Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"55 يوما إلى بكين" لنيكولاس راي فيلم العداوة القديمة

شريط من هوليوود الستينيات على شاشة البيت الأبيض

ملصق فيلم "55 يوماً إلى بكين" (مواقع التواصل الاجتماعي)

لم يُعرف عن الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب حبه السينما، ولا هوليوود خصوصاً. بل هو يرى منذ بدايات ولايته أن نسبة خصومه في هوليوود تتفوّق على نسبتهم في أي مكان آخر. ومع هذا يسود في الأوساط السياسية الأميركية في هذه الأيام خبرٌ يقول إنه طلب ذات مساء منذ أسابيع أن يُعرض له واحدٌ من الأفلام التاريخية الهوليوودية الكبيرة التي حُققت في سنوات الستين.

والحقيقة، أن مجرد ذكر عنوان الفيلم سيجعلنا نفهم السبب. فهو "55 يوماً إلى بكين" من إخراج نيكولاس راي وتمثيل آفا غاردنر وتشارلتون هستون ودافيد نيفين. أجل بكين، الاسم الذي كان رائجاً حينها للعاصمة الصينية. فهل علينا أن نطيل الشرح ليدرك القارئ فحوى هذه "الخبرية" سواء كانت حقيقية أو "مدسوسة" على الرئيس؟

ففي هذه الأيام، إذا كانت إيران، ولأسباب لا يمكن مجادلة سيّد البيت الأبيض كثيراً حولها، تمثل بالنسبة إليه العدو الرقم واحد على الصعيد العالمي، من الواضح أن الصين تمثل العدو التالي، بل العدو الذي يزيح إيران عن دائرة الاهتمام الرئاسية في بعض الأحيان. وليس فقط بسبب كورونا واتهام ترمب الصين بكونها صدّرته إلى العالم من طريق الإهمال، بل يكاد يقول: عن قصد أيضاً! بل أكثر من هذا، لأن الرئيس الأميركي يعيش ومنذ بداية ولايته على أي حال، حرباً تجارية شعواء يجابه الصين بها. ومن المؤكد أن مشاهدة فيلم نيكولاس راي تعزز من ضغينة ترمب ضد الصين، ناهيك بضغينة ضد هوليوود ليست في حاجة إلى تعزيز على أي حال!

دروس من التاريخ
صحيحٌ، أن هناك أفلاماً هوليوودية وغير هوليوودية كثيرة تتناول حكايات لها علاقة بالصين والحروب التي خاضتها مع جيران وغير جيران لها. فالصين وتاريخها مثّلا دائماً موضوعاً سينمائياً شيقاً، وبخاصة من الناحية البصرية، لكن "55 يوماً إلى بكين" أتى مختلفاً، إذ حتى ولو أنه معاد بشكل عام للصينيين في الصراعات التي خاضوها ضد الأجانب عند بدايات القرن العشرين، لا سيما منها تلك التي عُرفت بـ"حرب البوكسر"، واختلطت فيها السياسة بالأمن، والأمن بالتجارة، والتجارة بالمال، فإنه يحمل تلميحات تكاد تبدو "ما بعد كولونيالية" من نوع تلك التي تتساءل عمّا إذا لم يكن الصينيون من أهل البلاد على حق بعض الشيء في غضبهم على محتلي أجزاء من بلادهم يسيطرون على التجارة ولقمة عيش الناس. هذه الأمور لا يقولها الفيلم بوضوح في تفاصيل حكاياته المختلطة ببعضها بعضاً بين نوازع فردية وصراعات كبرى، بين بارونة روسية وقائد أجنبي ودهاة محليين، لكن نيكولاس راي عرف كيف يمررها غصباً عن مموليه الهوليووديين في ثنايا الحوارات والمواقف.

وحسب المرء أن يعود اليوم إلى مشاهدة الفيلم، كما يؤثر عن ترمب أنه فعل، لكي يستعيد دروساً عميقة في الصراع المفترض أنه دائم بين الصين والغرب! الصراع الذي جاء كورونا ليؤججه! والذي يعيد راي وفيلمه إلى الواجهة سواء من طريق سيّد البيت الأبيض أو من دونه.

وحيد أنا في هذه الدنيا
رغم أنّ نيكولاس راي حقق في مساره الهوليوودي عدداً لا بأس به من أفلام كبيرة وناجحة، غالباً على الصعيدين النقدي والتجاري، فإنّ ثلاثة فقط من بين أفلامه تبقى دائماً في ذاكرة محبي السينما، لا سيما الأوروبيون منهم. فإلى جانب "55 يوماً إلى بكين" الذي نتوقف عنده هنا لأسباب وضحت أول هذا الكلام، يوجد بالطبع "ثائر دون قضية" الذي من أهم سماته أنه أطلق أسطورة النجومية الشبابية، جيمس دين، في الخمسينيات، و"جوني غيتار" فيلم رعاة البقر الذي يمكن اعتباره واحداً من أكثر الأفلام رومانطيقية في زمنه. كان حسب راي أن تضم  فيلموغرافياته مثل هذه الأفلام، لتكون له مكانة تجعل المخرج الألماني فيم فندرز يحقق عنه فيلماً يتذكره ويذكّر أهل السينما به عشية رحيله.

