Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموسيقار عمر خيرت لـ "اندبندنت عربية": غيّرت مفهوم الموسيقى... والبيانو أم الآلات

دمج الكلاسيكية بالشعبية فدخلت مؤلفاته أذهان الجمهور العربي... ومنزل جدّه كان صالوناً ثقافياً لفناني ذلك العصر

منزل محمود خيرت في شارع خيرت بالعاصمة المصرية القاهرة، جدرانه شهدت على ولادة عائلة فنية موسيقية مثقفة مكونة من 4 شبان، وكان صالوناً اجتمعت فيه ألمع الأسماء في عالم الفن والزمن القديم أو كما يسمونه "الزمن الجميل"، من بينهم سيد درويش محمود مختار المثال، مصطفى المنفلوطي... وغيرهم. كوّن الشبان الأربعة فرقة "أوركسترا خيرت" وعرضوا أعمالهم أمام الملك فؤاد، أبدعوا في مجال دراستهم ولمعوا في تخصصاتهم كما في الموسيقى ومن بينهم اسم أبو بكر خيرت في عالم الهندسة أولاً، فصمم المبنى المخصص لأكاديمية الفنون ومعهد الكونسرفتوار، الذي أصبح أول عميد له لاحقاً. وفي المنزل نفسه ولد الموسيقار عمر خيرت ودرس في الكونسرفتوار الذي أسسه عمّه، وبدأت رحلة حلمه الفني فأبدع وخلق نمطاً موسيقياً مزج فيه بين الكلاسيكية والشعبية، وأدخل إلى أذهان المصريين وجميع العرب ثقافة الموسيقى الخالصة فأصبحوا يتهافتون لمشاهدة عروضه في دولهم وخارجها.
 

 


في حوار شيق أجرته معه "اندبندنت عربية" أخبرنا عمر خيرت قصصاً عن منزل جده، "ما أذكر عن منزل جدي محمود خيرت أن عبدالوهاب وأم كلثوم التقيا أثناء فترة صباهما للمرة الأولى فيه، وغنيا معاً جزءاً من أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش".
 

 

لا يخفى على من يحاور عمر خيرت ولعه بروابطه العائلية والقصص التي ارتبطت بها فيقول، "جدي علّم أولاده الأربعة ومن بينهم أبي الموسيقى منذ الصغر، من منطلق إيمانه بأن الفن شيء مهم للإنسان في نشأته وفي وجدانه". ويتابع "الفن موجود في جينات العائلة وهو مستمر حتى اليوم ويتناقل من جيل إلى جيل، حتى ابنة أخي أمينة خيرت درست الغناء الأوبرالي وصوتها جميل جداً".

 

 

 

عمر خيرت عن عمّه

أبو بكر خيرت كان عنصراً مهماً في حياة ضيفنا ولعب دوراً في بناء شخصيته حتى أنه كان يحلم أن يصبح مثله، وعندما سألته إذا حقق حلمه قال، "منذ صغري عندما كنت أشاهد حفلات أبو بكر خيرت في الأوبرا وكنت طفلاً كنت أتمنى أن أكون مثله يوماً ما، هو كان مثلي الأعلى في الفنون والموسيقى وكإنسان أيضاً. أنا سلكت الطريق نفسه إنما بأسلوبي الخاص".

يستفيض عمر خيرت في الحديث عن عمّه ويخبرنا عن براعته في الهندسة وتفوّقه في دراسته في مصر وفي العاصمة الفرنسية باريس، ويروي لنا بفخر عن ولعه بالموسيقى وإصراره على دراستها إلى جانب الهندسة، "عمي تتلمذ على أيادي أهم الأساتذة في فرنسا، وعندما عاد أسس لنا مع الدكتور ثروت عكاشة - الذي كان وزير الثقافة في ذلك الوقت - أكاديمية الفنون ومعهد الكونسرفتوار، حيث درست أنا وفنانون مصريون موجودون اليوم في العالم كله بسبب هذا الكونسرفتوار".

ويضيف "ألّف عمي سمفونيات عدة وأعمالاً للكورال والأوركسترا وافتتاحيات، وكان دائماً يردد "أنا بقيت شاطر في الهندسة جداً عشان بحب الموسيقى وأقدر أصرف عليها" إذ لم تكن الموسيقى من قبل مصدر رزق، فكان يعمل كمهندس ويصرف على فنه".
 

 

في إحدى مراحل حياته اتجه عمر خيرت للعزف على آلة الدرامز، ويقول إنه شعر معها بالحرية ولكن على الرغم من ذلك بقي مولعاً بالبيانو ويصفه بأنه "أم الآلات الموسيقية وهو من أهم الأمور لأي عازف موسيقي في العالم"، ويقول مختصراً عن عزفه على الدرامز، "كان كثورة شخصية وتمرد إيجابي على الأكاديمي والمعتاد، أنا كمؤلف موسيقي دخلت عوالم موسيقية أخرى في الغرب مع الدرامز وهو ما أفادني في التأليف، فالموسيقى هي لحن وإيقاع وهارموني (تناغم). ولو كان عمي على قيد الحياة لما استطعت العزف أثناء حياته لكان انزعج، فهو رجل كلاسيكي وأكاديمي وأي أمر آخر غير مقبول، ولكن هذا ما جعل مني مؤلفاً يصل إلى الناس".

 


أثناء حديثنا عن منزل محمود خيرت والعائلة الفنية التي تركت آثاراً فنية وما زالت مستمرة في رسم خطوط موسيقية عريقة في الفن المصري والعربي والعالمي، سألت عمر خيرت إن كان يذكر أي قصص يرويها لنا من منزل جده، فكانت إجابته بأنه غادر المنزل وهو طفل ولم يكن واعٍياً للأحداث في ذلك الوقت، ولكن والده حفرها في مذكراته من خلال قصصه ورواياته. واختار أن يروي لنا قصة مميزة وطريفة عاشها مع عمّه عندما كان الأخير عميداً للكونسرفتوار، "أبو بكر خيرت كان شخصية جادة جداً وكنا نخاف منه، اتصل بي هاتفياً ذات يوم وكنت في حوالى سن الـ 13، وطلب مني الذهاب إلى مكتبه فشعرت بخوف شديد، وحينها كنت قد أجريت اختبار البيانو. عندما وصلت طلب مني أن أعزف له ما عزفته في الامتحان، ففعلت، وقال لي "برافو ولكنك سترسب". وسألني "هل تعرف لمَ؟ لأنني عمك"، وأعطاني 5 جنيهات ففرحت بها جداً ونسيت أمر النجاح والرسوب".
 

 

بين الأمس واليوم

مؤلفات وموسيقى عمر خيرت، على الرغم من أنها كلاسيكية إلا أننا نشعر أنها ليست غريبة عنا، نحن كعرب لم نعتد على الاستماع إلى هذا النوع من الموسيقى، إلا أن عمر خيرت جعل منها السهل الممتنع من خلال مزجها بالموسيقى الشعبية والعربية، فرسخها في أذهان الشعوب العربية. وهو ما يقوله بنفسه، فبرأيه الشعوب العربية تعلّقت منذ زمن طويل بفكرة وجود المطرب في الحفلات، حتى أنه بات غريباً عليهم أن يذهبوا للاستماع إلى موسيقى خالصة، ويرجع سبب ذلك بحسب تعبيره إلى غياب التواصل في ذلك الوقت مع الخارج بالشكل الموجود اليوم، حيث يستطيع اي إنسان الاستماع إلى موسيقى فيها توزيعات وتأليف، وهو أمر يدخل إلى الأذهان مع الوقت. وهو ما بدأه عمّه ونجح هو بإنجازه وتغييره، ويقول "نعم، نجحت الفكرة والدليل هو إقبال الناس على الاستماع إلى الموسيقى وهذا كان الهدف الذي أعمل عليه وما كان أبو بكر خيرت يعمل عليه، أن تكون لدينا موسيقى خالصة إلى جانب الأغنية لأنها أعمق، وهي شيء مهم بالنسبة للإنسان".
 

 

فسألته "وما أهميتها"؟ فقال "الموسيقى الخالصة مهمة لأذن الإنسان لكونها غير مباشرة، الكلمة توصل لك لما تريد معرفته بشكل مباشر ولكن الموسيقى تجعلك تتخيل ما تريد فهي تدخل إلى وجدانك من دون أن تشعر". وأضاف "لا يعني ذلك أن الأغنية ليست مهمة، فالحبال الصوتية أهم آلة موسيقية على الإطلاق، والأغنية هي قالب من قوالب الموسيقى ولكن الغناء بدائي لأنه يمشي على خط لحني واحد". ويرى عمر خيرت أن الموسيقى والغناء شهدا ولا يزالان يشهدان تطوراً إيجابياً.

واستطردت هنا بسؤاله إن كانت العهود الملكية حفّزت الموسيقى والفن في ذلك الوقت حيث تأسس الكونسرفتوار، فقال "بالطبع نعم، تأسست الأوبرا في ذلك العصر، ولكن كانت جميع فرق الأوركسترا مؤلفة من عازفين أجانب، لم يكن هناك من مصريين كثر بينهم، أما اليوم ففرق الأوركسترا مؤلفة من مصريين، وهو الأمر العظيم الذي حصل، دخلت الموسيقى الأكاديمية في حياتنا كشعوب عربية، وكان للملك فاروق اليد الكبرى في ذلك".
 


​​​​​​​لا بد أن نربط الموسيقى بالتطور التكنولوجي الحاصل اليوم، خصوصاً أن الشق السمعي هو جزء منها مع كل ما يتم إنتاجه من أدوات حديثة لهندسة الصوت وعالم الإنترنت الذي ربط الكرة الأرضية ببعضها، ومن هذا المنطلق سألته كيف غيّرت التكنولوجيا في الموسيقى، هل سهلتها؟ وأين أفسدتها برأيك؟ التكنولوجيا بحسب ما أجاب عمر خيرت سهّلت الموسيقى لمن درسها، أي أنها كانت في خدمة الدارس. وأضاف "على سبيل المثال سهّلت الكتابة والطبع، إذ كان المؤلف يحتاج لأشهر عدة ليكتب موسيقاه وبعدها ليجد من ينسخها، أما اليوم فيجد كل ما يحتاجه من خلال الإنترنت. التكنولوجيا استطاعت أن تضغط الوقت وتسرّع في تنفيذ الأعمال. ولكنها أفسدت موسيقى من هم غير واعين ولا يجيدون استخدامها".

موسيقى عمر خيرت

موسيقى عمر خيرت هي مزيج ما بين الموسيقى الكلاسيكية والشعبية الشرقية والموسيقى المصرية، أراد من خلال ذلك إيصال الموسيقى العربية إلى العالم بأسره، وكذلك الموسيقى الغربية والكلاسيكية بقالب جديد إلى العالم العربي، وبأسلوب سهل. ويقول في هذا الإطار "أنا أريد أن أوصل موسيقانا إلى العالم بطريقة فيها تزاوج بين الشرق والغرب في الفن، وهو ما كان ينادي به أبو بكر خيرت. كانت سمفونياته تضم أعمالاً شعبية وفلكلوراً وموسيقى مصرية في قالب سمفوني، أنا بسّطت الموضوع أكثر كي يكون شعبياً أيضاً ويتلقاه الأشخاص العاديون الذين لا يستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية، ويفهموا ما هي الموسيقى الأكاديمية من دون فلسفة".


​​​​​​​هذا النمط الموسيقي جعل جميع فئات المصريين يتشربون مقطوعاته وتدخل أذهانهم بسهولة، وهنا أطلعنا الموسيقار على السر "إنه الإحساس الصادق في الجملة الموسيقية الشرقية والتي تصل إلى الناس وتشعر بها، ولكن كل هذا مشغول في إطار عالمي مع البساطة في اللحن". وتابع "الموسيقيون يسمونه السهل الممتنع، هو ليس سهلاً في العزف ولكنه يصل مباشرة للمتلقي، وهي موهبة من رب العالمين".

 


أعمال عمر خيرت ارتبطت بمئات المسلسلات والأفلام والأعمال المرئية. منها، ليلة القبض على فاطمة، خلي بالك من عقلك، سكوت حنصور، عسل إسود وغيرها الكثير، ما رسّخ موسيقاه وأوصلها إلينا جميعاً. ويقول إنه كان في مرحلة ما بحاجة إلى إنتاج أعماله لكون التنفيذ مكلفاً إلى حد كبير، كما أنه وجد أن الموسيقى التصويرية هي الأقرب إلى الناس مع وجود التلفزيون والمسلسلات والسينما، فكانت هي الجسر الذي أوصل الموسيقى بسرعة للمجتمع والناس. برأي عمر خيرت أن هذه الأعمال المرئية تمثّل أحداثاً إنسانية يعيشها الجميع وهو يعمل عليها على هذا الأساس، "عندما أرى العمل للمرة الأولى يأتيني خاطر موسيقي وأشعر أنه المناسب للعمل، وأتابع على هذا الأساس، أبدأ بالجملة التي ستكون هي الفكرة العامة للفيلم، وهو ما أعتمد عليه إلى جانب الإحساس الصادق الذي يريد مؤلف القصة إيصاله، أكانت الفكرة رومانسية أم عمل إثارة أستطيع أن أعبّر عنه موسيقياً بما أراه وأشعر به".

الموسيقى اليوم

اختلفت الموسيقى في عصرنا اليوم عن السابق وتنوعت أشكالها وكثر المطربون والملحنون، فكان لا بد لنا من طرح السؤال التالي "كيف صنّف عمر خيرت الموسيقى اليوم في العالم العربي؟ وفي مصر"؟ فكانت إجابته صريحة كما اعتدنا، وقال "هناك اتجاهات محترمة وأخرى غير محترمة، وهذا أمر موجود في العالم كله. المهم أنه في النهاية لا يصح غير الصحيح". وفي وسط إجابته أتى على ذكر أغنيات المهرجانات التي نالت أخيراً قسطاً لا بأس به من الضجة السلبية، ولكن أيضاً أصبحت شائعة وخلقت جدلاً بعد قرار نقيب الموسيقيين في مصر هاني شاكر منعها. وتابع الموسيقار عمر خيرت إجابته قائلاً، "عندما قيل لي يجب إلغاء أغاني المهرجانات على سبيل المثال كان ردي بأن لا يمكن لأحد أن يلغي شيئاً. ما يجب فعله هو تأليف أعمال موازية في المقابل ترفع من شأن روح الإنسانية. يجب أن يتواجد الاتجاهان كي نرى الفرق بينهما وهناك ما سيبقى وما سيختفي".

افتتاحية العلا والأحلام والمشاريع

استقبلت مدينة العلا السعودية الموسيقار عمر خيرت مرتين ضمن حفلات شتاء طنطورة خلال عام واحد، فعزف لجمهور عريض أتى لمشاهدته من مختلف بقاع العالم، وفي المرة الثانية ألّف مقطوعة أطلق عليها "افتتاحية العلا". ويخبرنا عن هذه التجربة في المدينة التي يبدو أنها حظيت باهتمامه بشكل كبير، "عندما دعيت لإحياء حفل في العلا، بقيت هناك أياماً عدة وأعطتني الأجواء انطباعاً جميلاً، منظر الجبال والنقوش وعبق التاريخ، وهو ما أوحى لي بالمؤلفة. وتمكنت من التعبير عن هذا الجمال بالموسيقى وشعرت أن هذه الموسيقى مخصصة للعلا بمناظر جبالها وتاريخها. كل ما رأيته جعلني أشعر كأنني أشاهد فيلماً".

 


على الرغم من إنجازاته الكثيرة وموسيقاه التي باتت راسخة في ذهن كل عربي ومصري، وعلى الرغم من أنه عزف على أهم مسارح العالم في الشرق والغرب، إلا أن أحلام عمر خيرت لا تتوقف، فهو يطمح إلى المزيد من الفن والعالمية "أتمنى أن يعطيني رب العالمين الصحة لأسعد الجماهير العظيمة".

وختم عمر خيرت لقاءه مع "اندبندنت عربية" قائلاً، "أنا أشعر أنني سلكت طريقاً مهماً جداً للبشرية والعالم العربي، رأيت نجاحاً من خلاله وسأستمر بذلك طالما استطعت".

المزيد من ثقافة