أن نفرد لها قراءة مقاربة مع واشنطن لاحقاً.

أما الذي يتبقى فهو القول إن الصين ليست اليوتوبيا التي يتصورها  البعض رفضاً أو كراهية لأميركا تارة، أو بحثاً عن بديل قطبي معولم تارة أخرى، وبالقدر نفسه ليست هي الـ"ديستوبيا"، أي عالم الفوضى والشر والغموض المعاصر، أو الواقع المرير القائم والمقبل، وإنما هي تجربة إنسانية ضمن سياق الكر والفر الجيوسياسي حول العالم في القرن الحادي والعشرين، قوة غير مكتملة، ربما تضيف إليها أزمة كورونا، أو تختصم منها، بحسب مسار الأحداث وخطوط الأزمة، في الجهر والسر، تلك التي حلت كآلام المخاض قبل موعدها بالنسبة إلى الصين وانبلاج قطبيتها المنشودة.   

المزيد من تحلیل