ولقد عبّر راي في الفيلم عن حزنه وشجنه وجحود هوليوود تجاهه، قائلاً: "إنني غريبٌ وحيدٌ في هذه الحياة الدنيا". وأضاف "البحث عن حياة مليئة، إنما هو فعل يقوم به المرء بمفرده ولحسابه الشخصي، وينتهي به لأن يتوحّد مع ذاته. فأنا أعتقد أن الوحدة شديدة الأهمية بالنسبة إلى الإنسان شرط أن لا تكون مزعجة له". ومن يتابع حياة نيكولاس، ويتدرب على قراءة السطور الخفية لأفلامه سيدهشه كم أن الرجل ظل على الدوام أميناً لمبدئه ذاك.

من المسرح إلى الشاشة
فمنذ طفولته في ولاية ويسكونسين الأميركية حيث ولد في 1911، أبدى نيكولاس اهتماماً بشتى أنواع الفنون، خصوصاً بالهندسة المعمارية، التي سرعان ما انصرف لدراستها تحت إشراف المعماري الكبير فرانك لويد رايت، الذي ظلّت أعماله الهندسية مؤثرة فيه حتى النهاية. أمّا فن الاستعراض فقد وصله عن طريق صداقته إيليا كازان، الذي تعرّف إليه أواسط سنوات الثلاثين حين كان هذا الأخير يدير فرقة مسرحية يسارية، فتعاقد معه كممثل مسرحي، ثم ابتداء من أواسط سنوات الأربعين اتخذه مساعداً له، ما أدخله عالم السينما من الباب العريض، وأتاح له في 1947 أن يحقق فيلمه الأول "إنهم يعيشون تحت جنح الظلام" المتحدّث عن فتى وفتاة يطاردهما رجال الشرطة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحال أن راي وضع في ذلك الفيلم الأول عدداً من العناصر التي ستملأ أفلامه التالية: هشاشة أبطاله ووحدتهم، وعدم امتثاليتهم، ورومانطيقيتهم. وهي كلها عناصر سوف تتفجّر متألقة في واحد من أشهر أفلامه: "ثائر دون قضية" (1955) الذي بإطلاقه أسطورة جيمس دين، أوصل نيكولاس راي إلى ذروة مجده السينمائي. لكن هذا لا يعني أن أفلامه التي كان حققها قبل ذلك لم تكن مهمة أو لم تنل ما تستحقه من شهرة، إذ في العقد الذي مرّ بين فيلم راي الأول وفيلم "ثائر دون قضية" حقق راي أفلاماً مثل "سر امرأة" (1949)، ثم فيلمين من إنتاج وتمثيل همفري بوغارت هما "أزقة البؤس" و"العنيف" الذي أتى أشبه بيوميات صوّرها راي حول حياته الماضية مع زوجته غلوريا غراهام. وبعد ذلك حقق نصف دزينة من الأفلام كان أشهرها بالطبع "جوني غيتار" (1954) الذي لا يزال يعد حتى يومنا هذا واحداً من أجمل كلاسيكيات السينما الأميركية، وكان بإمكانه أن يظل أفضل وأشهر أفلام نيكولاس راي، لولا طغيان شهرة "ثائر دون قضية" عليه.

لكن، في الوقت نفسه الذي وصل فيه هذا الفيلم الأخير إلى الذروة، بدأ العداء من حول راي يشتد لدى المؤسسة الهوليوودية التي لم يكن من شأنها أن تتسامح كثيراً مع ذلك القدر من التمرد والخروج عن المألوف الذي ضمنه راي لأفلامه، وجعلها تبدو وكأنها تسير عكس التيار السائد الهوليوودي.

لقد قتلتني هوليوود
وبدلاً من أن يجابه راي غضب هوليوود متمرداً عليها كما فعل مواطنه جوزيف لوزي، خضع لمنطقها فراح يحقق أفلاماً تجارية اعتيادية متلاحقة، من دون أن يفقه، هو نفسه، سبباً لذلك الاختيار. ولكنه حتى ضمن ذلك النمط عرف كيف يحقق أفلاماً في غاية القوة مثل "ملك الملوك" (1961)، ثم "55 يوماً إلى بكين" الذي هو موضوعنا هنا ولأسباب لا علاقة له بها، بل لإمكانية ربطه بمجريات السياسة و"الصحة" العالمية كما أشرنا.

لكن، راي بينما كان يعمل على هذا الفيلم الأخير أصيب بجلطة قلبية دفعت منتجي هوليوود إلى التخلص منه بوضعه على الرف. وعاش بعد ذلك عقداً ونصف العقد من السنين في وحدته ووسط آلامه وأمراضه، وكاد يُنسى كلياً، إلى درجة أن الناس اعتادوا الكلام عن "ثائر دون قضية" بوصفه "فيلماً لجيمس دين"، كما نسيان أنه هو مخرج "جوني غيتار" بينما بالكاد كان أحد يتذكر أنه مخرج "55 يوماً إلى بكين"!

ولم يخرجه من وحدته المطلقة، قبل موته بشهور سوى فيم فندرز الذي أعاده إلى الواجهة في الفيلم الذي حققه عنه، وكان وصيته الأخيرة، إذ إنه في نهاية الأمر مات قبل أن يرى الفيلم النور. فظل الفيلم شهادة متأخرة عن فنان كان يمكنه أن يقول دائماً: "لقد قتلتني هوليوود".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة